هل الأبعاد المعروفة تأخذ دلالاتها في المكان المطلق ، كما عرفه نيوتن. و كيف يكون الله هو البعد الرابع ، كما ذكرت أنت في إجابتك للأخ السنوسي؟
الجواب: أول ما تجب الإشارة إليه هو أنه ليس هناك مكان مطلق.. ولقد عرف نيوتن ما أسماه مكاناً مطلقاً بالعبارة الآتية: "المكان المطلق يبقى، بطبيعته، مستقلاً عن أي ارتباط بالأشياء الخارجية، ويظل، سرمدياً، لا حراك به، مشابهاً، دوماً، لذاته" إن المكان مادة، والمادة لا ثبات لها، فهي في حركة دءوب ــــــ حركة في الصيرورة من الكم إلى الكيف ــــــ فإن الحركة هي المادة، وبنفس هذا القدر، فليس هناك "زمان مطلق" كما زعم نيوتن، لأن الزمن إنما هو وليد المادة، هو هيئة المادة، هو حركة.. ولكن ما أسماه نيوتن "بالمكان المطلق" و"الزمان المطلق" إنما هو الموجود المطلق الوجود، الذي يؤثر ولا يتأثر، ويحرك ولا يتحرك.. إنما هو الله، سبحانه وتعالى.. وتسميته، سبحانه وتعالى، بالمكان، أو بالزمان، جائزة، على شرط أن نعرف أنه غير ما نتخيل من المكان، ومن الزمان.. فإن كل ما في الوجود أسماء الله، تبارك وتعالى، ولكن على نحو يتناهى في الكمال، حتى يخرج عن التصور، ويجهل فيه الكيف.. فإذا علمت هذا، فأعلم أن الأبعاد المعروفة عندنا للمكان إنما تأخذ دلالتها من هذا المكان المطلق، لأنها قيد في المقاس المحدود الذي يمثل طرفاً من المكان المطلق. وكل بعد من الأبعاد الثلاثة، يأخذ مدلوله من نسبته إلى المكان المطلق، وهذا هو المعنى الذي يراد من أن البعد الرابع إنما هو الله. ــــــ هو المكان المطلق، والزمان المطلق ــــــ فما من بعد، من الأبعاد، إلا يأخذ مدلوله منه، سبحانه وتعالى، لأن به تعالى قيومية كل قائم، فلولاه لما كان وجود، ولا عدم.. وهذا باب يطول شرحه، وهو أصل التوحيد، وفيه دقائقه.
يقول الماديون أن المادة موجودة خارج الذهن ، ويدحضون الرأي القائل بأنها إحساس فقط (SENSATION) بقولهم أن العقل ذاته مادة ، وتقول أنت أن المادة ، كما نألفها و نعرفها، وهم من أوهام الحواس .. فهل تعني بقولك ((كما نألفها و نعرفها)) بأنها فعلاً موجودة خارج الذهن ، و لكن إحساسنا بها ما يزال خاطئاً ؟
أعني ذلك ! فإنه ما من شك أن المادة موجودة خارج الذهن البشري، وباستقلال عنه.. أعني أنها وجدت قبل أن يوجد الذهن البشري في حيز الظهور.. ولكن وجودها، كما تعطيه الحواس، إنما هو مظهر لأمر وراءه، لا نعرفه نحن.. إننا نعرف بعض خواص المادة، ولكننا لا نعرف كنهها.. إن المادة إنما هي مظهر لإرادة الله العلي.. هي هو.. هي ذاته في تنزلات ثلاث: تنزلت إلى مرتبة الاسم، وثانية إلى مرتبة الصفة، ثم ثالثة إلى مرتبة الفعل.. مرتبة العلم والإرادة والقدرة.. فكأن المادة إنما هي علم الله مجسداً.. المادة تجسيد الله.. وهي دليلنا عليه، ودليلنا إليه.. قال، جل من قائل، "سنريهم آياتنا، في