46) البيئة بيئتان: بيئة طبيعية، من العناصر الصماء، في الأرض، وفي السموات، وبيئة اجتماعية، من جميع الأحياء، من لدن حيوان الخلية الواحدة - سواء أكانت خلية حيوان، أو خلية نبات.. والبيئة، مع ذلك، وحدة متحدة، الاختلاف بين أعلاها، وهو الإنسان، وأسفلها وهو ذرة بخار الماء، إنما هو اختلاف مقدار.. هذا يعنى أن أصغر جزيئات المادة، إنما هي على صورة الإنسان، وهي الإنسان، في طور من أطوار نموه، نحن لا نعرفه، كما أنا لا نعرف الإنسان، وهو في طور الحيوان المنوي.. نحن لا نعرفه إلا بعد أن يولد، بشرا، سويا، بعد مكث تسعة أشهر، وبضعة أيام، في الرحم..
إن البيئة - سواء أكانت طبيعية، أو اجتماعية - إنما هي مظهر الله العليّ.. لقد تنزلت الذات العلية من صرافتها إلى مراتب الأسماء والصفات.. تنزلت إلى مرتبة الاسم الله وبهذا الاسم قامت الأسماء والصفات والأفعال.. وأعلى هذه الأسماء: الله، الرحمن، الرحيم.. ثم يجيء ثالوث الأسماء: العالم، المريد، القادر.. وبهذا الثالوث، بصورة ندركها أكثر مما ندرك ثالوث الأسماء الأول، ظهر الخلق - ظهرت البيئة.. ونحن، إنما ندرك هذا الثالوث أكثر مما ندرك الثالوث الأول - الله، الرحمن، الرحيم - لأن عندنا فيه مشاركة، أكثر مما عندنا في الثالوث الأول.. فنحن، كل منا، قد خلقه الله عالما، ومريدا، وقادرا، في المستوى الذي يليق بنا.. وإنما برزت البيئة الطبيعية، والاجتماعية، إلى الوجود بهذه الأسماء الثلاثة.. فالله، تبارك، وتعالى، قد أحاط بها علما، وقد خصص الصورة الأولى منها إرادة، وقد جسدها، بالصورة التي تؤثر على حواسنا، وعقلنا، قدرة.. فهو بالعلم أحاط بالمخلوقات، وبالإرادة خصص صورتها المحددة، وبالقدرة أبرز هذه الصورة في عالم الاجساد.. هذه صورة خلق الله.. وتشبهها صورة خلق الإنسان.. فالنجار، تكون في عقله صورة للتربيزة التي يريد صنعها - تكون في علمه، بصورة عامة.. فإذا أخذ قلما، وورقة، فرسم ارتفاعها، وأبعاد قرصتها، وحجم أرجلها، فقد خصص صورة العلم، بالإرادة.. فإذا أخذ أدوات نجارته، وبدأ في تجهيز أجزاء التربيزة من الخشب الخام الذي في ورشته، إلى أن جمعها على بعضها، فقد أبرز التربيزة، بالقدرة - أحاط بالتربيزة بالعلم، وخصصها بالإرادة، وأبرزها بالقدرة.. هذا هو المعنى المقصود من قول المعصوم: ((إن الله خلق آدم على صورته..)) وقد سبقت إلى ذلك الاشارة.. فالله، تبارك، وتعالى، حي، وعالم، ومريد، وقادر، وسميع، وبصير، ومتكلم.. وهكذا قد جعل الإنسان حيا، وعالما، ومريدا، وقادرا، وسميعا، وبصيرا، ومتكلما.. الإنسان يعلم بالعقل، ويريد بالهمة، ويقدر بالعضلات.. ولكن الله، تبارك وتعالى، لا يفعل بالجارحة، وإنما يفعل بالذات.. فهو تبارك، وتعالى، يعلم بذاته، ويريد بذاته، ويقدر بذاته.. وهو قد خلق العالم بثالوث الأسماء – العالم، المريد، القادر.. يمكن أذن أن نقول: إن العالم هو تجسيد علم الله.. يمكن أن نقول: إن العالم هو تجسيد ذات الله، في مستوى التنزل، في منازل القرب، من عقل الإنسان – في مستوى القدرة – وذلك من أجل أن يفهم الإنسان.. ((اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم..)) علمه بقلم القدرة.. وذلك القلم الذي أبرز المعاني إلى عالم المباني – عالم الأجساد.. تحرك العلم إلى القدرة، وتحركت بينهما، الإرادة.. وما دمنا نتحدث عن الفتق، بعد الرتق، في الخلق، فلنواصل تعبيرنا في أمر تنزلات الأسماء العلية.. فقد كانت الإرادة والقدرة مرتتقتين، في العلم، فانفتق