إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

مشكلة الشرق الأوسط

الفصل الثالث

أخطاء الزعماء العرب


وما دمنا نتحدث عن غفلة القيادة العربية في ميادين السياسة والحرب فلعل من الخير أن نستعرض بعض أخطاء الزعماء العرب مما يؤيد القول بقلة حنكة هؤلاء الزعماء، ومما يوجب المحاسبة التامّة، بغية تصحيح الأوضاع، وبغية إقلاع الشعوب عن السير خلف زعامات ليس لها من الزعامة إلّا المظهر الكاذب، وإلّا الثرثرة الرعناء، التي لا تنم على عقل ولا خلق.. مما كبّد الأمة العربية خسائر في السمعة، والأنفس، والأموال من العسير تعويضها.. ومن المؤسف حقاً أن كثيراً من هذه الأخطاء لا تزال خافية على هؤلاء الزعماء وعلى كثير من حملة الأقلام العرب.. وأسوأ هذه الأخطاء فكرة القومية العربية..

القومية العربية


وخطأ دعوة القومية العربية لا يجئ فقط من كون القومية دعوة عنصرية، وإنما يجئ أيضاً من كون وقتنا الحاضر وقتاً ارتفع فيه الصراع إلى مستوى المذهبيات والأفكار.. ولما استشعر العرب هبوب رياح الأفكار لم يزدادوا هدى، وإنما ازدادوا ضلالاً، فزعموا أن القومية العربية ليست دعوة عنصرية، وإنما هي دعوة إلى وحدة الثقافة والتاريخ واللغة.. وزادوا، فزعموا أن هناك اشتراكية عربية تطبقها القومية العربية على العرب، وارتفع بذلك صوت السيد جمال عبد الناصر، في كل تصريحاته وكل خطبه.. وإنما هي الشيوعية الماركسية ينقلها السيد جمال عبد الناصر عن السيد يوسيب بروز تيتو في يوغسلافيا ليطبقها على العرب في مصر، وليدعو إلى تطبيقها، تحت اسم الثورة العربية، والتقدمية العربية، على حد تعبيره، والقومية العربية، في بلاد العرب الأخرى..
والقومية العربية ليست فكرة حديثة برزت مع أيام السيد جمال، وإنما هي حركة قديمة انبعثت في أوائل هذا القرن ضد السيطرة العثمانية في سوريا، وضد سياسة التتريك، وهي سياسة العنصرية التركية، التي كانت تميل الدولة العثمانية إلى اتباعها في البلاد العربية، ثم ضد الفرنسيين، بعد إقامة الانتداب الفرنسي سنة 1919م.. ويحدثنا الدكتور فليب حتي في كتابه ((تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين)) الجزء الثاني الصفحة 353 طبعة ((دار الثقافة بيروت)) فيقول تحت عنوان ((والقومية والنضال من أجل الاستقلال)) ما يلى:- ((بدأت هذه اليقظة القومية العربية حركة فكرية خالصة، مركزة على درس لغة العرب وتاريخهم وأدبهم، وكان روادها في الغالب من المفكرين السوريين، وبنوع خاص، من نصارى لبنان الذين تثـقفوا في الجامعة الأمريكية في بيروت.. فهؤلاء هم الذين شرعوا في تطويع العربية الفصحى لتغدوا أداة جديدة صالحة للتعبير عن الفكر الحديث.. على أن الفكرة القومية ومما استتبعته من تشديد عل الشئون المدنية والقيم المادية، جرت في اتجاه معاكس لأرفع المثل، وأعز التقاليد الإسلامية، التي لا تقر ولو مبدئيا بأية رابطة غير رابطة الدين، ثم إن اختيار الشعوب الناطقة بالعربية لهذا الطراز الجديد من القومية، وثورة الحسين شريف مكة سنة 1916 م على الأتراك العثمانيين، صدّعا البقية الباقية من الأمل بقيام وحدة إسلامية شاملة، وأقاما في مكانها وحدة عربية جامعة، أساسها اللغة والثقافة العلمانية لا العقيدة الدينية الخالصة))..
فالقومية العربية دعوة إلى تكتل العنصر العربي في مواجهة العثمانيين أولا ثمّ الفرنسيين، فيما بعد، وهي تقوم على ((اتجاه معاكس لأرفع المثل، وأعز التقاليد الإسلامية)) فهي دعوة عنصرية بلا فلسفة، ولقد استعار لها السوريون حين نشأت الأفكار الغربية.. ((وقد غدا لبنان أسرع استجابة إلى المؤثرات المسيحية الغربية، بعد نزوح الألوف من أبنائه إلى العالم الجديد))..
وفى أيامنا الحاضرة استعار لها السيد جمال عبد الناصر الأفكار الشيوعية وسماها ((الاشتراكية العربية)) وزعم أنها فلسفة القومية العربية.. وكل هذا باطل، والحق أن ليس للعرب فلسفة إلا فلسفة تقوم على أديم الإسلام، فإذا زعم دعاة القومية العربية لها أنها وحدة الثقافة ووحدة التاريخ ووحدة اللغة فقد وجب أن يذكروا أن العرب لم يكونوا شيئاً مذكوراً قبل الإسلام، فهم لم تكن لهم ثقافة، ولم يدخلوا التاريخ قبل أن يكونوا مسلمين، وكانت لغتهم لهجات قبلية متفرقة لم تتوحد إلّا بعد أن جاء القرآن بلغة قريش فوحَّدها.. فالإسلام هو الذي أعطى العرب الثقافة، وهو الذي أعطاهم اللغة، وهو الذي جعل لهم تاريخاً يذكر، إذا ذكرت تواريخ الأمم، وأمجادها، فإذا نصح العرب ناصحٌ بأن يلتمسوا العزّة عند غير الله بالإسلام إليه، فهو ناصح ((متهم النصيحة، أشأم الطلعة، مزورٌ في الكلام))..
هذا وستكون لنا عودة للكلام عن القومية العربية فيما بعد، فلنكتف هنا بهذا القدر مما يؤكد خطأها في الأذهان، ويهدي المفتونين بها إلى مظان الهدى..

