إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

القرآن ومصطفى محمود والفهم العصرى

من مادة الفكر صنع العالم


كل شيء نصنعه نحن لا يتم صنعه إلا بعد أن يكون قد نزل ثلاث نزلات: فنزلة إلى مرتبة العلم، وأخرى إلى مرتبة الإرادة، وثالثة إلى مرتبة القدرة.. وقد تكون هذه ثلاث النزلات منفصلة عن بعضها البعض، ومتميزة، وقد تكون مندمجة، ومتصلة.. ولكنها موجودة، ثلاثتها.. ذلك بأنك لا يمكن أن تصنع صنعة لا تعلمها، ولا أن تصنع صنعة لا تريدها، ولا أن تصنع صنعة لا تقدر عليها.. والنزلة إلى مرتبة العلم إنما جاءت عن مرتبة الفكر، والنزلة إلى مرتبة الفكر إنما جاءت عن مرتبة العقل، والنزلة إلى مرتبة العقل إنما جاءت من مرتبة الذات، وليس وراء الذات المحدثة إلا الذات القديمة.. والذات المحدثة، فيما يصدر عنها، وكيفية صدوره، تحكي الذات القديمة.. فإن الله، تبارك، وتعالى، قد خلقنا على صورته.. فصناعتنا، في أطوار بروزها، تحكي صناعته.. وإنما عنانا، تبارك، وتعالى، حين قال: (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم؟؟ قل الله خالق كل شيء، وهو الواحد القهار..) غير أن صنعنا نحن ناقص، وذلك لمكان نقص ذواتنا، ونقص عقولنا، ونقص فكرنا، ونقص علمنا، ونقص إرادتنا، ونقص قدرتنا.. ونحن، إلى ذلك، عندما نصنع شيئا لا نصنع المادة التي نصنع منها، وإنما نتصرف في مادة ناجزة.. فإن لم تكن مادة ناجزة، فإننا لا نعدو أن نجمع تكوينها من أجزاء ناجزة، لا دخل لنا في صنعها، وما ينبغي لنا، وما نستطيع..
والذات القديمة علمها قديم، وإرادتها قديمة، وقدرتها قديمة..وهي لا تعلم بعقل كأحدنا وإنما تعلم بذاتها، وتريد بذاتها، وتقدر بذاتها.. وهي لم تصنع العالم من مادة سابقة وإنما صنعته من لدنها.. قال تعالى في ذلك: (يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها) فإن هذه النفس الواحدة، هي نفسه، تبارك، وتعالى..
فالعالم هو تجسيد علم الله – هو تجسيد فكر العقل الكلي، المحيط، والمطلق، في ذلك – وإنه لحق أن العالم قد صنع من مادة الفكر، ومن أجل ذلك جاءت كرامة الفكر.. ولم يجعل الله هاديا في شعاب ظلمات العالم غير نور العقل القوي الفكر.. وإنما من أجل تقوية الفكر أرسل الله الرسل، وأنزل القرآن، وشرع الشرائع: قال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر، لتبين للناس، ما نزل إليهم، ولعلهم يتفكرون).. فكأن العقل، إذا روض، وأدب بأدب الشريعة، وأدب الحقيقة، (أدب الوقت)، أصبح شديد القوى، دقيق الفكر، نافذه.. هكذا وصف الله العقل، فإنه تعالى قد قال عنه: (علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى).. و(استوى) هذه تردنا إلى الاستقامة مرة ثانية، فإن الاستواء إنما هو الثبات على الجادة، وهو نفس معنى الإستقامة.. وقد قلنا أن الاستقامة هي الوفاء بأدب الوقت، والوقت هو اللحظة الحاضرة.. ذلك بأن اللحظة الحاضرة هي أصل الزمان، وهي وسط بين طرفين، كليهما، في حكم الحقيقة، باطل، وإنما يعتبر وجودهما في حكم العقل – حكم الشريعة – وذلك هو الحكم الذي به دخل، في الوجود، خلق الأزواج، قال تعالى: (ومن كل شيء خلقنا زوجين، لعلكم تذكرون * ففروا إلى الله، إني لكم منه نذير مبين).. فالحكمة في خلق الأزواج، هي تمكين العقول، من الإدراك: (لعلكم تذكرون) والتذكر عملية مزاوجة بين طرفين: الذاكرة، والخيال.. قوله (ففروا إلى الله) يعني فروا من التعدد الذي يقوم عليه حكم العقول، إلى الأحدية التي يقوم عليها حكم القلوب..

