كيف ندبر المال اللاّزم؟
والسؤال الهام الذى لا بدّ أنه يجول بخاطر المسئولين، وهم مواجهون بهذه المطالبة الملّحة، المصحوبة بالتهديد بالإضراب، وشل الحركة الإقتصادية، وفتح الباب على مصراعيه للفوضى السياسية، هو: كيف ندبّر هذا المال لصرف المرحلة الثانية للتقويم؟ ثم ما هى التدابير التى ستتخذ للحيلولة دون التدهور الإقتصادى، والإجتماعى، الذى سيترتب على صرفه؟
إيمانا منّا بأن المشاركة بالبحث عن الإجابة العملية لهذين السؤالين هى مسؤولية كل فرد حادب على مصلحة هذه البلاد، فإنا سنشارك بمقترحات عملية للإجابة على هذين السؤالين، حتى نستطيع تجنيب وطننا النتائج الخطيرة التى ستترتب على عدم التقدم بالإجابات والحلول العملية فى هذا الظرف الحرج..
صرف النصف الثانى من التقويم على أقساط
أولا: لما كنا قد نصحنا السلطة بعدم اللجوء لإسلوب المواجهة المصحوبة بالتهديدات من قبل العمال، كان الخيار الذى طرحناه للسلطة، هو الإستجابة المبدئية لمطلب العمال تجنبا لما سيترتب على المواجهة من مخاطر عظيمة على البلاد، بالصورة التى أوضحناها فى المنشور الأول، ولكنّا فى ذات الوقت نرى أن تتم هذه الإستجابة على أقساط، لأنه من المؤكد عندنا، ومن واقع تجربة البلاد فى السنين السابقة، أن الإيرادات العامة، التى ظلت تعجز باستمرار عن أن تغطى الإنفاق العام، والذى كان أقل من اليوم بكثير، لا يمكن أن تتحمل دفعة واحدة هذه الزيادة الضخمة فى الإنفاق العام المترتبة على النصف الأول، والنصف الثانى، من تكلفة التقويم الوظيفى. هذا وما دامت الموارد الحقيقية العامة بهذه الحالة من الندرة، وأن الحكومة قد تضطر للإستدانة من النظام المصرفى، فإننا نرى أن تقسيط صرف التقويم لا بد أن يسهم فى التقليل من ضرورات اللجوء لهذا المصدر الوهمى، والخطير على الإستقرار الإقتصادى والإجتماعى، فى آن معا..
ضرورة مراجعة هيكل وبنود الميزانية العامة:
ان الهدف من مراجعة هيكل الميزانية العامة، وبنودها، هو محاولة لإيجاد وفورات من الموارد الحقيقية، من داخل الميزانية، وليس من خارجها، عن طريق مراجعة بندى منصرفاتها، وإيراداتها، لتوجه نحو مقابلة تبعات المرحلة الثانية من التقويم الوظيفى، بصورة تقلّل من الحاجة الى الإستدانة من النظام المصرفى، حتى نقلّص من عوامل التدهور الإقتصادى التى تترتب على التمويل العجزى. هذا ونحن نرى أن ما هو مطلوب تحقيقه عن طريق إعادة النظر فى بنود الميزانية العامة كبير بالقدر الذى يستوجب عملا ثوريا يتجاوز الأساليب التقليدية فى علاج الميزانيات، هذه الأساليب التى ظل معها العجز سمة دائمة للميزانيات فى هذا البلد. ومن ثم فإنّا نقترح الآتى لمواجهة هذا الموقف المتأزم:
1) تخفيض الدخول العليا بدءا برأس الدولة:
إن أول ما يجب توكيده، هو أنه فى ذات الوقت الذى ننتظر فيه من العمال، وهم الطبقة ذات الدخول الدنيا، أن تضحى، مقدّرة ظروف البلاد المالية العصيبة، وهى تطالب بصرف المرحلة الثانية من التقويم، فإنّا نرى أن الأولى بهذه التضحية، فى هذا الظرف العصيب، هم أصحاب الدخول العليا من كبار رجال الدولة، وكبار موظفيها، حتى يحس العمال بالمشاركة الفعلية ممن هم فى موقع القدوة، فيكونوا، هم، من جانبهم، على إستعداد للقبول بمبدأ التنازل، أو القبول بمبدأ تقسيط التقويم على أقلّ تقدير.. إن المبدأ الأخلاقى، والثوري، الذى ينادى به الجمهوريون منذ بداية عهدهم، وهو (ساووا السودانيين فى الفقر حتى يتساووا فى الغنى) لا بد أن يكون شعار اليوم، وأن يبدأ تطبيقه فى هذه المرحلة بتخفيض عام فى الدخول العليا، وبرفع لكل الإمتيازات، والبدلات بما فى ذلك الإمتيازات المادية للعضوية، فى إدارات اللجان والمؤسسات، التى ظلّ يتوق اليها كبار الموظفين كمصدر دخل إضافى على رواتبهم الأصلية، وأن يتم ذلك بدءا برأس الدولة الذى هو فى موقع القدوة الأولى، وهو الأولى بتجسيد هذا المبدأ الأخلاقى والثوري، فإن فى هذا البلد من يتقاضون مرتبات تترواح بين الـ 300 جنيها والـ 2250 جنيها فى الشهر، مضافا اليها البدلات، والعلاوات، والإمتيازات، فى حين أن هنالك قطاعا عريضا من العاملين لا يتجاوز دخلهم الشهرى الـ 30 جنيها، مما يعنى أن الدخل الأعلى يساوى أكثر من من الـ 70 ضعفا من الأدنى، وهذا فارق شاسع. هذا وبرغم كوننا نعلم تماما، ومن أول وهلة أن النتائج الفعلية لهذه التخفيضات، التى ننادى بها لتفرض على دخول كبار رجال الدولة، وعلى إنفاق مؤسساتها العامة، لا تغطى الاّ حيزا يسيرا من كلفة المرحلة الثانية من التقويم، الاّ أن القيمة الجوهرية التى نريد ترسيخها بهذا العمل هى القيمة الأخلاقية، والروح الثورية الجديدة، اللتان تدفعان نحو تحقيق مبدأ محو الفوارق الطبقية، وإشاعة روح التكافل، والتعاون بين فئات المجتمع.
