الفصل الأول
الضحية كانت سنة عادة لا سنة عبادة
ماهي سنة العادة؟؟
سنة العادة هي ما كان يفعله الرسول، صلى الله عليه وسلم، أخذا بالعادة السائدة في ذلك المجتمع، والتي إنما تتعلق بمظاهر الحياة، كالمأكل، والملبس، والمركب، مما يمثل التطور التاريخي لذلك المجتمع، ولا يتعلّق بجوهر العبادة، أو المعاملة، ولا يتعارض مع غرض من أغراض الدين، في ذلك الوقت.. ولقد كان أخذه، صلى الله عليه وسلم، بمثل هذه العادة إنما هو من تمام تنزل الرسالة إلى أرض الواقع المعاش، حيث تقتضي الحكمة ألا تصادم الرسالة العرف، وإنما أن تعايشه وتهذبه، وتتسامى به.. قال تعالى لرسوله الكريم: (خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين)، وذلك تدريجا للناس، ورحمة بهم، ودفعا للمشقة، والعنت، عنهم.. قال تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم).. ومن هذه الحكمة أن سنة العادة ليست سنة باقية، وإنما هي رهينة بالظروف التاريخية الموقوتة، فهي تتطور، وتتغير حسب ما يجدَُ من تطور المجتمع البشري، والفرد البشري.. ومن سنة العادة كانت اللحية، والعمامة، والعصا، والضحية..
أما سنة العبادة، تمييزا لها عن سنة العادة، فإنما هي السنة الباقية، الواجبة الاتَِباع، لأنها تقوم على أصول القرآن الثابتة، وتمثل عمل النبي الكريم، في خاصة نفسه، والدال على معرفته بربه، وعبوديته له.. هذه هي السنة التي نعنيها حيثما تحدثنا عن السنة، وذلك كالصلوات الخمس، وصلاة القيام في الثلث الأخير من الليل، وكالزكاة النبوية في إنفاق ما زاد عن الحاجة الحاضرة.. وهذه السنة هي معاملة النبي لربه، وهي تثمر معاملة النبي للخلق، وهي تقوم ابتداء على كف الأذى عن الناس، ثم تحمل الأذى منهم، ثم توصيل الخير إليهم. وهذه هي السنة المعنية بقول النبي الكريم: (بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا، كما بدأ، فطوبي للغرباء!! قالوا: من الغرباء يا رسول الله؟؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد اندثارها)!!
والضحية سنة من سنن العادة التي فعلها الرسول الكريم، ولكنها، حتى كسنة عادة، أقل سنن العادة تأكيدا، فقد أسقطها عن أفراد أمته، لقيامه بها عنهم، فلم يلتزمها أكابر أصحابه، وسائرهم كما سنرى في هذا الفصل.
الضحية والهدي سنة عادة لها جذورها قبل الإسلام من الفداء الإنساني إلى الفداء الحيواني:
ها هو الأستاذ محمود محمد طه يتحدث عن طور من أطوار (الضحية) حينما كان الفرد البشري هو نفسه، (الضحية)!! ثم عن طور آخر منها حينما فُدي الأنسان بالحيوان، فصار الحيوان هو (الضحية).. مشيرا بذلك، إلى طور جديد فيه تسقط حتى (الضحية) بالحيوان فيتم، بالعلم، فداء الفرد البشرى، وفداء الحيوان، معا!! يقول الأستاذ محمود في كتاب: (الرسالة الثانية من الإسلام)، صفحة 29: (ولما كان الفرد البشري الأول غليظ الطبع، قاسي القلب، بليد الحس، حيواني النزعة، فقد احتاج إلى عنف عنيف لترويضه، ولنقله من الاستيحاش إلى الاستيناس، وكذلك كان العرف الاجتماعي الأول، شديدا عنيفا، يفرض الموت عقوبة على أيسر المخالفات، بل إنه يفرض على الأفراد الصالحين أن يضعوا حياتهم دائما في خدمة مجتمعهم، فقد كانت الضحية البشرية معروفة تذبح على مذابح معابد الجماعة، استجلابا لرضا الآلهة، أو دفعا لغضبها حين يظن بها الغضب، ولقد كانت هذه الشريعة العنيفة، في دحض حرية الفرد، في سبيل مصلحة الجماعة معروفة، ومعمولا بها، إلى وقت قريب، ففي زمن أبي الأنبياء، إبراهيم الخليل وهو قد عاش قبل ميلاد المسيح بحوالي ألفي سنة، كانت هذه الشريعة لا تزال مقبولة دينا وعقلا، فإنه هو نفسه قد أمر بذبح ابنه إسماعيل، فأقبل على تنفيذ الأمر غير هياب ولا متردد، فتأذًَن الله يومئذ، بنسخها فنسخت، وفدي البشر بحيوانية أغلظ من حيوانيته، وكان هذا إعلاما بأن ارتفاع البشر درجة فوق درجة الحيوان قد أشرف على غايته، ولقد قص الله علينا من أمر إبراهيم وإسماعيل فقال
((وقال إني ذاهب إلى ربي سيهديني * رب هب لي من الصالحين * فبشرناه بغلام حليم * فلما بلغ معه السعي قال يا بنيَ إني أرى في المنام أنى أذبحك، فانظر ماذا ترى، قال يا أبتي افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين * فلمّا أسلما وتله للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين * إن هذا لهو البلاء المبين * وفديناه بذبح عظيم * وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إبراهيم
)).
