هل تجد سياسة رفض العنف أساساً متيناً في الإسلام؟
العنف مرفوض في الإسلام ولكن، كما سبق إلى ذلك البيان، فإن شريعة الإسلام ليست هي كل الإسلام، وإنما هي المدخل على الإسلام، أو هي الإسلام، متنزلاً إلى أرض الناس - حسب مداركهم، واستعدادهم، وحسب حاجتهم.. ففي أصل الإسلام "أدع إلى سبيل ربك بالحكمة، والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن" وفي أصل الإسلام "لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي".. وكثير من الآيات التي تدعو إلى سعة الأفق، والإسماح مع المخالفين في الرأي، ولكن كل أولئك منسوخ، في الشريعة، ومستبدل بآيات دون هذه في مستوى التسامح.. مثل "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" أو "يأيها النبي جاهد الكفار، والمنافقين، وأغلظ عليهم" أو "يأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، وليجدوا فيكم غلظة" .
فأنت ترى، إذن، أن العنف غير مرفوض في الإسلام، في القرآن، وهو مرفوض أيضاً، فيقع في خلد غير المحقق أن هناك تناقضاً في القرآن، والأمر خلاف ذلك.. ذلك لأن شريعة الإسلام مدخل عليه، وهي مرحلية ــــــ هي مرحلة الإيمان من الإسلام ــــــ وعندما يجيء تشريع الإسلام، في أوَجِهِ، فإنه لا يقوم إلا على رفض العنف، وقد جاءت الإجابة على ذلك في الرد على السؤال نمرة 5 فليراجع.
ما طبيعة براهين وجود الله في القرآن؟
الإسلام دين الأميين.. فرسوله أمي، وأمته أمية.. قال تعالى في ذلك "هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب، والحكمة، وإن كانوا، من قبل، لفي ضلالٍ مبين" والأمية تعني سلامة الفطرة من زغل التحصيل، وتعقيد التفلسف، والتنطع الذي يصحب، عادةً، التعليم.."والإسلام دين الفطرة" التي ساقها النبي تعني السلامة والبراءة، والصدق، التي تقرب من السذاجة، والطفولة، وهذه نصيب الأمي، عادة ً، فيها أكبر من نصيب القارئ، والمحصل، والحاذق في دروب الدنيا المعقدة.
وأدلة القرآن في طبيعتها تتجه إلى إشباع حاجة هذه الفطرة إلى وجود الله.. فكأن الإنسان مفطور بشعور عميق بأن هناك قوة هائلة هي التي أوجدته، وأوجدت الكون من حوله، بأرضه، وسمائه، وشمسه، وقمره، ونجومه.. ولكن هذه القوة التي يشعر بوجودها، شعوراً فطرياً، لا يعرف عنها، وعن علاقته بها، ما تطمئن إليه نفسه، فجاءت أدلة القرآن تدعو إلى النظر في دقة خلق الله، وإحكام هذا الخلق. وأغراض هذه الأدلة متعددة، ولكنها، في جملتها، ترمي إلى إنشاء الثقة في صدور العباد بقوة، ومقدرة، ورحمة هذه القوة الهائلة، وبوحدتها أيضاً.. وهي ترمي، وراء كل ذلك، إلى إنشاء الصلة بين الخالق والخلق، وكأنها العلاقة بين الأب، والأبناء ــــــ الأب الرحيم، الحكيم، القادر على كل شيء، والمحب لخير، ومصلحة أبنائه.. فطبيعة براهين وجود الله في القرآن تتجه إلى إشباع الحاجة إليه.. والحاجة إليه قائمة في كل الصدور ــــــ وإشباعها يتجه إلى وصفه بالقدرة، والرحمة.. فبقدرته يخاف، ويطمع فيه. وبرحمته يحب، وتتوفر إليه الطمأنينة.. فكأنه الأب القادر على توصيل الخير إلى أبنائه، والراغب، أشد الرغبة، في تحقيق مصلحة أبنائه "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه، وبالوالدين إحسانا" فعندما ذكر إفراده بالعبادة، ذكر الوالدين، وخصهم بالإحسان، وذلك للقرينة بين الأب والرب.
