إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الفكرة الجمهورية هي الإسلام

المرء عدّو لما يجهل


فاذا استقر الأمر على الصورة التي أوردناها، وهو لا بد مستقر، لم يبق هنالك من سبيل لأن ينكر الجاهل معرفة العارفين، لكونه لم يسمح بهذا من قبل، أو لكونه لم يقرأ هذا فيما قرأ من علوم الشريعة، فعلم الله واسع، كما يقول اهلونا، وما لم تعرفه اليوم، فستعرفه غدا، وكل الأمر انّما يجيئك بالتزامك للطريق النبوي في تقليدك النبي الكريم، في اسلوب عبادته، وفيما تطيق من اسلوب عادته، ولكن المرء عدو ما يجهل، هذه بداهة فالفرد منّا لا يحب أن يظهر له جهله، ولذلك فإنّ النفس، وبحكم ميولها البدائية في الدفاع عن نفسها، تجد نفسها مندفعة الى المعارضة، لتحمي نفسها .. الذكي الحصيف من فطن الى هذا.. وهذا ما من أجله امتلأ القرآن بـ (ويل للمكذبين)، ذلك بأن التكذيب سهل، وهو قريب من طبيعة النفس، ومعلوم انّ التصديق ولاية صغرى. قال صلّى الله عليه وسلّم: (انّ من العلم كهيئة المكنون، لا يعرفه الاّ أهل العلم بالله، فإذا تحدّثوا به لا ينكره الاّ أهل الغرّة بالله).

لا تنكروا ما لا تعلمون


ولذلك فإنّ على المرء الاّ ينكر ما لا يعلم، ريثما يعلم، وذلك لسبب بسيط، وهو انّه لا يمكن ان يكون قد احاط بكل العلم، لينصب من نفسه حكما على الناس، وعلى الأشياء.. والعلم في الدين – التوحيد – انما هو علم ذوق، كما يقول الصوفية، وهو علم يجيء نتيجة للرياضة الروحية في الطريق النبوي، ولذلك فإنّ معرفة أسرار الالوهية تتطلّب استعدادا لا يكون بغير العبادة المجوّدة.. فان انت لم تفهم ما يقال لك من اسرار المعارف، ودقائقها، في التوحيد، فاتهم نفسك، واجلس، كما سبق ان قلنا في كتبنا لتكمل نقص علمك بالدين.. ولا تتجه للإنكار فإنّ ذلك دلالة على نقص العقل، وعلى الغرور، فلا يمكن لشخص جالس على هينته، لا تجربة له في العبادة، أو قل في الذوق، ان ينتظر انهمار المعارف عليه، كما لا يمكن ايضا لشخص بالغا ما بلغ من المعرفة ان يعتقد انه لا حاجة به الى المزيد من المعرفة، ألم يقل جلّ من قائل لنبيه على جلالة قدره (وقل ربّ زدني علما)؟!
ان العلم بدقائق اسرار الألوهية، والذي هو تكليفنا، أمر لا يقع الفراغ منه.. والناس لا يستوون في التحصيل، بحكم استعدادهم، وبحكم ملكاتهم، ومواهبهم، وبحكم بلائهم في اتباع الطريق النبوي، وهذا ما من أجله قال، جلّ من قائل: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون!؟) وهو ما من أجله قال أيضا: (وفوق كل ذي علم عليم) أليس هذا أمرا بينا؟!
كان الصوفية، على خلاف الفقهاء، لا ينكر بعضهم على بعض، في أغلب أحوالهم، وذلك لأن لهم تجربة في الذوق أعطتهم طرفا من الأمر، وفتحت بصائرهم بصورة جعلت أحدهك يتصوّر ما لا يعلم، فيؤمن به، ريثما يعلمه على مكث، وتلبّث، عن طريق منهاج العبادة، خاصة ان كان ما جاءهم تسنده النصوص القرآنية، وتشير اليه الشواهد المختلفة..

انغلاق الطرق الصوفية


نحن لا نستغرب الإنكار عند الفقهاء، فهم قد جبلوا عليه، بحكم فهمهم الخاطيء للدين، وبعدهم عن الأخذ بالعزائم في منهاج العبادة، والمعاملة، في طريق النبي الكريم، ممّا حرمهم فرصة تذّوق رقائق، ودقائق المعاني، وانما نستغرب الإنكار عند المتطرّقين، وبخاصة في زماننا هذا، الأمر الذي يدل دلالة واضحة على انغلاق الطرق الصوفية، وانقطاع المدد حتى اصبح الفقه يدرس في كبريات بقع التصوّف، وأصبح الجالسون على (السجاجيد) يعارضون مثل ما جاء به الجمهوريون ممّا كان كبار مشائخ التصوّف يهيمون به، ويحلمون به، ويترقبونه..
انّ فكرة الجمهوريين هي الوارثة للتصوّف اليوم، فهي الطريق النبوي الصرف – بلا زيادة ولا نقصان – فالمدد اليوم لا يوجد في غيرها، أبدا!! وهي هي الدين العائد والذي قال عنه نبينا الكريم: (بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء!! قالوا: من الغرباء يا رسول الله؟؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد اندثارها!!).. ونحن نحب للناس، وبخاصة المتطرّقين، الاّ تصدهم غرابتها عنها، فالغرابة موعودة بنص الحديث النبوي..