((وتركنا عليه في الآخرين
)) تعني، فيما تعني، إبطال شريعة العنف بالفرد البشري، لأنها لبثت حقبا سحيقة، وقد تم انتفاعه بها، فارتفع من وهدة الحيوانية، وأصبح خليقا أن يفدى بما هو دونه من بهيمة الأنعام.. ولا عبرة ببعض صور العنف التي لا يزال يتعرّض لها الأفراد في المجتمعات البشرية المعاصرة، فإنها آيلة إلى الزوال كلما أتيحت لها فرص الوعي والرشد.. فإن التضحية الحسية بالفرد البشري لم تنته بجرة قلم على عهد إبراهيم الخليل، والتاريخ يخبرنا أن المسلمين، لدى فتح مصر، قد وجدوها تمارس في صورة عروس النيل، فإنه قد قيل إن عمرو بن العاص، فاتح مصر وأميرها يومئذ، قد انتبه ذات يوم على جلبة عظيمة، فسأل عنها، فأخبر أن القوم قد جرى عرفهم بأن يتخيروا بنتا، من أجمل الفتيات، ومن أعرق الأسر، يزفونها كل عام إلى النيل، يلقونها في أحضانه فداء لقومها من القحط، لأنها تغري النيل بأن يفيض عليهم باليمن والبركات، فطلب إليهم عمرو بن العاص أن يستأنوا بها، حتى يستأمر عمر بن الخطاب في ذلك، فكتب إلى عمر، فرد عمر بجوابه المشهور الذي قال فيه:
((بسم الله الرحمن الرحيم...
من عبد الله عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين، إلى نيل مصر. السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته. أما بعد، فإن كنت تفيض من عندك فلا تفض، وان كنت إنما تفيض من عند الله ففض
))
وأمر عمرو بن العاص أن يلقيه في النيل، ففعل، وفاض النيل، وأبطلت من يومئذ تلك العادة، وتم بالعلم فداء جديد للفرد البشري..
فداء الإنسان بالعلم:
هذا ما جاء في كتاب (الرسالة الثانية من الاسلام) عن فداء الانسان بالحيوان.. وقد أشار هذا الكتاب أيضا، إلى فداء الإنسان بالعلم حينما تحدث عن بني إسرائيل فيما تحكيه الآية: (وإذا قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل، فتوبوا إلى بارئكم، فاقتلوا أنفسكم، ذلكم خير لكم عند بارئكم، فتاب عليكم، إنه هو التواب الرحيم) فقال الكتاب (وفرض عليهم، في التوبة، أن يقتلوا أنفسهم، قتلا حسيا، وهو بسبيل مما تحدثنا عنه في أمر الضحية بالفرد البشري على مذابح العبادة في أول النشأة) ومضى الكتاب ليقول (ولمّا تقدم الفرد البشري هونا وأصبح لا يحتاج كل ذلك التشديد ليتربى خفف عنه)، وتحدث الكتاب عن هذا التخفيف حين جاء التشريع في حق الأمة المحمدية: (ونهى عن قتل النفس حين أصبحت تستجيب بأقل من هذا العنف فقال "ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما" وهو إنما كان في شريعته بنا رحيما لأننا أصبحنا رحماء "كما تدين تدان") (الرسالة الثانية من الإسلام) ص 44 و45..
وقد أكد النبي الكريم أن حكمة الضحية بالحيوان قد أشرفت، هي أيضا، على غايتها، فضحي هو ببهيمة الأنعام، ففدى بها أمته.. ضحي بها ختما لسنة أبيه إبراهيم، في الفداء بالحيوان، وافتتاحا للعهد الذي تنتهي فيه عادة القربان الحيواني.. فإنه لما سأله أصحابه: ما هذه الأضاحي؟؟ قال: سنة أبيكم إبراهيم!! (سنن ابن ماجة، الجزء الثاني، صفحة 26، وتفسير إبن كثير لسورة الحج، الجزء الرابع، صفحة 641)..