ما يُسمَّى بالنظم الثورية العربية


في البلاد العربية اليوم حكومات تسمى نفسها قيادات ثورية، وتسمى الحكومات التي ليست على شاكلتها رجعية.. فالقيادات الثورية هي الحكومات العسكرية التي تبنت دعوة القومية العربية، ودعوة ما أسمته بالاشتراكية العربية، وهذه القيادات الثورية، أو قل الحكومات العسكرية، كانت في غالبها الأعم نتيجة انقلابات عسكرية قام بها ضباط من الشباب الثائرين الذين آذى نفوسهم الفساد الذي كانت حكومات العهود الماضية تتمرّغ فيه، وتجره على شعوبها.. فأرادوا بالانقلابات العسكرية تسلُّم السلطة لإصلاح الفساد، وإسعاد العباد.. وقد تم لهم تسلُّم السلطة ولكنهم عجزوا عن إصلاح الفساد، وذلك لأنهم ظنوا أن سبب الفساد قد كان الحكام التقليديين، فهو يزول بزوالهم.. وفاتهم أن يعلموا أن جذور الفساد أعمق من ذلك، وأن إزالة الفساد تقتضي عملاً علمياً شاملاً يحتاج إلى عمق في الفكر، وقوة في الإدراك، وسعة في الثقافة.. وتلك أمور لم يكن حظهم فيها موفوراً، فهم لم يكونوا يملكون غير حسن النية، وحسن النية وحده لا يكفي لإسعاد الشعوب، أو السير بها في طريق السعادة.. فإنه قد قيل إن الطريق إلى النار محفوف بالنوايا الحسنة..
وقد سبق للحزب الجمهوري أن نبه قادة ثورة الجيش المصري إلى ذلك في إبان حركتهم وكان ذلك في جواب أُرسل للسيد محمد نجيب بتاريخ 18 أغسطس عام 1952م ولم يكن قد مضى على ثورتهم الشهر بعد، ولقد جاء في ذلك الخطاب قولنا ((والفساد في مصر ليس سببه الملك، وليس سببه الساسة، والأعوان الذين تعاونوا مع الملك، بل إن الملك وأعوانه هم أنفسهم ضحايا لا يملكون أن يمتنعوا على الفساد، فإذا كنت تريد أسباب الفساد فالتمسها في هذه الحياة المصرية، في جميع طبقاتها، وفى جميع أقاليمها، تلك الحياة التي أقامت أخلاقها إما على قشور الإسلام أو على قشور المدنية الغربية، أو على مزاج منهما، وأنت لن تصلح مصر، أو تدفع عنها الفساد، إلا إذا رددتها إلى أصول الاخلاق، حيث يكون ضمير كل رجل عليه رقيبا)) هذا ما جاء في ذلك الخطاب، إلى جملة آراء أخرى تنفذ إلى جذور المشكلة، ولكن الضباط المصريين كانوا منتشين بظفرهم بالملك إلى حد لم يترك لهم مجالاً لسماع نصائح الناصحين.. والآن، وبعد مضي خمس عشرة سنة من توليهم الحكم، نسمع، في أعقاب هزيمة عام 1967م، كما كنا نسمع في أعقاب هزيمة 1948م، على عهد الملك فاروق، أن أسباب الهزيمة الخيانة في صفوف المسئولين في قمة المسئولية.. والاتجاه اليوم، كما كان بالأمس، إلى إزالة المسئولين هؤلاء واستبدالهم بمسئولين جدد، من غير إدراك، ولا تصور، لجذور الفساد والخيانة، وتظل بذلك مشاكل العرب تدور في حلقة مفرغة تكرر نفسها كل حين.. وزعماء ((النظم التقدمية))، كما يطيب لهم أن يسموا أنفسهم، لا يفكرون ولا يحبون المفكرين، وإنما قامت نظمهم ((التقدمية)) على تكميم الأفواه ومحاربة حرية الفكر..

