الموقف الفكري
الفكرة الجمهورية هي دعوة لبعث الإسلام كمدنية جديدة تستوعب، وتوجه، طاقات الحياة المعاصرة، وتقيم على الأرض السلام والرخاء.. ولكن المستوى الذي يدعو له الجمهوريون من الإسلام ليس هو مستوى الشريعة المستمدة من العقيدة، فالكثير من احكام الشريعة، المتعلقة بتنظيم المجتمع، جاءت لتناسب طاقة الناس، وحاجتهم، كما هي في القرن السابع الميلادي، وذلك عملا بقوله تعالي: (لا يكلف الله نفسا الا وسعها) وقوله صلي الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء امرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم).. ولا يمكن عقلا، ولا دينا، أن ينقل ما نظم المجتمع في القرن السابع كما هو، لينظم مجتمعا جديدا جاء بعد أربعة عشر قرنا من التطور الذي أدي الي مستوى من التقدم ومن التعقيد بالصورة التي نراها اليوم في مجتمعات القرن العشرين.. وقد رأينا عند حديثنا عن الأخوان المسلمين كيف أن مستوى الشريعة يقوم على الجهاد بالسيف، ويميز بين الناس بسبب العقيدة، وقد ذكرنا أن هذا المستوى كان حكيما في وقته، كل الحكمة، وانما الخطأ هو محاولة نقله الي وقت غير وقته.. وهذا ما تورط فيه الدعاة السلفيون.. ونحن في دعوتنا الي بعث الإسلام لا ندعو الي مستوى الشريعة – مستوى الرسالة الأولي التي نظمت مجتمع القرن السابع – ففي مستوى الشريعة لا توجد مساواة ولا يوجد دستور.. فالحكم فيها لا يقوم على الديمقراطية، وانما يقوم على الوصاية.. والدستور لازمة من لوازم الديمقراطية.. وهو في الإسلام انما يوجد في مستوى السنة – مستوى أصول القرآن – القرآن المكي، الذي كان عليه عمل النبي الكريم في خاصة نفسه، وهذا المستوى هو ما أسميناه الرسالة الثانية من الإسلام..
فالدستور الإسلامي الذي ندعو له، والذي ورد مبوبا في كتابنا (أسس دستور السودان) لا يستمد من الشريعة المأخوذة من العقيدة، وانما التشريع فيه يستمد من وراء العقيدة – من الحقيقة.. ونحن لا نسميه دستورا إسلاميا، وذلك لأننا لسنا دعاة حكومة دينية، بالمعني المتعارف عليه بين الناس عن الحكومة الدينية.. وقد جاء في هذا الصدد في كتابنا (أسس دستور السودان) ما نصه: (هذا كتاب "أسس دستور السودان" وهو في نفس الأمر "أسس الدستور الإسلامي" الذي يتحدث عنه المتحدثون، ويدعو له الداعون، من غير ان يعرفوا اليه السبيل..
هو أسس الدستور الإسلامي حقا، ولكننا لا نسميه إسلاميا لأننا لا نسعي الي اقامة حكومة دينية، بالمعني الشايع عند الناس، حيث الدين لا يعني غير العقيدة، ذلك بأن الحكومات الدينيات، في هذا المستوى لا تجمع ولا تساوي بين البشر، وانما تفرق وتميز، والقاعدة في ذلك قوله تعالي: (وان هذه أمتكم امة واحدة، وانا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون).
لو كان الإسلام قصاراه العقيدة لكان غير صالح لإنسانية القرن العشرين، ولكن العقيدة فيه مرحلة الي الحقيقة – العمل بالشريعة يوصل الي الحقيقة – والحقيقة عبودية حين الشريعة عبادة.. والعبودية منهاج حياة، فيه تساس النفس البشرية، وفق علم النفس سياسة بها تحرز حريتها من الخوف وتفوز بعتق مواهبها الطبيعية – العقل والقلب – من أسر الأوهام..
الإسلام في هذا المستوى هو دين الفطرة (فاقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون)..
الإسلام عند سلف هذه الأمة لم يطبق الا في مستوى العقيدة ولم يكن الحكم في هذا المستوى ديمقراطيا، ومن ثم، فلا دستور.. وحين تطبق البشرية في مقتبل أيامها الإسلام في مستواه العلمي فسيكون الحكم ديمقراطيا وسيكون، من ثم، هناك دستور، ولكنه لن يسمي دستورا إسلاميا هو دستور إنساني تتوافي عنده كل الإنسانية، لأنه دستور"فطرة الله التي فطر الناس عليها"..).. لاحظ أن الآية تقول "فطر الناس عليها" فهي لا تقول فطر المسلمين، او المؤمنين، انما الناس من حيث هم ناس..
تطوير التشريع
ولقيام الدستور الإسلامي هذا الذي يقوم على آيات الأصول، لا بد من تطوير التشريع الإسلامي.. والتطوير هو انتقال من نص في القرآن خدم غرضه، الي نص آخر في القرآن.. هو انتقال من القرآن المدني، حيث الشريعة التي نظمت حياة الأمة في القرن السابع الي القرآن المكي الذي كانت عليه حياة النبي الكريم في خاصة نفسه.. وهذا التطوير يقع في المجالات الخاصة بتنظيم المجتمع وهي الاقتصاد والسياسة والاجتماع.. فمثلا في الدعوة يتم الانتقال من آية الجهاد بالسيف: (فاذا انسلخ الأشهر الحرم، فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)، ليقوم العمل على آيات الاسماح التي تدعو الناس، من خلال عقولهم، ومنها مثلا قوله تعالي: (أدع الي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)، أو: (وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر).. وعلي ذلك فقس.. ففي السياسة يتم الانتقال من آية الشورى، وهي آية وصاية الي آيات الديمقراطية.. وفي الاقتصاد يتم الانتقال من آية الزكاة الصغرى، وهي آية رأسمالية ملطفة، الي آية العفو، وهي آية اشتراكية.. وفي الاجتماع يتم الانتقال من آيات الوصاية، والتمييز الي آيات المسئولية والحرية، والمساواة.. وعن طريق تطوير التشريع يتم الجمع بين الاشتراكية، والديمقراطية، في جهاز واحد، ويتم تحقيق العدالة الاجتماعية، فلا يكون تمييز بين الناس بسبب العنصر، أو العقيدة، أو اللون، أو الجنس، أو الطبقة، فالجميع سواسية أمام القانون، ويحكم علائقهم القانون الدستوري الذي يوفق بين حاجة الفرد الي الحرية الفردية المطلقة وحاجة الجماعة الي العدالة الاجتماعية الشاملة.. ولقد فصلنا موضوع تطوير التشريع في العديد من كتبنا فليراجع في مواضعه.. فجميع صور التمييز الواردة في الشريعة ليست أصلا في الإسلام، وانما هي تشريع مرحلي اقتضاه حكم الوقت في القرن السابع، ولمعرفة تفاصيل هذا الأمر يمكن مراجعة الباب الخامس، والباب السادس، من كتابنا الاساسي: (الرسالة الثانية من الإسلام)..