بذرة القرآن


وأما بذرة القرآن، فهي ليست كلمة: (لا إله إلا الله) كما زعمت أنت في صفحة 250 حين قلت: (والذي يقرأ القرآن في تفكر وتأمل يشعر أنه خرج جميعه من بذرة واحدة هي كلمة لا إله إلا الله تفرعت وأورقت وأثمرت شجرة القرآن كله. من التوحيد نشأت كل أعداد المعارف والعلوم) انتهى.. إن بذرة القرآن، هي كلمة (الله) وهذه البذرة، قد تنزلت من الإطلاق.. هي طرف الإطلاق القريب منا، تجسد.. ولقد أسلفنا القول في هذا الفصل أن كلمة (الله) هي (أعظم) ما في القرآن، وأن الكلمة (لا إله إلا الله) هي (خير) ما في القرآن، وإنما كان ذلك كذلك، لأنها منهاج تسليك بها يقوى العقل على ملاقاة الله.. ولقد قال العارفون: إن آيات القرآن كلها، قامت في الطرقات لتسوق الناس، بالوعد والوعيد، إلى تحقيق (لا إله إلا الله).. ثم إن (لا إله إلا الله) تسوق الناس إلى الله.. وكلمة (الله) تشير إشارة، إلى الإطلاق، الذي منه تنزلت.. والإطلاق فوق العبارة.. فهو لا يسمى، ولا يوصف، ومن ثم لا يعرف.. ولولا أنه تقيد في منزلة الاسم، (الله) لما كان إليه من سبيل.. وأنت تقول من صفحة 249 (والله في القرآن ذات واسماء وصفات وأفعال) وهذا حق، على شرط إعتبار مراتب القيد الذي فيه تقيدت الذات الساذج، الصرفة، وذلك بمحض الفضل.. ومقام القيد هذا، هو مقام تجسيد.. هو مقام الإنسان الكامل الذي ما هو إلا (الحقيقة المحمدية).. وإلى هذا التجسيد في هذا المقام، الإشارة بقوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، ولا تتبعوا خطوات الشيطان، إنه لكم عدو مبين * فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم * هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، والملائكة، وقضي الأمر.. وإلى الله ترجع الأمور؟؟)..