العلم عن القدرة، وهي تمثل النقيض، لأنها في جانب التجسيد، وتحرك البندول - وهو الإرادة - بين العلم والقدرة.. فالإرادة صفة وسطى، من أعلاها العلم، ومن أسفلها القدرة، وهي تمثلهما، كلتيهما، كما يمثل، كل وسط، الطرفين اللذين يكتنفانه.. وعلى هذا يمكن القول بأن علم الله تبارك وتعالى قد خلق العالم - البيئة الطبيعية والاجتماعية - بالإرادة.. البيئة مظهر إرادة الله.. والإرادة "ريدة" والريدة عندنا نحن السودانيين - محبة.. العالم "محبة" والله "محبة" ولم يجعل الله في العالم بغضا وعداوة إلا لحكمة تعليمنا نحن.. والتعليم يبدأ من الجهل - وكذلك بدأنا نحن بني البشر نعلم من الجهل ونسير بتسيير الله لنا من الظلام إلى النور - من الجهل إلى العلم.. وما خلق الله الظلام إلا لنتعلم نحن بالضد.. قال تعالى: ((ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون)) خلق الظلام لنعرف النور، وخلق الشر لنعرف الخير، وعندما نفهم، لا يبقى إلا العلم، ولا يبقى إلا الخير: ((ما يفعل الله بعذابكم، إن شكرتم، وآمنتم.. وكان الله شاكرا عليما..)) والله هو الذي يسيرنا من الجهل إلى العلم ومن الظلام إلى النور: ((الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور..)) ((ألر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى سراط العزيز الحميد.. )).. ((ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن اخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور..))
47) لقد خلق الله تبارك، وتعالى، الإنسان ليكون عالما، وحرا، وحيا، حياة لا موت فيها، وهكذا والاه بالتعليم، وفرض عليه العلم فرضا: ((يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه..)). أردت أو لم ترد!! فإنه ما من ملاقاة الله بد!! ولا تكون ملاقاة الله إلا بالعلم.. ولقد خلق لنا الله العالم لنتعلم منه، وفيه.. وقد سيرنا إليه بالعالم - بالبيئة تسييرا.. لقد خلق الله العالم كله مطيعا، ومجبولا على الطاعة.. وخلق الناس وأعطاهم حق المعصية، والطاعة، ليصلوا إلى الطاعة عن طريق العلم، والحرية.. ((ألم تر أن الله يسجد له، من في السموات، ومن في الأرض، والشمس والقمر، والنجوم، والجبال، والشجر، والدواب، وكثير من الناس، وكثير حق عليه العذاب، ومن يهن الله فما له من مكرم، إن الله يفعل ما يشاء؟؟)).. ((وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب)).. هذا لمكان الطاعة، والمعصية التي متع الله، تبارك، وتعالى، بها الإنسان.. كل الوجود مسلم لله: ((أفغير دين الله يبغون، وله أسلم، من في السموات والأرض، طوعا، وكرها، وإليه يرجعون؟؟)). هذا هو الإسلام العام، يخضع له كل العالم، ولا يشذ عنه شاذ.. هذا هو إسلام الأجساد.. وهناك الإسلام الخاص، وهو إسلام العقول، وفيه تقع المعصية، وتقع الطاعة، ولذلك قال، في الآية السابقة، بعد أن ذكر سجود كل شيء لله، قال، عن الناس: ((وكثير من الناس، وكثير حق عليه العذاب))، إشارة إلى الطاعة، والمعصية.. وليس للإسلام العام - ليس بالطاعة في الإسلام العام عبرة عند الله - وإنما العبرة بالطاعة في الإسلام الخاص.. العبرة عنده بالطاعة طوعا، واختيارا، لا كرها واقتسارا.. ((ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله، وهو محسن، واتبع ملة إبراهيم حنيفا، واتخذ الله إبراهيم خليلا؟؟)). وروح الآية في عبارة ((وهو محسن)) أي مختار، ومدرك، لإسلام وجهه لله..
محمود محمد طه
السودان 30 / 10 / 1984م