وسيلة تحقيق الأصالة
ان الأصيل هو الحر، لأنه هو المتحقق بالعبودية لله، والعبودية لله هي حرية عن كل ما عداه..والأصيل بالمعنى الذي تحدثنا عنه هو الذي يتعرف على نفسه، ويفجر طاقاتها، ومواهبها، ويوحد ذاته، فيحقق السلام مع نفسه، ومع الآخرين.. ووحدة الذات هذه تظهر في وحدة الفكر، والقول، والعمل، فهو يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، ثم لا تكون عاقبة عمله هذا الا خيرا بالناس، وبرا بهم.. ومن يكن في هذا المستوي، يكن فوق قوانين الجماعة، لأنه بفضل الله، ثم بفضل تربيته ورياضة نفسه، أصبح من المحسنين، المجودين للسلوك.. فقانونه هو المستوى الرفيع من العلم، ومن القيم التي يلزم بها نفسه.. وهذا المستوى من كمال الشمائل، لا يتم الا على قاعدة من المجتمع الكامل.. وهذا المجتمع هو ما نبشر به نحن في دعوتنا لتطبيق أصول القرآن، مستوى السنة.. فهذا المجتمع يقوم، في قاعدته، على العدل، والمساواة.. العدل والمساواة، في الإقتصاد، وهو الإشتراكية.. والعدل والمساواة، في السياسة، وهو الديمقراطية.. ثم كنتيجة للعدل والمساواة في الإقتصاد والسياسة، تأتي العدالة الإجتماعية، وهي تعني محو الطبقات.. فالعدالة الإجتماعية هي اثر مباشر من آثار التربية الفردية الكاملة.. وهذا المجتمع الكامل تقوم العلائق بين أفراده، في القاعدة، على القانون الدستوري.. والقانون الدستوري، في الإسلام، هو القانون الذي يوفق بين حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، وحاجة الجماعة إلى العدالة الإجتماعية الشاملة.. فهو لا يضحي بالفرد في سبيل الجماعة، ولا يضحي بالجماعة في سبيل الفرد.. فهو، حين يطبق، يحقق، بكل جزئية منه، مصلحة الفرد، ومصلحة الجماعة، في آن معا، وفي سياق واحد..
وتحقيق الأصالة، إلى جانب المجتمع الصالح، بل وقبل المجتمع الصالح، لا بد فيه من منهاج سلوك فردي.. هذا المنهاج هو منهاج السنة، هو طريق محمد.. فتقليد النبي في اسلوب عبادته، وفي ما نستطيع من اسلوب عادته، هو الوسيلة الواسلة لتحقيق أصالة كل أصيل.. وتقليد النبي هو الوسيلة لتحقيق الأصالة، لأنه تقليد لنموذج الأصالة الكامل، وقدوتها.. فتقليد النبي هو وسيلة للتأسي به في أصالته.. وهو تقليد لنفس انسانية كاملة، توفرت لها عناصر الصحة الداخلية، فتوحدت، واتسقت قواها الباطنية، وتحررت من الأوهام، والأباطيل، ومن القلق، والخوف العنصري، البدائي، الساذج.. فتقليد هذه النفس الكاملة، تقليدا متقنا، يقوم على الأدب، وعلى الفكر، ويفضي بكل رجل، وكل امرأة، إلى احراز وحدة ذاته، ونضج فرديته، وتحرير شخصيته من الإضطراب، والقلق الذي استشرى في عصرنا الحاضر).. فالتقليد المجود للنبي الكريم هو الوسيلة لتحقيق فردية كل فرد، داخل اطار التقليد..
ومنهاج الصلاة بالذات هو الوسيلة العملية، والعلمية، لتحقيق اصالة كل اصيل مجود للتقليد.. فالصلاة هي وسيلة تحقيق الأصالة، لأنها هي وسيلة تعريف كل فرد بنفسه، وهي الوسيلة التي يحقق بها كل فرد وحدة بنيته، بتوحيد الفكر، والقول، والعمل، وذلك لأن الصلاة هي فكر، وقول، وعمل، فهي من ثم تعمل على توحيد هذا الثالوث.