وهذه الآيات مسبوقات في السياق بآيات هي: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا، ويشهد الله على ما في قلبه، وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها، ويهلك الحرث، والنسل.. والله لا يحب الفساد * وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم، فحسبه جهنم، ولبئس المهاد) وقد قيلت في رجل منافق أتخذ نموذجا للكافرين، والمنافقين.. والنفاق أسوأ خصال الرجال.. قال تعالى في ذلك: (إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا).. وقال عن المنافقين: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، ولن تجد لهم نصيرا) فالكافرون والمنافقون قبيل واحد.. وسترد الإشارة إليهم، في الآيات التي نحن بصددها.. فإلى تلك الآيات – قوله: (يأيها الذي آمنوا ادخلوا في السلم كافة) يعني الإسلام.. قوله (فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات) يعني أن دخلتم في الإسلام، ثم زلت بكم القدم عن الطاعات من بعد ما بينا لكم الحدود، (فاعلموا أن الله عزيز حكيم).. في هذا القول إشارة إلى أمرين: الأمر الأول، فاعلموا أنكم أنما زللتم بإرادة الله، فإن العزيز لا يعصى رغم أنفه.. والأمر الثاني، فاعلموا أن الله يغفر لكم ما دامت زلتكم قد جرت عليكم وأنتم داخل الملة، فإن العزيز لا يضره أن يعفو، والحكيم يصلح بالعفو، ويصلح بالعقوبة.. قوله: (هل ينظرون؟) الإشارة هنا إلى الكافرين، والمنافقين، والمعنى: ما ينتظرون.. قوله: (إلا أن يأتيهم الله) يعني (الإنسان الكامل).. يعني (الحقيقة المحمدية).. قوله: (في ظلل من الغمام) يعني يأتيهم مجسدا، في الدم، واللحم.. وتلك إشارة لمجيء المسيح.. قوله: (والملائكة) إشارة إلى أعوان المسيح.. قوله: (وقضي الأمر)، إشارة لساعة مجيئه.. قوله: (وإلى الله ترجع الأمور) إشارة إلى الكمالات، التي تظهر بمجيء المسيح، وأعوانه، وهي الكمالات التي بها تملأ الأرض عدلا، كما ملئت جورا.. فإن الرجوع إلى الله إنما هو في الدرجات، لا في المسافات..
فالإنسان الكامل، إذن، هو الذات التي في القرآن.. ولكن الذات الصرفة، المطلقة، فوق القرآن المرقوم.. لأنها فوق العبارة، وفوق الإشارة.. والحديث عنها يسوقنا إلى الحديث عن أسرار الحروف، التي افتتحت بها بعض سور القرآن.. ولقد تحدثت أنت عنها في هذا الفصل، في صفحة 254 فقلت: (وكل حرف من حروف اللغة له خواصه التعبيرية، وأسراره. ونحن لم نتعلم من هذه الأسرار إلا القليل. وحينما يطالعنا القرآن بتلك الحروف المطلسمة في بدايات السور أمثال: طسم.. كهيعص – حم.. طس.. فإنه يطالعنا بأسرار بالفعل، وليس بمجرد حروف تشابكت كيفما اتفق، وإنما هي بعض التحديات التي تحدانا بها القرآن ووعدنا بأن يأتي تأويلها في آخر الأيام..
ونظريات المفسرين في هذه الحروف كثيرة ومختلفة. البعض يقول أن الله يقسم بهذه الحروف في مطالع السور..
والبعض يقول أنها تؤلف فيما بينها اسم الله الأعظم الذي قد احتفظ بسره لنفسه.
والبعض يقول أنها مجرد مفردات – يقول لنا الله انه خلق منها ومن مثلها القرآن.. فيقدم لنا لبنات البناء وخاماته قبل أن يرينا البناء في كماله وتمامه.. على سبيل الإعجاز.
وكلها ضروب من التخبط.
وأولى بنا أن نقول: لا نعلم.
وما كان لنا أن نحيط بالقرآن في جيل واحد أو أجيال.. وقد نزل القرآن لكل العصور.. ليبوح بسره على مدى عمر الدنيا فيكاشف كل مفسر بقطرة من بحره.
