الفكر هو روح العبادة:
ان استقبالنا لرمضان بالمحبة والفرح وحده لا يكفي، وإنما ينبغي أن يصحب ذلك، وبدرجة عالية من الأهمية، الفكر الواعي الذي لا تصح العبادة، ولا تتنامى ثمراتها الا به.. اذ بغير الفكر لا فائدة من العبادة، وإنما هي عادة يؤديها العابد آليا، بغير حركة داخلية تدفع النفس في الطريق الروحي الصاعد.
والفكر في مستوى من مستوياته، هو الحضور في العبادة، والتمعن فيها، وهو، في مستوى آخر، متابعة لعيوب العمل، واتخاذ شتي الحيل التي تجعل العبادة حاذقة، وذكية.. ثم يأتي من الفكر مستوى أكبر، وذلك حينما يصير نظرا في دقائق الصنعة، وخفايا الحكمة الالهية.. وهذا المستوى هو الذي قال عنه النبي الكريم: (تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة).. وفي هذا المستوى فإن العمل الجسدي القليل مع الفكر الدقيق يجزي أكثر، وبما لا يقاس، من العمل الجسدي الكثير مع الفكر القليل..
وفي هذا المضمار يجيء معني العبادة الذكية حيث يكون السير ترقّ، فحيث يكون نظر العابد يكون مقامه.. وهذا هو حال اهل الجنة: (لهم ما يشاءون فيها، ولدينا مزيد).
ان معرفة طرائق صلاح العبادة، لتكون مفضية إلى العبودية، هو الفقه المعني في أحاديث نبينا عندما قال: (انما أنا قاسم، والله يعطي، ومن يرد به الله خيرا يفقهه في الدين)، او قوله في دعائه لعبد الله بن عباس: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل).. وليس هو (الفقه) الذي جاء في أخريات الأيام، وأخذ اسمه من الدراسات المطولة، والفروض العقيمة التي أبعدت الناس عن بساطة دينهم، وأخرجتهم من حرارة ممارسته، بعد أن كان العلم يتبعه العمل، فيثمر علما جديدا، به يدق الفكر، ويرتفع العمل، ويجود، على قاعدة الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّـهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا، وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّـهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)، وعلى هدي الحديث: (من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم)..
ان الناس مهيئون، بفضل الله، ثم بفضل ما أصابوا من تقدم في مجال العلوم، والفنون، والآداب، والقانون، أكثر من أسلافهم، لتبعث السنة فيهم.. والسنة عندنا في ذروتها هي الفكر.. الفكر الذي ينبعث من بدايات بسيطة في تقديم الميامن على المياسر، او تقديم المياسر على الميامن، باختلاف المواقع.. فقد أثر عن النبي انه، مثلا، كان إذا دخل المسجد قدم رجله اليمين، واما إذا خرج قدم رجله الشمال.. وفي هذا تقديم للفاضل على المفضول، ووضع للأشياء في مواضعها.. فمن هذه البداية البسيطة التي تحارب العادة في الحركة، والسكون، تنطلق موجة الفكر، فيقوى، ويدق، وينفذ إلى دقائق المعرفة بالله، ويحط رحاله عند أعتاب العبودية..
ان التفصيل في هذا الشأن العظيم، شأن الفكر، وخصوصيته في العبادة، انما يلتمس بوجه خاص في كتابي الجمهوريين: (رسالة الصلاة)، و(تعلموا كيف تصلون).