إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

جنوب السودان
المشكلة!! والحل!!

الجنوب قبل الفتح الإنجليزي المصري


هنالك القليل الذي يعرف عن جنوب السودان قبل الفتح التركي المصري في 1820.. ويعتقد أن حضارة (كوش) التي كانت في الشمال (750 – 300 ق. م.) كان لها بعض الأثر على الجنوب، وكذلك الحضارة المصرية القديمة.. وعندما انتشرت المسيحية والإسلام في شمال السودان كان لهما أثر ضعيف على الجنوب بسبب وعورة المنطقة، وصعوبة المواصلات.. وعندما قامت مملكة الفونج في سنار في أوائل القرن السادس عشر الميلادي بدأت بعض المعلومات تصل إلى الخارج عن الجنوب.. وقد كان الجنوب في تلك الفترة التي سبقت الفتح التركي المصري يعيش في حالة حروب، وصراعات قبلية، فالقبائل الكبيرة، مثل الدينكا، والزاندي، كانت تتوسع على حساب القبائل الصغيرة، ولم يتم الحد من هذه الصراعات القبلية إلا بعد الفتح التركي المصري..
وبالفتح التركي المصري بدأ عهد جديد بالنسبة للجنوب وعلاقته بالشمال.. فلأول مرة يخضع الجنوب والشمال لحكومة واحدة، ويكون فيهما نظام حكم مستقر نسبياً وقد بدأ الاهتمام بتاريخ جنوب السودان، مع الاهتمام باكتشاف منابع النيل، وقد فتح الحكم التركي المصري الجنوب للمكتشفين والتجار، وتم ذلك بصورة خاصة بعد رحلات سليم قبودان لاكتشاف منابع النيل، تلك الرحلات التي تمت على عهد الوالي محمد على، وفي الفترة (1838 - 1840)، وبعد أعمال الخديوي إسماعيل التوسيعية في الجنوب والتي قام بها صمويل بيكر وغردون.. وقد بدأ في هذه الفترة أيضاً التغلغل المسيحي في الجنوب..

تجارة الرقيق


يهمنا أن نقف هنا وقفة قصيرة مع تجارة الرقيق في جنوب السودان، والتي نشطت في هذه الفترة، وذلك لعلاقتها الوثيقة بموضوعنا - مشكلة الجنوب، فقد استغل الاستعمار الإنجليزي هذه التجارة لإيغار صدور الجنوبيين ضد الشماليين ولتنمية العداوة بينهما..
وتجارة الرقيق قد عرفت في التاريخ القديم في معظم أنحاء العالم، وهي قد تمت مؤخراً، في أبشع صورها، على يد الأوربيين، فيما سميّ بتجارة الرقيق عبر الأطلنطي، تلك التجارة التي أدت إلى تحويل الملايين من أفريقيا السوداء، وفي أسوأ الظروف، إلى الأراضي الجديدة.
وقد كانت تجارة الرقيق في جنوب السودان، عملاً محلياً، يقوم على الحروب القبلية.. وكان عدد من الزعماء الجنوبيين من أشهر العاملين في تجارة الرقيق، ومن أشهر هؤلاء موبوي (Moboi)، زعيم الزاندي، الذي كان يملك الآلاف من الأرقاء الذين حصل عليهم عن طريق الحرب مع القبائل الأخرى.. وقد كانت تجارة الرقيق في جنوب السودان قبل الفتح التركي المصري، تجارة محدودة، إلا أنها توسعت بعد الفتح، فهي في البداية كانت من أغراض الفتح، وقد بدأ التوسع في هذه التجارة بعد رحلات اكتشاف منابع النيل، خصوصاً بعد أن عمل بها التجار من الأوربيين، الذين استخدموا الأسلحة النارية وكان لهم وكلاء من العرب ومن السودانيين الشماليين، وفيما بعد استقل هؤلاء الوكلاء، وأصبحت لهم تجارتهم الخاصة بهم..
وبعد انتشار الوعي نشطت حركة محاربة تجارة الرقيق في أوربا، وأصبحت الدول الأوربية، خصوصاً بريطانيا، تسعى مع الحكم التركي المصري في السودان لإيقاف تجارة الرقيق، ولذلك أصبحت محاربة تجارة الرقيق فيما بعد من أهداف الحكم التركي التي عمل على تحقيقها في السودان، خصوصاً على عهد الخديوي إسماعيل، وبالذات في عهد حكمدارية غردون..
وقد صور الاستعمار الإنجليزي للجنوبيين، تجارة الرقيق كعمل قام به الشماليين العرب ضدهم، وذلك بغرض خلق العداوة بين الشمال والجنوب.. كما أن المبشرين المسيحيين في الجنوب حرصوا، أثناء تعليمهم للجنوبيين، على ربط تجارة الرقيق بالمسلمين العرب، كما حرصوا على ألاّ تغيب ذكرى هذه التجارة، وصورها البشعة، عن أذهان الجنوبيين، وذلك ضمن مخططهم لمحاربة العرب والإسلام في الجنوب، وبغرض جعل الجنوب خالياً تماماً من أي منافسة تحد من التبشير، ومن انتشار المسيحية فيه..

التبشير المسيحي


في العهد التركي المصري بدأ الاهتمام الأوربي بالسودان وشئونه، كما بدأ التبشير المسيحي في جنوب السودان، وقد كان المبشرون يعتبرون جنوب السودان منطقة كبيرة الأهمية بالنسبة لهم، وذلك لموقعه الإستراتيجي الهام بالنسبة لبقية أفريقيا السوداء، فهم من خلاله يستطيعون نشر المسيحية في العديد من مناطق أفريقيا، ويستطيعون أن ينافسوا الإسلام بها، ويوقفوا تغلغله.. ومما يدل على مدى اهتمام الأوربيين بنشر المسيحية في الجنوب، كتابة غردون باشا في 1871 للجمعيات التبشيرية البريطانية، يدعوها للعمل التبشيري في المديرية الاستوائية، التي كان يعمل بها آنذاك.. وعندما تم الاحتلال الإنجليزي لمصر في عام 1882، فتح جنوب السودان للتدخل المباشر فيه بصورة أكبر، ولكن حدّ من هذا التدخل قيام الثورة المهدية التي انتصرت على الأتراك واستولت على الخرطوم في يناير 1885..
وقد ساندت بعض القبائل الجنوبية، خصوصاً في بحر الغزال، الثورة المهدية، وثارت ضد الحكم التركي، ولكن المهدية لم تستطع السيطرة على الجنوب، وإقامة إدارة مستقرة فيه.. وفي عهد المهدية عادت الحروب والصراعات القبلية في الجنوب من جديد.. ثم أصبح الجنوب مسرحاً لصراع الدول الاستعمارية الأوربية، خصوصاً بلجيكا، وفرنسا، وبريطانيا، إلى أن تم الفتح الإنجليزي المصري للسودان في عام 1898، وكان هذا الفتح البداية الحقيقية لمشكلة الجنوب، بما اتخذه من سياسة هدفت إلى فصل الجنوب عن الشمال، وإلى تعميق أسباب الخلاف والعداوة بين الإقليمين، وقد ظهرت ثمار هذه السياسة الاستعمارية بعد الاستقلال، وأدت إلى حرب أهلية في الجنوب استمرت لسبعة عشر عاماً..