وما زال القرآن يعطي كل من جاهد في تفهمه.. وما زال يفتح قلبه لكل من فتح له قلبه) هذا ما ذكرته أنت عن الحروف التي افتتحت بها السور.. والحروف تعتبر هي مرحلة الإشارة في القرآن، بعد أن ضاقت العبارة عن المعانى، وهي تتسامى، من المحدود إلى المطلق، في شكل هرمي، قاعدته العبارة التي، بحسب اللغة، لا تحتمل إلا وجها واحدا.. وقمته عند الذات المحدثة – (الحقيقة المحمدية) التي هي أول قابل لتجليات الذات الساذج.. وعن العبارة التي لا تحتمل إلا وجها واحدا من عبارات القرآن، جاء قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب، منه آيات محكمات، هن أم الكتاب، وأخر متشابهات.. فأما الذين في قلوبهم زيغ، فيتبعون ما تشابه منه، ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله.. والراسخون في العلم، يقولون آمنا به، كل من عند ربنا.. وما يذكر إلا أولو الألباب).. (آيات محكمات، هن أم الكتاب) هذه الآيات، عليها اعتمدت الأحكام، وهي، بحسب اللغة، لا تكاد تحتمل إلا وجها واحدا.. هذه الآيات، هي قاعدة العبارة.. وعن قمة العبارة جاءت كلمة (الله) وهي ليس لها من خصائص العبارة إلا كونها كلمة، وإلا، فهي أدخل في الإشارة، منها في العبارة، لأنها، وإن كانت كلمة، فإنها غير مشتقة، ولذلك فلا معنى لها محدود.. وهي، من وجهها الذي يلي المحدود، موصوفة بالأحدية، ومن وجهها الذي يلي المطلق، لا توصف، ويصبح معناها في غيرها.. لأنها إشارة إلى الإطلاق..
ومرحلة الإشارة بالحروف تقع في مضمار هذا الإسم الشريف، بين قاعدته الموصوفة بالأحدية، وقمته التي تتنزه عن الوصف، والتي تظل، سرمديا، مفتوحة على الإطلاق، تستوعب في كل جزئية زمنية طرفا منه، فتقيده.. ولمرحلة الإشارة بالحروف قاعدة، ولها قمة.. فأما قاعدتها فهي الحروف الرقمية.. وأما قمتها فهي الحروف الفكرية.. وتقع بين هذه القمة، وتلك القاعدة، الحروف الصوتية.. فكأن الحروف على ثلاث مراتب: رقمية، وهي تتكون من الثمانية والعشرين حرفا، التي تشتمل عليها الأبجدية في اللغة العربية.. أولها الألف، وآخرها الغين.. وهذه الحروف الثمانية والعشرون وهي بعدد منازل القمر، منها أربعة عشر حرفا نورانية، وهي: أ - ل - ر- ك - هـ – ي –ع – ص- ط – س – ح – م – ق – ن، وقيدها في افتتاحيات السور: ألر.. كهيعص.. طس.. حم.. ق.. ن، ومن هذه الحروف النورانية، الأربع عشر، أفتتحت تسع وعشرون سورة، على أربع عشر تشكيلة، هي: (ألم).. (ألمص).. (ألر).. (ألمر).. (كهيعص).. (طه).. (طسم).. (طس).. (يس).. (ص).. (حم).. (حم – عسق).. (ق).. (ن)..
ومنها أربعة عشر حرفا، ظلمانية، هي بقية حروف الهجاء الثمانية والعشرين.. ومن هذه الحروف الرقمية، النورانية منها والظلمانية، يتألف الكلام الظاهر.. والكلام الظاهر هو لغة العقل.. ولغة العقل إبتدأت بالكلمات الصوتية – الكلمات التي تحكي الصوت – ثم تطورت هذه الكلمات في المعاني، حتى أصبحت تعبر عن دقائق خلجات النفس البشرية.
وأما الحروف الصوتية، فهي لا حصر لها، وذلك لأنها تنتج عن حركات المتحركات، وكل ذرات المادة في حركة ما تنقطع.. ويقابل عددها في الخارج عدد مماثل في داخل النفس البشرية.. وهي، في ذلك، المسموع منها، وغير المسموع، تؤلف الخواطر التي تجيش في العقل الواعي، وفي طرف العقل الباطن، مما يلي العقل الواعي، مما تصح تسميته بالعقل شبه الواعي..