طبيعة براهين القرآن البساطة في النظر إلى البديهيات التي لا يمكن أن تنسب إلى غير الله، وتوكيد توحيده في مملكته، حتى نطمئن إلى سعة قدرته.. ثم، بعد ذلك، إنشاء هذه العلاقة بيننا وبينه، حتى تطمئن نفوسنا، كما تطمئن نفوس الأطفال إلى الأب المقتدر، الحكيم، الرحيم.. ومع ذلك، فإن من كمال الإسلام أن هذه البراهين البسيطة، الصالحة لبداية المبتدئ الساذج، تطَّرد، وتتسامى، حتى تكون كافية لإنجاب أقوى العقول المفكرة، وأكثرها كفاية، واقتداراً على دقة النظر.. وأشمل آية لطبيعة براهين القرآن على وجود الله قوله تعالى "سنريهم آياتنا، في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق.. أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد؟" وآيات الله في الآفاق تعني كل ما خلق في الوجود حولنا من أجرام، ومن حركات، وسكنات.. وآيات النفوس مقابلة المعاني فيها لهذه الأجرام.. فكأن الله خلق الوجود على صورة مكبرة، هي في الآفاق، حولنا.. وعلى صورة مصغرة، هي ما انطوت عليه النفس البشرية من معان مودعة في القلب والعقل، ولذلك فقد قال شاعر العارفين الصوفية :
و تزعم أنك جرمُ صغير ُ * و فيك إنطوى العالم الأكبر ؟
والأكبر، والأصغر، هنا باعتبار الأحجام المألوفة، وإلا فإن العالم الأكبر هو الإنسان، والعالم الأصغر هو الأكوان.. وفي الإنسان الله، وليس الله في الأكوان.. فإنه، في حديث قدسي، جاء قوله: "ما وسعني أرضي، ولا سمائي، وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن" والسعة هنا ليست مكاناً، ولكن علماً.. ولذلك فإن في قلب الإنسان الحقيقة الأزلية التي ما الوجود في الآفاق إلا صور لها.. ونحن نعلم علم الله كله، ولكننا نسيناه، وليس شيء في الوجود يعلمنا شيئاً مستأنفاً، وإنما الأشياء تذكرنا بالحقيقة المركوزة فينا، ولكننا نسيناها.. ولذلك فإن الله يقول عن القرآن "ولقد يسرنا القرآن للذكر، فهل من مدكر؟".. فدعوة القرآن، إذن، إلى النظر في آيات الآفاق إنما المراد بها مقابلة الصورة في الخارج، بالمعنى في داخل النفس البشرية، لينبعث المعنى، فتعلم النفس.. أو قل لتتذكر ما كانت به عالمة فنسيته.. "وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون؟" فإذا تذكرت النفس الحقيقة الأزلية المودعة فيها فقد استغنت عن الاستدلال، والارتفاق بآيات الآفاق، وأصبحت مكتفية بذاتها عنها، في معنى ما هي مكتفية بالله، لأن الذات واحدة، وأصبحت لها قيومية بربها، لا بالأكوان.. وأصبحت تعرف الأكوان بالله، بعد أن كانت تتعرف إلى الله بالأكوان.. وهذا معنى الإشارة، في الآية الأولى، بقوله تعالى "أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد؟" وهو قول يحمل معنى التوبيخ، والعتاب..
ومن كانت قيوميته بالله، واستغناؤه بالله، كان الله، ولم يكن غيره.. وإلى ذلك أشار العارف النابلسي حين قال :
إن تكن بالله قائم ** لم تكن ، بل أنت هو
انت ظــل الغيب من اســـمائه والشمس هو
فالقرآن، إذن، يسوق براهينه بصورة تكفي المبتدئ، ولا تكلفه شططاً، على ما به من أمية، وسذاجة.. ثم تتسع، في نفس الأمر، لأعلى العقول، وأقواها على دقة النظر في الأمور.
يمكنك أن تقول، بإيجاز، أن طبيعة براهين القرآن على وجود الله طبيعة من يعرف الحقيقة المطلقة، ويعرف طاقة النفوس المحدودة في إدراك هذه الحقيقة على التدرج، والترقي المستمر، من بداية بسيطة، إلى نهاية معقدة تتسامى في الكمال المطلق الذي هو حظ الله تبارك وتعالى..