إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

القرآن ومصطفى محمود والفهم العصرى

الكلمة الطيبة


و(لا إله إلا الله) هي الكلمة الطيبة التي قال تعالى عنها.. (ألم تر كيف ضرب الله مثلا: كلمة طيبة كشجرة طيبة، أصلها ثابت، وفرعها في السماء * تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها؟؟ ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون) ومعنى أن أصلها ثابت أنها قيلت في الأرض بلسان الحال، وبلسان المقال.. قيلت بلسان الحال من كل ذراري الأرض، منذ أن خلق الله الأرض.. وقيلت بلسان المقال، بالإضافة إلى لسان الحال، منذ أرسل الله الرسل لهداية الخلق.. وقد قال المعصوم: (خير ما جئت به أنا، والنبيون من قبلي، لا إله إلا الله).. ومعنى أن (فرعها في السماء) أن موضع الثمر منها في السماء، وذلك عند الله، حيث لا عند.. والعبارة (بالسماء)، ليست للمكان، وإنما لتناهي السمو.. وقد وردت العبارة عن ذلك بقوله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو، والملائكة، وأولو العلم، قائما بالقسط ، لا إله إلا هو، العزيز الحكيم).. قوله (شهد الله أنه لا إله إلا هو) يعني شهادته بذاته، لذاته، في إطلاقه.. وشهد الملائكة في السموات والأرض.. وشهد أولو العلم في الأرض.. أنه (لا إله إلا هو).. وقوله (قائما بالقسط) أفاد مرتبة الفعل، لأن القيام بالقسط إنما يعني الحكمة، والحكمة لا تظهر في شيء ما تظهر في الفعل.. وقد جاء بالفاصلة (العزيز الحكيم) ليفيد الفعل.. فإن (العزيز) الذي لا يغلب.. و(الحكيم) الذي يعطي كل ذي حق حقه، ويضع الأشياء في موضعها الصحيح.. ولا تظهر غلبة العزيز، ولا تظهر حكمة الحكيم في شيء ما تظهر في الفعل.. ولقد شهد الله لنفسه بالتوحيد، وشهد الملائكة، وشهد أولو العلم.. شهد الله في إطلاقه، كما قلنا، وشهد الملائكة في السموات، وفي الأرض، وشهد أولو العلم في الأرض، فامتدت كلمة (لا إله إلا الله) شجرة سامقة، أصلها ثابت، وفرعها في السماء.. وثبوت أصلها في الأرض هو أس الرجاء، فإن جذورها نزلت، وتغلغلت، وامتدت إلى أسفل قريبا من امتداد فروعها إلى أعلى، فبلغت إبليس في دياجير ظلماته، فساقت إليه نور الوجود، وأن لم تسق إليه نور المعرفة، فشهد بلسان حاله أنه (لا إله إلا الله).. وهو لن يلبث، عندما يتأذن الله فيرى الآيات، أن يشهد بلسان مقاله أيضا فتدركه الرحمة المكتوبة للمتقين.. وقوله: (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها) يعني أن عمل العاملين بلا إله إلا الله في الأرض تتوجه الرحمة الإلهية فتنزل عليه إمدادات الأنوار، والبركات، من الأعالي، فتطيب لتلك الإٌمدادات الفروع، والأصول جميعا.. هذه هي قيمة الشهادة في الأعالي، وإلى ذلك أشار تعالى حين قال، جل من قائل،: (هو الذي يصلي عليكم، وملائكته، ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما * تحيتهم، يوم يلقونه، سلام. وأعد لهم أجرا كريما)..