وأما الحروف الفكرية، فهي ملكوت كل شيء.. وهي كلمات الله التي قال عنها، جل من قائل: (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي، لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي، ولو جئنا بمثله مددا).. ومن هذه الحروف الفكرية، تتكون الخواطر المستكنة في العقل الباطن.. وفي سويدائه الحقيقة الأزلية، وعلى حواشيه الدين.. والحقيقة الأزلية (وترية)، وإلى الدين تنتهي الحقيقة (الشفعية)، وهذه نهاية إدراكات العقول، وهي، من ثم، نهاية الحروف الفكرية..
وإلى الحروف الرقمية، والحروف الصوتية، والحروف الفكرية، وردت الإشارة بقوله تعالى (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر، وأخفى) فالقول المجهور به يقابل الحروف الرقمية، والسر، المنطوي عليه الضمير يقابل الحروف الصوتية.. وأما الحروف الفكرية، فيقابلها سر السر.. ولقد تحدثنا عن سر السر في فصل (مخير، أم مسير) من هذا الكتاب.. ومن هذه الحروف الفكرية ما لا يُسمع إلا بالحاسة السابعة، ولقد تحدثنا عن الحاسة السابعة في مقدمة الطبعة الرابعة من كتابنا (رسالة الصلاة)، فليراجع في موضعه.. وللإستزادة من الحديث عن الحروف، يمكن مراجعة الباب الخامس، من كتابنا (الرسالة الثانية من الإسلام).
وعند دقة الحروف الفكرية، ولطفها، يحصل، الفينة بعد الفينة، عجز العقل عن التفكير.. وعندئذ يقع الشهود الذاتي، إذ تباشر الذات المحدثة، الذات القديمة، بغير حجاب بينهما..
وأما قولك: (وما كان لنا أن نحيط بالقرآن في جيل واحد أو أجيال.. وقد نزل القرآن لكل العصور.. ليبوح بسره على مدى عمر الدنيا فيكاشف كل مفسر بقطرة من بحره) فهو قول يدل على أنك تنتظر الإحاطة بالقرآن، وتنتظر من القرآن أن يبوح بسره، فيما بعد انقضاء عمر الدنيا، وهو بذلك قول باطل.. فإن الإحاطة بالقرآن، تمتنع (وما يعلم تأويله إلا الله) والقرآن إنما يبوح بسره في السرمد، والسرمد هو الزمن المطلق، وهذا هو ما يناسب إطلاق القرآن.. فإن القرآن أوله عندنا نحن في اللغة العربية، وآخره عند الله.. حيث لا حيث.. وعند لا عند.. قال الله في ذلك (حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآنا عربيا، لعلكم تعقلون * وإنه، في أم الكتاب، لدينا، لعلي حكيم) قوله (إنا جعلناه قرآنا عربيا، لعلكم تعقلون) يعني طرف القرآن القريب منا (وإنه، في أم الكتاب، لدينا، لعلي حكيم) يعني حقيقة القرآن.. فإن (لدى) هنا ليست ظرف زمان، ولا هي ظرف مكان، وإنما هي عند الله في إطلاقه.. ههنا حقيقة القرآن، وهي حقيقة مطلقة – هي الذات –
