حول مطلع النور تعقيب على الأستاذ الجليل عباس محمود العقاد
كوستي في 1966/10/2م
عزيزي محمد الحسن الطاهر،
تحية
كنت قد وعدتك بأن أسلمك التعليق على كتاب العقاد ((مطلع النور))، أو ((طوالع البعثة المحمدية))، قبل سفري إلى الخرطوم.. ولم يكن الفراغ الذي عندي كافيا للإطالة في تعقب الكتاب.. وما أرى أيضا كبير ضرورة لتعقبه، لأنه، في بابه، جميل.. ويحوي الكثير النافع من قوة الفكر، وجمال الأسلوب.. وهو بذلك يستحق القراءة الجادة، فإنه كأي من محاولات العقاد، عليه رحمة الله، في الكتابة في أمور الدين، لا يكاد الإنسان يخطئ فيها الإجتهاد المخلص في الوصول إلى أصول المسائل.. وما يؤخذ على كتاب العقاد، في هذا الباب، أقل مما يؤخذ على كتاب كثيرين، من علماء الدين.. وأكبر ما يؤخذ على هذا الكتاب إنما هو محاولة معرفة أصول الدين عن طريق إدمان الإطلاع على المنقول، وإمعان الفكر فيه..
الأصول في الصدور
إن أصول الدين من علم الصدور، وهو العلم الذي ما يبرزه إلا تجويد العمل بعلم المنقول..
إن ديننا ليس بدين قراءة، وإنما هو دين عمل.. العلم الذي نحتاجه إنما هو العلم الذي يحتاجه العمل ليكون عملا صحيحا.. فالعلم في ديننا دائما رائد العمل – هو دين علم، وعمل بمقتضى العلم.. ((إن الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، يهديهم ربهم بأيمانهم، تجري من تحتهم الأنهار، في جنات النعيم * دعواهم فيها سبحانك اللهم، وتحيتهم فيها سلام، وآخر دعواهم: أن الحمد لله رب العالمين)).. كأنه قال يهديهم ربهم بعلمهم.. فأنت، في منطقة العبادة، يجب أن تعرف، من العلم، ما لا تصح العبادة إلا به، ثم تعبد.. وأنت، في مرتبة العبودية، يجب أن تعرف، من العلم، ما لا تصح العبودية إلا به، ثم تتخلق.. وأي علم بلا عمل فإنما هو علم إبليس..
علم أصول الدين علم صدور.. ومن زعم غير ذلك أنفق العمر في تيه لا يجني منه غير القشور، ويظنها لبابا.. ((اتقوا الله، ويعلمكم الله)).. ((اتقوا الله))، أي أعملوا بأوامر الشريعة، ونواهيها.. ((ويعلمكم الله))، يعني علم الحقيقة، وهي أصول الدين.. وقولة المعصوم: ((من عمل بما علم، أورثه الله علم ما لم يعلم))، يعني من عمل بما علم من الشريعة، علمه الله ما لم يعلم من الحقيقة.. فأصول الدين، كما قلنا، هي العلم الذي تقوم عليه حكمة الأمر، والنهي.. فإذا كتب، في أصول الدين، كاتب كالعقاد، عليه رحمة الله، فإنه لا يبلغ منها طائلا يكون فيه غناء ، لطالب غناء.. وكتاب العقاد، رحمه الله، يتطرق إلى أسرار البعثة المحمدية فيقصر أن يبلغ منها القول الفصل..
العقاد يقارن الإسلام بما سبقه من وثنيات، ومن ديانات، ويحاول أن يجعله من عنصر غير عنصرها، فيقول: ((ختمت أيام هذه النبوءات جميعا في بني إسرائيل، قبل البعثة الإسلامية بنحو تسعة قرون، لم تتغير خلالها نظرة الناس عامة، وبني إسرائيل خاصة، إلى النبوءة الدينية، ولم يفهموا النبوءات الأولى، وما لحق بها، غير الفهم الذي عهدوه، فلما ظهرت النبوءة الإسلامية لم تكن تكرارا لتلك النبوءات، ولا تطورا فيها، بل كانت ((تنقية)) لها، من كل ما لصق بها من بقايا الكهانات، والدعوات.. وجاءت بمعنى النبوة، كما ينبغي أن تكون، ونفت عنها ما ليس ينبغي لها، من شوائب الأوهام، وأولها أنها مرصد للحوادث، يحمي الطريق، أو مكتب للتأمين يعارض القوم على الأمان من الأخطار))..
