بسـم الله الرحمن الرحيم
"يأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً، ويكفر عنكم سيئاتكم، ويغفر لكم، والله ذو الفضل العظيم"
صدق الله العظيم
مقـــدمة:
ليس هذا الكتاب كأحد الكتب التي ألفها الناس عنا، من حيث وحدة الموضوع.. ذلك بأنه يتألف من أجوبة على أسئلة، جاءت أشتاتاً، من فضلاء يتفتحون على العرفان، ويهتمون بقضايا الفكر المعاصر.. ولقد احتفلت بأسئلتهم هذه، وكان ذلك مني حرصاً على كرامة الفكر، في بلد لم يظفر الفكر فيه، إلى الآن، بكبير كرامة.. ومع ذلك، فإن حرصي على تكريم الفكر إنما يستمد أسبابه من اقتناع تام، بأن ليل الجهل قد أخذ ينجاب، وأن نور الفكر قد أخذ ينشر أجنحته المشرقة على هذه الأرض الحزينة، ومن ورائها، على هذا الكوكب الحائر..
سـر الحياة
قديماً هام الناس بسر الحياة الأعظم.. هاموا بسر القدرة، وبسر الخلود... فجدَّ الفلاسفة وراء ما أسموه بحجر الفلاسفة، وبحث الكيماويون عما أسموه إكسير الحياة.. وحلم القصاصون بخاتم المنى، وبالفانوس السحري.. ولم يظفر أي من هؤلاء بشيء مما كانوا يبتغون.
قل لهؤلاء جميعاً، ولغير هؤلاء، من سائر الناس، إن سر الحياة الأعظم ــ إن إكسير الحياة ــ هو الفكر.. الفكر الحر.. الفكر القوي، الدقيق، الذي يملك القدرة على أن يفلق الشعرة، ويملك القدرة على أن يميز بين فلقتيها.. وهذا الفكر إنما هو ثمرة للعقل المسدد، المروض، المؤدب بأدب الحق، وأدب الحقيقة. ..
الإسلام و القرآن وسيلة
وإنما، من أجل رياضة العقول على أدب الحق، وأدب الحقيقة، حتى تقوى على دقة التفكير، جاء الإسلام، وأنزل القرآن، وشرعت الشريعة.. فأنت، إذا سئلت عن الإسلام، فقل لهم: إنه منهاج حياة، وفقه تراض العقول لتقوى على دقة التفكير.. والله تبارك وتعالى، يقول في ذلك: "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم، ولعلهم يتفكرون".. قوله، تعالى: "وأنزلنا إليك الذكر" يعني القرآن، المحتوي على الحقيقة، كلها، وعلى الشريعة، كلها ــ الحقيقة التي هي أعلى من مستواك، والحقيقة التي في مستواك، والحقيقة التي في مستوى أمتك.. وعلى الشريعة التي هي في مستواك، والشريعة التي في مستوى أمتك ــ قوله، تعالى: "لتبين للناس ما نزل إليهم" يعني لتفصل لهم الشريعة التي يحتاجون، وطرفاً من الحقيقة التي يطيقونها، مما يزيد في فهمهم، واحترامهم للشريعة.. قوله، تعالى: "و" من قوله تعالى "ولعلهم يتفكرون" يعني مرهم أن يعملوا بالشريعة، بعقول مفتوحة، وقلوب حاضرة.. قوله تعالى "لعلهم يتفكرون" هو المعلول، وراء كل العلل، والمطلوب، وراء كل المطالب، والمقصود، وراء كل المقاصد.. يتفكرون في ماذا؟ في السموات والأرض؟ لا !! ليس فحسب!! فإنما هذا تفكير مقصود لغيره.. مقصود بالحوالة !! وأما التفكير المقصود بالأصالة فهو تفكيرهم في أنفسهم.. قال تعالى: "وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم !! أفلا تبصرون؟".
رياضة العقول
والآية التي صدرنا بها هذه المقدمة إنما جاءت بسبيل من رياضة العقول، حتى تقوى على دقة الفكر، وحريته.."يأيها الذين آمنوا" الذين استقبلوا الدين بالعقيدة، ولم يستيقنوه بالفكر، فيصبحوا "مسلمين".. "إن تتقوا الله" يعني إن تعملوا بالشريعة، فتأتمروا بالأمر، وتنتهوا عند النهي.."يجعل لكم فرقاناً"، يعني نوراً في عقولكم، به تفرقون بين الحق والباطل.. يعني يجعل لكم مقدرة في عقولكم، بفضل التقوى، بها تقوون على التفكير الدقيق، والتمييز السليم، بين ما يليق وما لا يليق.. بين الحلال والحرام.."الحرام ما حاك في نفسك، وخشيت أن يطلع عليه الناس".. والتقوى "شجرة" والفرقان "ثمرة"، وبقدر ما تدق التقوى يدق الفرقان، ويقوى.. فالتقوى تبدأ من صورتها الغليظة، ثم تسير نحو الدقة.. وكذلك الفرقان، يبدأ من بداية بسيطة، وضعيفة، ثم يسير نحو الدقة، والقوة، تبعاً لسير التقوى.. وصورة التقوى، والفرقان، ومسيرتهما نحو الدقة، من الغلظة، يحكيها، أحسن حكاية، الحديث الشريف: "الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه، ولعرضه..".. فكأن التقوى، في بدايتها، لا تحتاج إلى كبير عناء، وكذلك قوة العقل، المميزة بين الحلال والحرام، لا تحتاج إلى شدة دقة.. ثم يبدأ السير، من الطرفين الغليظين، نحو الوسط ــ نحو منطقة الأمور المشتبهات ــ وهي منطقة فيها تبدأ الحاجة إلى قوة فكرية، زائدة، بها يقع التمييز بين الحلال والحرام.. وفيها أيضاً تبدأ الحاجة إلى قوة في الإرادة، زائدة، بها تقوم القدرة على فعل ما هو به مأمور، وترك ما هو عنه منهي.. وتصبح التقوى، ههنا، علماً وعملاً بمقتضى العلم.. أو قل، تصبح قوة على التمييز، ومقدرة على التنفيذ، حسب ما يمليه التمييز..