والكلم الطيب أيض

ا
و (لا إله إلا الله) هي أيضا الكلم الطيب التي قال تعالى فيها: (من كان يريد العزة، فلله العزة جميعا، إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه، والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد، ومكر أولئك هو يبور) أسماها هنا (الكلم) على الجمع، في مقابل ما أسماها هناك (كلمة) على الإفراد.. والكلم لا يكون أقل من ثلاث كلمات، وعلى هذا الاعتبار فإن (لا) كلمة و(إله) كلمة و(إلا) كلمة و(الله) كلمة.. ومع أن أعظم كلمات القرآن، على إطلاقها، هي كلمة (الله) إلا أن كلمة (لا إله إلا الله) أهمها، وما ذاك إلا لقيمتها (التسليكية).. فإنها، من حيث التسليك، لا يعدلها شيء، وذلك لمكان (النفي) و(الإثبات) فيها.. وما يفيده (النفي) و(الإثبات) هو أن الحقيقة لا هي هذه، ولا تلك، وإنما هي (بين، بين).. ومعنى هذا أنك إن أشركت بالله غيره فأنت ضال، وإن نزهته عن الشريك فأنت ضال، وإن كان ضلالك، حين تشرك معه غيره، أكبر من ضلالك حين تنزهه.. ولا يكاد تركيب في القرآن يؤدي هذه الصورة ما تؤديها هذه العبارة، ولكن يقرب منها بعض الآيات، ومنها، على سبيل المثال، قوله تعالى: (فلم تقتلوهم، ولكن الله قتلهم.. وما رميت، إذ رميت ولكن الله رمى.. وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا، إن الله سميع عليم).. فحين قال: (وما رميت) نفى الرمي عن النبي.. وحين قال: (ولكن الله رمى) أثبت الرمي لله، بعد أن نفاه عن النبي.. ولكنه، بين النفي والإثبات، جاء بعبارة (إذ رميت) فوزن الأمر بين النفي والإثبات، وأصبح الحق (بين، بين).. ومعنى (بين، بين) في هذا الموضع أن للشريعة حكمها، وللحقيقة حكمها في المقام.. فلكأن النبي رمى في ظاهر الأمر، ولكن في باطن الأمر لم يرم إلا الله – النبي رمى في الشريعة، ولم يرم في الحقيقة إلا الله – وبذلك يجري حكم الشرع على المسيء بالعقاب، وعلى المحسن بالثواب، ولا يحتج مسيء، في هذا الباب، بما هو في حكم الحقيقة ليفلت من معاقبة الشريعة، ولا يبالغ غيور على الدين في معاقبة المسيء عما ورد به النص في العقوبة المقررة في الشريعة طلبا لردع الجناة بالقسوة عليهم، وذلك لمكان حكم الحقيقة في خطيئة المخطئ، وإساءة المسيء.. وهذا هو الوزن بالقسطاس المستقيم..