2) خفضوا الصرف على المؤسسات والأجهزة العليا:
ان المؤسسات والأجهزة العليا لا بد أن يتولى شاغلوها زمام المبادرة ليقودوا حركة الثورة، وحركة التجديد، حيث هم القدوة التى يجب أن تتزعم الحركة الجديدة، لذلك فليس أقل من أن تطبق هذه الأجهزة مبدأ التقشف العام، ذلك أن الموقف الإقتصادى الذى تعيشه البلاد والذى تواجه فيه الحكومة بوادر أزمات سياسية بسبب الضغوط الفئوية وبخاصة فئة العمال، يستوجب أن تواجه هذه الأجهزة نفسها بمقتضيات هذا الواقع قبل أن تواجه غيرها، ولا نرى أن هنالك مواجهة يمكن أن تكون أكثر ثورية من إلتزام مبدأ التقشف العام، فإنها إن فعلت ذلك، فإن غيرها يرجى له أن يكون متفهما لما يقال له من ضرورة تفهم الواقع الإقتصادى الذى لا يسمح بمزيد المطالب. وهذا الكلام نوجهه بصفة خاصة للإتحاد الإشتراكى السودانى بوصفه التنظيم الذى يقوم على أكتافه هذا النظام، ثم نسوق مثلا آخر لهذه الأجهزة التى نطالبها بأن تعيد النظر فى مستوى إنفاقها، لتجّسد قيم المرحلة الجديدة التى ننادى بها، مجلس الشعب مثلا، فمجلس الشعب يبلغ أعضاؤه 304 أعضاء، يتقاضى الواحد منهم مرتبا شهريا صافيا يبلغ 403 جنيهات، مع الإمتيازات الأخرى التى يحصل عليها النائب، هذا المجلس الذى يطالب أعضاؤه الحكومة بتوفير الخدمات المختلفة لدوائرهم فى مجال التعليم والصحة، هو أولى من غيره بتفهم والتزام واجبات المرحلة الجديدة.
3) الإستفادة من إيجابيات قرارات إلغاء وتقليص الوزارات المركزية وذلك فى إتجاه فرض سياسة تقشفية عامة على الأجهزة التنفيذية، وبخاصة ما يتعلق منها بالإنفاق العام على إقامة المبانى وإستئجارها للتوسع المكتبى، وما يتعلق منها بالصرف على وقود العربات الحكومية وما الى ذلك، والأمر الذى يتناقض تناقضا واضحا مع سياسة تقليص الأجهزة المركزية.
4) إيقاف كل صور الصرف البذخى، نهائيا، وبدون إسثناء، وكذلك الحد من الصرف ولأقصى حد، على المناسبات العامة كالإحتفالات والمؤتمرات العامة وتوكيد سيادة القيم الجوهرية على المظاهر الشكلية التى تنهزم فيها الغاية بالوسيلة.
5) تكلفة التمثيل الدبلوماسى:
التمثيل الدبلوماسى يكلفنا كثيرا.. نحن لا نوصى بتقليل سفاراتنا فى الخارج ولكننا نوصى بأن يكون السفير سفيرا عن شعب فقير وناشىء وهو اذا يشرفه الاّ يكون باذخا مسرفا مفاخرا غيره من سفراء البلاد الغنية وإنما يشرفه أن يكون بسيطا فى جميع حالاته فى ملبسه وفى مركبه وفى مسكنه وفى حفلاته التى يدعو اليها فى المناسبات الوطنية الهامة..
6) التطبيق الصارم والكامل لقرار إخلاء المنازل الحكومية للإستفادة منها فى التخلص من مبانى القطاع الخاص التى تستأجرها الدولة بفئات عالية جدا، وكذلك فى زيادة مصادر الإيرادات العامة عن طريق تأجيرها، على أن تؤجر بسعر السوق الجارى لا بالإيجار الإسمى الذى عليه العمل اليوم..