إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الكتاب الأول من سلسلة رسائل ومقالات

أفي الله شك؟ رد على الكاتب الشيوعي باكستكي بابوشي


السيد سعيد أيوب بمدني
يورد السؤال الآتي:-
((قرأت لكاتب شيوعي يدعى باكتسكي بابوشي رأيا غريبا فهو يقول لو كان الله موجودا لما سمح لنا أن ننبذ الدين.. فهل تتكرمون بالرد على ضلالة هذا الكاتب؟؟ ))
فأما أنا فإن إنكار الشيوعيين لوجود الله لا يزعجني، وما ذاك إلا لأنه إنكار لا يقوم على علم، ولا على عقيدة، ولا على فكر.. هو لا يقوم على علم لأن العلم المادي، التجريبي، لا يبحث في ذلك، ولا يرى لنفسه القدرة على البحث فيه.. وهو لا يقوم على عقيدة لأن كل العقائد، عند جميع البشر، حيث وجدوا، قامت عن شعور عميق بوجود قوة، وراء كل القوى التي نراها، ونحسها فشيدت المعابد في جميع الأديان، على نحو قريب من قريب، حتى عندما لم تكن هناك اتصالات بين السلالات المختلفة، في الأماكن المختلفة، من هذا الكوكب.. أقول هذا وفي ذهني ما وجد من معابد وهياكل في أمريكا الوسطى، عندما اكتشفت أمريكا لأول مرة في التاريخ، في أواخر القرن الخامس عشر..
وهو لا يقوم على فكر لأن أبسط التأمل يدل على أن هذا الكون العجيب، الدقيق، لا بد له من موجد، وما ذلك إلا لأننا في حياتنا اليومية، ما نعرف أمرا من الأمور التي نرتفق بها قد خلق نفسه، وأوجدها، من غير موجد.. فليس هناك خبز نأكله في يومنا قد صنع نفسه بنفسه، وأعدها لنا.. وليس هناك كرسي، أو تربيزة، أوجدت نفسها بنفسها، حتى يجوز لنا أن نظن أن السموات، والأرض وما بينهما، خلقت من غير خالق.
فالشيوعيون لا ينكرون وجود الله عن علم، ولا عن عقيدة، ولا عن فكر، لأن كل أولئك يهدي إلى وجود الله، ولا يهدي إلى إنكاره..

أكلت حنظلة وخافت من البطيخة


كلما رأيت كلمة صادرة عن شيوعي، فيها إنكار لوجود الله، تذكرت المثل السوداني: ((أكلت حنظلة، وخافت من البطيخة)).. وهو مثل يضرب للسائمة في الخلاء ترعى الكلأ، فإذا وقعت على حنظلة فأكلتها، وأمضتها مرارتها، نفرت من كل شيء يشبهها، حتى البطيخ على طيبته، ولذاذته، وما ذاك إلا لشبهه، في الظاهر، بالحنظل.. وكذلك الشيوعيون، فإنهم، حين ثاروا على القيصرية، والكنيسة التي كانت تساندها، والتي كان لرجالها نفوذ عظيم في نفوس الشعب، وحين أرادوا أن يحرروا الشعب من هذا النفوذ البغيض، المغرض، المضلل، وهم مندفعون في حماس الثورة، لم يستطيعوا أن يميزوا بين رجال الدين الفاسدين، وبين الدين نفسه، فوصموا كليهما وقالوا: ((الدين أفيون الشعوب)) وهو حيلة إبتكرها الأذكياء ليصرفوا بها عامة الشعب، من البسطاء، عن ملاذ الحياة، بما يمنونهم من ملاذ مقبلة، وذلك ليخلوا لهم هم الجو، فيستمتعوا بأطايب الحياة وحدهم.. ثم أن الشيوعيين إندفعوا في هذا الرأي الضحل، واشتطوا في معاداتهم للدين حتى لقد جعلوا من الشيوعية نفسها دينا جديدا، فقالوا: ((لا إله والكون مادة)) يقولون هذا في مقابل قول المتدينين من: ((لا إله إلا الله)) فإن أنت سألت ما هي المادة؟؟ أجابك العلم الحديث، وخاصة بعد تفتيت الذرة، ((المادة بصورتها التي تدركها حواسنا لا وجود لها البتة، وإنما هي طاقة في الفضاء، دافعة، وجاذبة، فإن أنت سألت عن ماهية هذه الطاقة إعتذر لك هذا العلم الذي به يتطاول الشيوعيون بأنه لا يدري، ولا يهمه أن يدري، وإنما يهمه أن المادة التي تدركها حواسنا موجودة وجودا يؤثر على معداتنا، وأجسادنا.. وهذا حسب الشيوعيين.. فإن أنت ذكرتهم بقولة المسيح الخالدة: ((ليس بالرغيف وحده يحيا الإنسان)) أخبروك أن هذا ((هو أفيون الشعوب)) وأنه لا يجوز على ذكاء كذكائهم، حين جاز على ذكاء عامة البشر..