ولقد فرضت الصلاة في قمتها في ليلة المعراج، في مقام (ما زاغ البصر وما طغي) حيث تم للنبي الشهود الذاتي، وهو شهود وتري (فردي)، به أصبح النبي وحدة ذاتية، في وحدة مكانية، في وحدة زمانية، وهذا هو التوحيد الكامل الشامل، الذي به تتم مشاهدة الواحد، وهذا هو الصلاة في قمتها.. وفي مقام (قاب قوسين او أدنى) وهو مقام شفعي، فرضت الصلاة الشرعية، وجعلت وسيلة العروج إلى الله.. فهي وسيلة عروج النبي بالأصالة، ووسيلة عروج أمته بالحوالة، والتبعية – أي بالتقليد..
والسبب الأساسي في أن صلاة التقليد، الصلاة الشرعية، هي وسيلة تحقيق الأصالة والفردية، هو ان جوهر هذه الصلاة انما هو الحضور، او الصلة بالله التي تتم فيها.. وهذا الحضور، او الصلة، هو الأصالة والفردية.. فان قلوب العباد في صلتها بالله، وحضورها معه، لا تكون على شاكلة واحدة، ولا في مستوى واحد، وانما كل فرد يختلف في هذا الحضور عن الفرد الآخر، حتى ولو كانوا يؤدون صلاة واحدة، خلف امام واحد.. وهذا الحضور هو جوهر الصلاة، وقيمتها، وما هيئة الصلاة إلا وسيلة لتحقيقه.. فكأن الصلاة تقوم على مستويين: هيئة، وحضور داخل الهيئة.. فالهيئة هي جسد الصلاة، وقشرتها، والحضور هو روحها، والمطلوب ان تنمو هذه الروح حتى تملأ القشرة.. وهذا الحضور هو صلاة الأصالة.. وعن هذين المستويين للصلاة قال المعصوم: (الصلاة معراج العبد إلى ربه).. وقال: (الصلاة صلة بين العبد وربه).. فهذه الصلة هي الحضور في الصلاة، وهي جوهر الصلاة وقيمتها، فاذا انعدمت أصبحت الصلاة باطلة، ولا قيمة لها، وفي ذلك يقول المعصوم: (رب مصل لم يقم الصلاة) هو مصل لأنه يؤدي هيئة الصلاة، وهو لم يقم الصلاة لأنه لم يحضر فيها، فإقامة الصلاة ليست مجرد تأدية الهيئة، وانما هي تأدية الهيئة مع تجويد الحضور.. وفي حديث آخر قال المعصوم: (رب مصل لم تزده صلاته من الله الا بعدا).. وذلك لأنه في صلاته أساء الأدب مع ربه بالغفلة عنه، والانشغال بغيره، وهو واقف بين يديه، ولذلك استحق الطرد والبعد.. فصلاة الصلة – صلاة الأصالة – هي الحضور في صلاة التقليد.. فهذا الحضور هو فرديتك، وأصالتك، فان أنت اهتممت به، ورعيته، وتوخيت الوسائل المعينة على تحقيقه، عملت على إنضاج شخصيتك وتكميل حياتك، وتحقيق ذاتيتك وفرديتك، وهذا هو معنى الأصالة داخل التقليد.. فالفردية والأصالة تبدأ عند العابد المجود منذ البداية، هي تبدأ من مجرد محاولة الحضور في الصلاة، ثم تنمو، وتزداد، بازدياد هذا الحضور.. والكمال هو أن تملأ قشرة الصلاة جميعها بالحضور.. ولمعرفة الوسائل المعينة على تجويد الصلاة، وتحقيق الحضور فيها، لا بد من الرجوع إلى كتبنا التي اصدرناها عن الصلاة، خصوصا كتاب: (رسالة الصلاة).. وكتاب: (تعلموا كيف تصلون).. والأمر الذي يهمنا توكيده هنا هو ان الحضور في الصلاة هو الأصالة، وهو الفردية، وهو الذي به يتحقق العلم بالله، وتكتمل حياة الفكر، وحياة الشعور..