وأنت تقول من صفحة 249: (والسراط المستقيم هو الطريق المؤدي إلى الله وإلى الحق والنجاة) انتهى. فما هو هذا الطريق يا ترى؟؟ فإن الشريعة مؤدية إلى النجاة، ومؤدية إلى الله، في معنى ما تؤدي إلى النجاة، فهل هذا ما تعني أنت حقا بتفسيرك للسراط المستقيم على هذا النحو؟؟ إنك قد هونت عزيزا، ذلك بأن السراط المستقيم هو أعلى، وأغلى مطالب الرجال.. وعندما قال النبي الكريم (شيبتني هود وأخواتها) قالوا: إنما عنى في هود قول الله تعالى، يأمره: (فاستقم كما أمرت، ومن تاب معك، ولا تطغوا، إنه بما تعملون بصير)
فالإستقامة هي الثبات من الجولان بين طرفين يتنازعان القلب، وهذان الطرفان هما الماضي، والمستقبل.. وعندما عرج النبي، وتناهى به المعراج، خلف جبريل عند سدرة المنتهى، في مقام: (قاب قوسين، أو أدنى) وتجاوز هو منفردا، إلى مقام جمعية بالله، تمت له فيه الوحدة الذاتية، والوحدة المكانية، والوحدة الزمانية، فكانت تلك الحالة حالة إستقامة.. وهي قد إتفقت له بمحض الفضل الإلهي، بفيض التجلي الذاتي، حيث استغرقت الذات الإلهية، الذات المحمدية إستغراقا.. وقد جاء وصف القرآن لهذه الحالة، بقوله، تبارك، وتعالى: (إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى).. قوله (ما زاغ البصر) يعني ما اشتغل الفكر بالماضي.. قوله (وما طغى) يعني ما اشتغل الفكر بالمستقبل.. وهذه وتلك، تعني لحظة توقف فكري – تعني لحظة رفع حجاب الفكر – حيث واجهت الذات المحدثة – (الذات المحمدية) – الذات القديمة – (الذات الإلهية) كفاحا، بلا واسطة، ولاحجاب، فتم الشهود الذاتي..
هذه هي الاستقامة في قمتها.. فما ظنك بها؟؟
والإستقامة برزخ بين طرفين هما الجناحان، وهي القلب.. وإليها، في المكان الأول، الإشارة في قوله تعالى (مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ، لا يبغيان) والبحران يعنيان أي طرفين عن يمين وشمال.. أو قل، إن شئت، أي نقيضين.. وفي فاتحة الكتاب جاء قوله: (اهدنا السراط المستقيم * سراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين).. (السراط المستقيم) برزخ، والبحران، عن اليمين، (الضالين)، وعن الشمال، (المغضوب عليهم).. قوله (اهدنا السراط المستقيم).. (السراط المستقيم)، أدناه الاستقامة في الشريعة.. الإئتمار بالأوامر، والإنتهاء عن النواهي.. وأعلاه الحياة في اللحظة الحاضرة.. وآية هذا من كتاب الله: (ما زاغ البصر، وما طغى).. قوله: (سراط الذين أنعمت عليهم) يعني المسلمين.. أدناهم المؤمنون، وأعلاهم المسلمون، الذين أسلموا وجههم لله، لا يعترضون عليه في سر، ولا علن.. قوله: (غير المغضوب عليهم) هم اليهود، وهم الذين أفرطوا في المادية.. وقوله.. (ولا الضالين) هم النصارى، وهم الذين أفرطوا في الروحانية.. وإنما كان السراط المستقيم، وسطا بين هؤلاء، وهؤلاء لأنه جمع بين خصائص الطرفين، فلم يهمل المادة، ولا أهمل الروح، وإنما وفق بينهما توفيقا متسقا، فجعل المادة وسيلة الروح.. (الدنيا مطية الآخرة) على حد تعبير المعصوم.. وفاتحة الكتاب، التي اختتمت بهاتين الآيتين هي أم الكتاب.. وإنما بهاتين الآيتين نالت منزلة الشرف..