الدين غير رجال الدين


فانت ترى، من هذا الإستقراء المقتضب، أن الشيوعيين جهلوا جهلة منكرة، فعجزوا عن التمييز بين الرجال الفاسدين الذين استغلوا الدين لأغراضهم الخاصة، وبين الدين كفكرة إنسانية أصيلة صحبت الإنسانية من بساطتها الأولى، وظلت في جميع الحقب، تبحث عن حقيقة الحقائق المحجبة بحجب الأنوار – تبحث عن ((الله)) ثم أن الشيوعيين لم يكتفوا بهذا الجهل، وإنما حاولوا أن يجعلوا من الجهل فضيلة، فأنشأوا عليه مذهبا يقوم على إنكار ما جهلوا، ويفلسف ذلك الإنكار.. وصاحبك الذي نحن الآن بصدد حديثه يتيح لنا مثالا وافيا من التفكير الشيوعي، فهو يقول: ((لو كان الله موجودا لما سمح لنا أن ننبذ الدين)).. فهو يقيس الله، تبارك، وتعالى، بما يعرفه من صفات زعمائه، من أمثال إستالين، الذين لا يسمحون بالرأي المعارض.. وما علم أن الله، تبارك وتعالى، لا يعارضه أحد، لا الملحد حين يلحد، ولا العاصي حين يعصي، وإنما بإرادته ألحد من ألحد، وعصا من عصا، وآمن من آمن، والله وراء كل أولئك محيط.. فهو، تبارك، وتعالى، يقول: ((وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون)).. فالرجس، وهو الكفر، مضروب على الكفار، بإرادة الله المحيطة، التي سيرت الخلائق، من الذراري إلى الدراري، ثم لم يخرج عن سلطانها شيء.. ولقد أراد الله الكفر لعباده لحكمة تعليمية، ريثما ينقلهم من العموم إلى الخصوص.. أو قل: من الإرادة إلى الرضا، كما يعبر الله، سبحانه، وتعالى: ((إن تكفروا فإن الله غني عنكم، ولا يرضى لعباده الكفر.. وإن تشكروا يرضه لكم، ولا تزر وازرة وزر أخرى.. ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون.. إنه عليم بذات الصدور)) ثم اقرأ قوله تعالى لنبيه الكريم: ((إتبع ما أوحي إليك من ربك.. لا إله إلا هو، وأعرض عن المشركين * ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا، وما أنت عليهم بوكيل))
فجهل صاحبك بالله بنى عليه إنكار وجوده وليس هذا مثالا منفردا وإنما هو صورة من التفكير الشيوعي.. ألا ترى معي أن الشيوعيين يجهلون، ثم هم لا يكتفون بالجهل، وإنما يحاولون أن يجعلوا من الجهل فضيلة؟؟..
وفي الختام إليك مني أزكى سلام..

محمود محمد طه
جريدة أنباء السودان