الضحايا والهدايا في الجاهلية:
وعن عادة القربان بالضحايا والهدايا في الجاهلية يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى، من سورة الحج، (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها، ولكن يناله التقوى منكم، كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم، وبشر المحسنين)..
(يقول الله تعالى: إنما شرع لكم نحر هذه الهدايا والضحايا لتذكروه عند ذبحها، فإنه الخالق الرازق لا يناله شيء من لحومها، ولا دماؤها فإنه تعالى هو الغني عمّا سواه، وقد كانوا في جاهليتهم إذا ذبحوها، لآلهتهم وضعوا عليها من لحوم قرابينهم، ونضحوا عليها من دمائها، فقال تعالى: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها) وقال ابن أبي حاتم: حدثنا على بن الحسين، حدثنا محمدبن أبي حمّاد، حدثنا إبراهيم بن المختار عن أبي جريح قال: كان أهل الجاهلية ينضحون البيت بلحوم الأبل ودمائها، فقال أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم: (فنحن أحق أن ننضح) فأنزل الله (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم (أي يتقبل ذلك ويجزي عليه) - انتهي تفسير إبن كثير..
وهكذا فإن الضحايا والهدايا كانت عادة اجتماعية سائدة، قبل الإسلام، ولكنها كانت قرابين للآلهة، يذكرون عليها أسماءها، ولا يأكلون لحومها فلمّا جاء الإسلام أبقى على هذه العادة لارتباطها بالتطور التاريخي لذلك المجتمع، ولكنه جعلها قربة لله، بدلا عن الآلهة، وجعل ما يذكر عليها هو اسم الله، بدلا عن أسماء الآلهة، ومنع نضح دمائها ولحومها على الكعبة، وأباح أكل لحومها.. قال تعالى: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله، لكم فيها خير، فاذكروا اسم الله عليها صواف، فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها، وأطعموا القانع والمعتر، كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون)..
(فالبدن)، وهي إبل الهدي الذي يسوقه الحاج معه ليذبحه بعد أداء مناسكه، ويهديه للكعبة، كان للمسلمين فيها خير، (لكم فيها خير)، وهو الانتفاع بلحومها، كما وجهت لذكر الله، وشكره.. جاء في تفسير ابن كثير، الجزء الرابع، صفحة 632: ("فكلوا منها" قال كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم فرخص للمسلمين)..
ويقول كتاب (مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول) لأحمد إبراهيم الشريف، صفحة 182-183 عن أصل عادة (الهدي) قبل الإسلام، وعن دخولها عهد الإسلام: (ومضامين الآيات وأساليبها تلهم بقوة وصراحة أنها كانت من تقاليد العرب قبل البعثة وقد أقرّها الإسلام لما فيها من فوائد عظيمة في ظروف الحج وفي بيئته قبل البعثة وبعدها، وكان العرب يحيطون هذا التقليد بالعناية والحرمة بل التقديس والرهبة حتى ليترك الحاج هديه سائما فلا يتعرض له أحد بسوء لأن التعرّض له إنما هو التعرّض لمال الله وكان من عاداتهم ان يلطخوا جدران الكعبة بدماء الهدى تقربا إلى الله رب البيت وقد أبطل الإسلام هذه العادة ونسبه إلى أن الله لن يناله شيء من لحومها ولا دمائها ولكن الذي يريده من الناس هو التقوى والإخلاص، وكانوا يأثمون من أكل لحوم هديهم ويتركونها للفقراء والمساكين والسباع والجوارح، فأباح الإسلام لأصحاب الهدي أن شاءوا أن يأكلوا منه وأن يطعموا البائس والفقير والقانع والمعتر أي المحتاجين سألوا أو لم يسألوا، كما كانوا يذبحون الهدي عند الأوثان والأنصاب في فناء الكعبة ويذكرونها في أثناء الذبح فنهى القرآن عن هذا وأوجب ذكر الله وحده عند الذبح) انتهى.
فالهدي والضحية، كفداء وقربة، إنما كانت عادة اجتماعية سائدة قبل الاسلام، وقد دخلت عهد الاسلام بعد تهذيبها، وسنرى فيما يلي كيف ضحى النبي الكريم عن أمته فأسقط عنها وجوبها..