الاستقامة


وذكر القسطاس المستقيم يسوقنا إلى الحديث عن الاستقامة.. والاستقامة هي الاستواء على الوسط بين طرفين، كليهما، إذا أخذ بمفرده، خطأ.. وللتمثيل لهذين الطرفين نسوق الشريعة والحقيقة.. فالشريعة إذا أخذت بلا حقيقة فهي خطأ، والحقيقة إذا أدعيت بلا شريعة فهي خطأ، والاستواء، أو قل الاستقامة، أن يكون الرجل صاحب شريعة، وصاحب حقيقة، في آن معا، من غير تخليط في ذلك، فهو يعامل الخلق بالشريعة، ويعامل الحق بالحقيقة.. والثبات على هذه الحالة من أصعب الأشياء، فهو كقبض الزئبق، إن لم نقل كقبض الريح.. ومن أجل هذا فإن الاستقامة أصعب الأشياء على السالكين.. ولقد قيل إن النبي قد قال: (شيبتني هود وأخواتها).. يشير إلى قول الله تعالى منها (فاستقم، كما أمرت، ومن تاب معك، ولا تطغوا.. إنه بما تعملون بصير..)..
ولقد جاءت (لا إله إلا الله) بهذه الصياغة عل أتم صورة، فهي، من طرف، نفي، (لا) وهي، من الطرف الآخر، إثبات، (إلا).. وليس الحق في طرف النفي وحده، ولا هو في طرف الإثبات وحده، وإنما الحق برزخ بين ملتقى بحري النفي والإثبات.. قال تعالى: (مرج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ، لا يبغيان).. والبرزخ ههنا هو كلمة (الله) فكأنه قال (لا إله، إلا إلها هو "الله") وإنما (الله) برزخ بين المطلق في إطلاقه، وبين جميع الخلائق.. وهذا يعني أن أول تنزلات المطلق إلى القيد كان تنزله إلى مرتبة الاسم، وهو (الله).. ولولا أن المطلق تقيد في مراتب الإسم، والصفة، والفعل، ما عرف.. وهذا معنى قوله، تبارك، وتعالى: (كنت كنزا مخفيا، فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق، فتعرفت إليهم، فبي عرفوني) (فبي) يعني بتنزلي من الإطلاق إلى القيد.. وأول مراتب القيد مرتبة الاسم، وأول الأسماء (الله) وهذه هي مرتبة (الذات المحمدية)، التي هي أول قابل للتجليات الإلهية.. ولذلك فكثيرا ما يقال وبحق: عن (فبي) أنها تعني (محمدا) فلكأنه قال (فبمحمد عرفوني).. وفي لغة الأرقام مجموع حروف اسم (محمد) كمجموع حروف (فبي).. كلاهما اثنان وتسعون، كما هو معروف.. ومقام (الذات المحمدية) هو مقام الإنسان الكامل.. ويجب أن يكون معروفا فإن أسماء الله الحسنى هي في حق الإنسان الكامل في المكان الأول، وهي لا تكون في حق الذات الصرفة، المطلقة، إلا عند التناهي، عندما تعجز العبارة، وتكاد تنقطع الإشارة، ذلك بأن الذات المطلقة فوق الاسم، وفوق الصفة، وأعظم أسماء المطلق الإنسان الكامل، وأعظم صفات المطلق الإنسان الكامل – إسم الله الأعظم هو الإنسان الكامل – ومقامه مقام (ما زاغ البصر وما طغى).
وهناك حقيقة يجب تقريرها، وتلك هي أن التوحيد صفة الموحد (بكسر الحاء)، وليس صفة الموحد (بفتح الحاء).. فإن الموحد غني عن توحيد الموحدين، بعد أن وحد نفسه: (شهد الله أنه لا إله إلا هو) فإذا استيقنا هذه الحقيقة فقد وجب علينا السير في تحقيق التوحيد في بنيتنا، وذلك بإتقان العبادة حتى تفضي بنا إلى العبودية.. والعبادة المفضية إلى العبودية ليست قياما في المحاريب فقط، وإنما هي، إلى ذلك، حسن معاملة للناس في الطرقات، والأسواق، وفي كل منزلة تنزلها، أو مقام تقومه..
وتحقيق التوحيد في بنيتنا يقتضي الجمعية بعد التوزع، والحضرة بعد الغفلة.. ومقدمة كل أولئك إنما هي تجويد وحدة الفاعل بالإطلاع على حقيقة سر الآية: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله، رب العالمين) بعد العمل الجيد، الواعي، الرشيد، بمطلوب الآية: (لمن شاء منكم أن يستقيم)، فإن هذه آية شريعة، وتلك آية حقيقة، ومن عمل بالشريعة بإتقان، وحضور قلب، علمه الله الحقيقة.. وموعود الله في ذلك: (واتقوا الله، ويعلمكم الله).. والاستقامة في آية: (لمن شاء منكم أن يستقيم) إنما هي في أول سلم السلوك، وهي الوقوف عند أوامر الشرع، ونواهيه.. وهذه، من هذه البداية البسيطة، تسوق، بعناية الله، إلى الاستقامة التي هي الوفاء بأدب الوقت.. وإنما من أجل الوفاء بأدب الوقت جعلت للعبادات أوقات.. فقال تعالى عن الصلاة: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا).. وقال تعالى عن الصوم: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، هدى للناس، وبينات من الهدى، والفرقان.. فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضا، أو على سفر، فعدة من أيام أخر.. يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر، ولتكملوا العدة، ولتكبروا الله على ما هداكم، ولعلكم تشكرون).. وقال تعالى عن الحج: (الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث، ولا فسوق، ولا جدال في الحج.. وما تفعلوا من خير يعلمه الله.. وتزودوا، فإن خير الزاد التقوى، واتقوني يا أولي الألباب).. وعن الزكاة قال تعالى: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات، وغير معروشات، والنخل، والزرع، مختلفا أكله، والزيتون، والرمان، متشابها، وغير متشابه.. كلوا من ثمره إذا أثمر.. وآتوا حقه يوم حصاده.. ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين) هذه جميع العبادات.. ولها، جميعا، أوقاتها التي تؤدى فيها، ولكل وقت أدبه الذي يناسبه، والذي جاءت به الشريعة.. وما أدب الوقت في الشريعة إلا وسيلة إلى أدب الوقت في الحقيقة.. وأدب الوقت في الحقيقة هو العبودية.. وهو يعني أن تكون لله كما هو لك.. وهيهات!! وإنما الوفاء به هو شغل العباد..
ومع أن الأشياء التي توزعنا عن الله، وتسترقنا، فتنقص بذلك عبوديتنا له، كثيرة، ومختلفة، ومتفاوتة، إلا أنها، جميعها، يحتويها الزمان.. والزمان طاقة متحركة في نفسها، ولكن ليس بنفسها.. وعندما تتمركز هذه الطاقة المتحركة في نقطة معينة منها، وتتحرك حولها بسرعة تختلف عما حولها، يبرز لها تجسيد بصورة تلفت الإنتباه، وتتكون، حينئذ، المادة المألوفة عندنا، والتي منها برزت الأكوان المنظورة بالعين المجردة، وغير المنظورة.. وهذه الطاقة المتحركة تمثل إرادة المريد، المتفرد بالإرادة، وتجيء هذه الإرادة الحكيمة وسطا بين طرفين، من أعلاها العلم، ومن أسفلها القدرة، وهي بذلك تمثل قوام القوة الفاعلة..