النبي يعلم الغيب
ثم يقول: ((ليس مهمة النبي أن يعلم الغيب، ((إنما الغيب لله)) .. فهذه الفقرات التي أخذت عفوا من الكتاب تدل على القصور، في فهم الدقائق الدينية، الذي يتورط فيه كل من يلتمس حقائق الدين في النقول.. ويهمل الصدور..
إن فكرة التوحيد ترشدنا إلى أن الإسلام هو الدين، منذ بدء الدين، ولكنه اتخذ صورا مختلفة، فكان عند الموحدين، في شتى الصور، وشتى الأمكنة، وشتى الأزمنة.. ونبوءات بني إسرائيل، منفردة، والتوراة مجملة، والإنجيل، كل أولئك مظهر للإسلام في الأزمنة، حسب مقتضيات، وحكم، الوقت، ذلك لأن الله يبدي ذاته، لخلقه، على ألسنة رسله، على قدر طاقات الخلق.. وتتطور النبوءات بتطور فهوم الناس.. فالإسلام، الذي جاء كماله في الإسلام، جاءت بدايته قبل آدم.. وإنما دخل بآدم مرحلة التوحيد البدائية، واطرد التطور، وهو لا يزال سائرا في مراقي إكتماله، ولن ينفك إلى أبد الآباد.. والعقاد لا يريد للنبوءة الإسلامية أن تكون تطورا للنبوءات السوالف، وإنما يريدها أن تكون ((تنقية)) لها، وهو إنما إختار هذا التعبير لإعتقاده أن النبوءة الإسلامية اكتملت، وهي صورة في نهاية الصور، وليست مرحلة من مراحل التطور المتصل الحلقات، من قبل ومن بعد.. ونحن لا نكره له أن يعلم أن النبوءة المحمدية ختمت النبوءات، بمعنى أن الأرض لا تحتاج إلى إلمامة ملك الوحي بأمر مستأنف، ولكننا نكره له، وللناس، أن يظنوا أن الإسلام غير محتاج إلى فهم جديد.. فإن مثل هذا الظن خطأ جسيم، لم يسلم من التورط فيه كاتب إسلامي على إطلاق الكتاب المسلمين..
ما هو الغيب
وقولة العقاد: ((ليست مهمة النبي أن يعلم الغيب)) أدل على الجهل من سابقتها.. وهي، وحدها، تكفي لوزن الكتاب كله، وذلك لأن النبي لم يسم نبيا إلا لأنه نبئ بالغيب، وينبئ عن الغيب.. والغيب في حقيقته العليا، وفي أبعد منازله منا إنما هو الله – فالله، تبارك، وتعالى هو غيب الغيوب..
والغيب ، فى أدنى منازله منا، هو الثانية المقبلة، لأنا لا نعلم ما خبأ الله لخلقه فيها من تصاريف .. والمخبوء، من حكمة الله فى فعله، هو أيضا غيب ، وهو أيضا الله - هو الله فى تعينات الفعل ..
وعن الغيب الذي هو ذات الله، جاء قوله تعالى: ((قل لا يعلم، من في السموات والأرض، الغيب، إلا الله، وما يشعرون أيان يبعثون.. )).. وهذه معناها ((لا يعرف الله إلا الله))، وهي عبارة مشهورة عند السادة الصوفية..
وعن الغيب الذي هو كمون الحكمة في الفعل، جاء قوله تعالى: ((قل لا أملك لنفسي نفعا، ولا ضرا، إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير، وما مسني السوء)).. ومعناها لو كنت أعلم دقائق حكمة الله في فعله بخلقه، علم يقين، لكان عملي كله خيرا، ولما تعرضت للشر، ولما مسني، إذن السوء..
فمهمة النبي أن يعلم الغيب.. ولكن كل النبوءات تقصر عن مدى مهمتها، ذلك لأن مهمتها غير متناهية.. وكل نبي يعلم الغيب، ولكن ما يعلمه، بالنسبة لما يجهله، كالعدم بالنسبة للوجود..
كل ما قلته في كتاب العقاد هذا – وهو كثير جدا في قدره، وإن كان قليلا في مقداره – لا يجعل هذا الكتاب فاقد القيمة، ولا غير مقروء منك، وإنما يضعه في موضعه، من أنه لا يبلغ من الأصول مبلغا يغني أمثالك من طلاب الأصول.. فأرجو لك قراءة موفقة، وممتعة، لهذا الكتاب اللطيف، على أن تعرف له حدوده، من بداءة الأمر فلا تطلب منه ما ليس له..
محمود محمد طه