فاتحة الكتاب، هي المعنية بقوله تعالى: (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) هي سبع آيات، هكذا: (بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا السراط المستقيم * سراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) وإنما سميت مثاني لأن لكل منها معنيين: معنى قريبا، ومعنى بعيدا.. فأما المعنى القريب فهو عبادة.. وأما المعنى البعيد فهو عبودية.. قولك: (بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد..) هذه آيات عبادة، وآيات عبودية، ولكن العبادة فيها أظهر من العبودية، وذلك لمكان الدعوى.. (وإياك نستعين * اهدنا السراط المستقيم * سراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين) هذ آيات عبادة، وآيات عبودية ولكن العبودية فيها أظهر، وذلك لمكان التخلي عن الدعوى.. وهي (القرآن العظيم).. لأن قمتها في برزخيتها بين العبادة والعبودية.. وتلك هي مرتبة الفناء عن العبودية.. يعني أن تكون عبدا، بدون أن تكون شاعرا بنفسك في عبوديتك، وإنما تعيش العبودية في بساطة، وبدون أن تعتبر لنفسك في ذلك فضيلة، وإنما ترى أنه مقامك الحقيقي الذي ما كان ينبغي لك أن تذهل عنه طرفة عين.. مقام الفناء عن العبودية هو، مقام العبودية الحقة، وهو لا يتناهى، السير فيه سرمدي، لأنه سير مصاقب للربوبية.. ولقد توظف القرآن كله لتحقيقه، وعلى رأس القرآن فاتحة الكتاب، وعلى قمتها الآيتان: (اهدنا السراط المستقيم * سراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين)..
هناك ملاحظات يمكن سوقها في بساطة عن بعض آرائك في هذا الفصل فأنت تقول عن التوكل: (والتوكل مقام عظيم لا يستطيع أن يبلغه إلا متصوف ومؤمن ثابت القدم يؤمن بحق أنه.. لا إله إلا الله.. ولا مريد فعال مهيمن إلا الله).. هذا ما قلته أنت في صفحة 244، والذي تجب ملاحظته أن التوكل ليس مقام المؤمنين، وإنما هو مقام الموقنين – هو يقوم على الإيقان، لا على الإيمان.. وفي صفحة 248 أنت تقول: (وهو قد علمنا أنه قد خلق العالم باسمه الرحمن الرحيم لا بإسمه القهار الجبار.. فهو قد خلقه بالرحمة.. بل بمطلق الرحمة (والرحمن هو يسبغ مطلق رحماته على كل ما يخلق.. ما يستحق الرحمة وما لا يستحقها) فنقول في بدء كل شيء (باسم الله الرحمن الرحيم) لأنه باسمه الرحمن الرحيم بدأ الخلق فأوجد كل شيء رحمة لا قهرا: كتب على نفسه الرحمة.) هذا ما قلته أنت في تلك الصفحة، والذي تجب ملاحظته هو أن رحمة (الرحمن) تختلف عن رحمة (الرحيم) إختلاف مقدار.. فرحمة الرحمن يدخل فيها العذاب.. ورحمة الرحيم خالصة من العذاب.. وهذا يعني أن الله خلق العالم باسمه (القهار الجبار) في معنى ما خلقه باسمه (الرحمن) وهو قد سير العالم إليه تحت قهره، وجبروته، وقال: (إن كل من في السموات، والأرض، إلا آتي الرحمن عبدا).. وفي هذا المقام، فليس هناك (ما لا يستحق الرحمة) من المخلوقات.. والقاعدة التوحيدية تقول: أن كل مخلوق مرحوم.. قال تعالى في ذلك: (عذابي أصيب به من اشاء، ورحمتي وسعت كل شيء، فسأكتبها للذين يتقون، ويؤتون الزكاة، والذين هم بآياتنا يؤمنون).. قوله: (ورحمتي وسعت كل شيء) فهذه رحمة (الرحمن).. والعذاب داخل فيها وهو طرف منها..
قوله: (فسأكتبها للذين يتقون) فهذه رحمة (الرحيم) وهي مكتوبة خالصة من العذاب – فالرحمة الأولى عامة، وتشمل الجنة، والنار معا.. والرحمة الثانية خاصة، ولا تشمل إلا الجنة.. القهر والجبروت في الأولى، وليس في الثانية..
بهذا نختم هذا الفصل ونترك فيه كثيرا مما كان يمكن أن يقال.. وستكون لنا إلى (لا إله إلا الله) عودة إن شاء الله.. فإن في النفس منها، دائما، شيئا.. وعلى الله قصد السبيل، وعليه التكلان..