الآفاق، وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد؟" ولقد قال العارفون "ما في الكون إلا الله" يعنون أن ليس في الكون إلا ذات الله، وأسماؤه، وصفاته، وأفعاله.. والمادة فعله في حيز المحسوس.. هذه هي المادة "كما نألفها ونعرفها" كما ورد بذلك التعبير الذي أشرت أنت إليه في سؤالك، وهي، في هذا المستوى، وهم من أوهام الحواس، لأنها، عندما تفتَّت بانفلاق الذرة، ظهر أنها طاقة، "تدفع"، و"تجذب" في الفضاء ــــــ ظهر أنها حركة ــــــ وعندما تتركز هذه الحركة في نقطة معينة، بسرعة تختلف عما حولها، يبرز تجسيد لها، بصورة تلفت الانتباه، فيكون ما يعرف عندنا بالمادة، حتى لقد قادت هذه الظاهرة بعض العلماء إلى خطأ شائع، وهو قولهم أن "الحركة هي شكل وجود المادة" ولقد تبنى هذا الخطأ الماركسيون أيضاً، وهذا فريدرك أنجلس يحدثنا، من كتاب له اسمه "ضد دوهرنغ" فيقول: "إن وحدة العالم ليست في كيانه.. بل في ماديته.. وهذه المادية قد أثبتها.. تطور طويل، وشاق، للفلسفة، وعلوم الطبيعة.. الحركة شكل وجود المادة.. لم يوجد، قط، ولا يمكن أن يوجد، أبداً، في أي مكان، مادة بدون حركة، ولا حركة بدون مادة.. ولكن، إذا تساءلنا.. عن ماهية الفكر والإدراك، وعن مصدرهما، نجد أنهما نتاج الدماغ الإنساني، وأن الإنسان، نفسه، هو نتاج الطبيعة، الذي نما، وتطور، في محيط طبيعي معين، ومع هذا المحيط.. وإذ ذاك يغدو، من البداهة، إن نتاجات دماغ الإنسان، التي هي أيضاً، عند آخر تحليل، نتاجات للطبيعة، ليست في تناقض، بل في انسجام مع سائر الطبيعة" وكان حديث أنجلس هذا في تدعيم حديث لماركس، ورد في كتابه "رأس المال" المجلد الأول، في توضيح، في آخر الطبعة الثانية، وذلك حيث يقول "يرى هيقل أن حركة الفكر، هذه الحركة التي يشخصها، ويطلق عليها اسم الفكرة، هي الإله، "الخالق، الصانع"، للواقع.. أما أنا فإني أرى العكس: إن حركة الفكر ليست إلا انعكاساً لحركة المادة، منقولة إلى دماغ الإنسان، ومتحولة فيه" وسنعود للحديث عن خطأ الماركسيين في السفر الخاص "بالماركسية في الميزان".. ولكن الذي يهمنا هنا هو أن نقرر أن الحركة ليست "شكل وجود المادة" وإنما هي المادة نفسها، في أعلى صورها المحسوسة، ثم لا يكون بعد تطور الحركة إلا غياب المادة عن الحواس.. والحركة إنما هي التطور المستمر، من أسفل إلى أعلى، ومن صور غليظة، إلى صور رفيعة، ومن كم إلى كيف، ومن بعد، إلى قرب، ومن جهل إلى معرفة، وقد عبر عنها القرآن عبارات هي نهاية الدقة، وذلك حين قال، جل من قائل، "يأيها الإنسان إنك كادحُ إلى ربك، كدحاً، فملاقيه" يعني يأيها الإنسان إن الله مسيرك سيراً حتمياً ــــــ أردت أولم ترد ــــــ من الجهل إلى المعرفة، لأن ملاقاة الله لا تكون في مكان، ولا في زمان، وإنما تكون بتقريب صفات العبد، من صفات الرب.. فإن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان على صورته، فإنه، جل وعلا، حي، وعالم، ومريد، وقادر، وسميع، وبصير، ومتكلم.. وقد خلق الإنسان ــــــ أي إنسان ــــــ فجعله حياً، وعالماً، ومريداً، وقادراً، وسميعاً، وبصيراً، ومتكلماً، ولكن صفات الله تعالى في نهاية الكمال، وصفات الإنسان في نهاية النقص، ثم أن الله تعالى سير إليه الإنسان في مراقي الكمال، بالتطور المستمر في هذه المراقي، وكلما حقق الإنسان كمالاً، كلما ظهر له أن الكمال الذي أمامه أكبر مما حقق، فسار يرقى المراتب ويقطع درجات القرب، بإرادة منه، وبغير إرادة.. وهذا معنى قوله، تبارك وتعالى: "يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك، كدحاً فملاقيه" وملاقاة الله سير سرمدي، في الإطلاق، وهذا يعني أن ليس هناك حد لتطور الإنسان، وترقيه.. والتطور، في جميع عناصر الوجود، انطلاق لا يعرف الاستقرار.. ولقد عبر عنها القرآن بقوله تعالى "كل يومٍ هو في شأن" وشأنه، تعالى، ظهوره لخلقه ليعرفوه.. ويومه، تعالى، ليس أربعاً وعشرين ساعة، وإنما يومه، تعالى، وحدة زمن ظهوره.. وهو يتناهى في الدقة، حتى ليكاد أن يخرج عن الزمان.. فكل دقة في الوحدة الزمنية أمكنك تصورها فهي يومه.. جزء من بليون جزء من الثانية، مثلاً.. وما هو أدق من ذلك في تصور العقول الكبيرة.. فكأن الوجود حركة لا تنقطع، على الإطلاق، إلى غاية لن يبلغها، لأنها الإطلاق.. والحركة الحسية، في جميع الجهات.. لأن الحركة المعنوية من الجهل إلى العلم.. وقد عبر القرآن عن الحركة في جميع الجهات بقوله تعالى "وترى الجبال تحسبها جامدة، وهي تمر مر السحاب، صنع الله، الذي أتقن كل شيء، إنه خبير بما تفعلون" ويجب ملاحظة أنه لم يقل "وترى الجبال تحسبها "ثابتة" وإنما قال تحسبها "جامدة" وهي كلمة تنفي ثبات التكوين، وتدل على أن حجارة الجبل تتعرض لحركة مستمرة، لا تقف، تنتظم ذرات تكوينها الداخلي، كما يحدث لسحابة الدخان "بخار الماء" ثم هو، بعد أن قرر الحركة في داخل التكوين الذري للجبال، قرر أيضاً مروره عبر الفضاء، في جميع الجهات، وذلك حين قال "وهي تمر مر السحاب"..
ثم إن هذه الحركة الدءوب، التي تنتظم جميع العناصر، في جملتها، وفي تفصيل تكوينها، إنما جعلها الله مسخرة للإنسان، وهو طليعة العناصر، لينتقل بهذه الحركة من كم إلى كيف.. من جسم إلى عقل.. من جهل إلى معرفة.. من حيوان إلى إنسان. "إلى إله" وهناك كثير يقال في هذا الباب، ولكن يبدو أني سأقف عند هذا الحد.. ثم إن أسئلتك التي تتطلب توسعاً في شرح بعض ما ورد في "الرسالة الثانية من الإسلام" وما ورد في الرد على بعض أسئلة الأستاذ السنوسي ستؤجل، في الوقت الحاضر، نسبة لضيق الوقت، وإني لأرجو أن نتحدث عنها حديثاً خاصاً، قد يغني عن الكتابة فيها، ذلك لأن أصولها قد وردت في هذين الأصلين.. هذا وإني لأرجو أن تتقبل فائق تقديري.
المخلص
محمود محمد طه
أم درمان في 7 ربيع أول 1388
3 يونيو 1968