الدكتاتورية العسكرية


((النظم التقدمية)) نظم دكتاتورية عسكرية.. ومع إن أسلوب الحكم الدكتاتوري أسلوبٌ سئ، من حيث هو، فإن أسوأه ما كان منه دكتاتورياً مسيطراً عليه الجيش.. ذلك بأن تربية الجيش بطبيعتها لا تؤهل رجاله ليكونوا حكاما مدنيين، يتجاوبون مع طبيعة المدنيين، في الاسترسال والحرية، وإنما هم ينشأون على الضبط والربط والطاعة العمياء..
ثم إن الجيش في الأوضاع الصحيحة، يجب ألَّا يكون له تدخل في السياسة، لأن السياسة تفسده، وتصرفه عن تجويد فنه العسكري، وتجعله، بما يظن لنفسه من حق في التطلع إلى السلطة السياسية، يرى نفسه حاكماً على الشعب، وأنه، من ثمّ، من حقه الاستمتاع بامتياز الحاكم وهو عندهم الترف والدعة..
ثم إن الدكتاتور العسكري، وهو قد وصل إلى السلطة بفضل إخوانه الضباط، وأبنائه الجنود، لا بد أن يرى حقهم عليه مما يوجب تمييزهم عن بقية الشعب.. وهناك أمر هام وهو أن هذا الدكتاتور العسكري، زيادة على ما تقدم، لا بد أن يرى أنه مما يؤمِّنه ضد الانقلابات العسكرية أن يُرضي إخوانه الضباط بإعطائهم من الامتيازات ما يلهيهم عن التطلع إلى منافسته، وما يجعلهم أعواناً له ضد كل محاولة تستهدف إنهاء حكمه، سواء كانت هذه المحاولة من الشعب عامة، أو من أفراد مغامرين.. هذا، على أيسر التقدير، ما يكون في بداية أي حكم عسكري.. فإذا اتفق للدكتاتور العسكري، وقليلا ما يتفق، أن يكسب حب شعبه، وأن يصبح، من ثمَّ اعتماده على حماية الجيش إياه أقل، في أخريات الأيام، مما كان عليه في أولياتها، فإنه يصعب عليه أن يسحب امتيازات الجيش التي تكون قد أصبحت يومئذٍ حقاً مكتسباً ومسلماً به.. والامتيازات تفسد الجيش، كما يفسد الترف أخلاق الرجال في جميع الأماكن، وجميع الأزمان.. وأسوأ من هذا!! فإن الشعب لا بد أن يدرك أن هذه الامتيازات، من الدكتاتور العسكري لبقية رجال الجيش، إنما هي بمثابة رشوة، ولمثل هذا الشعور سود العواقب على أخلاق الشعب وقيمه..
والحكم الدكتاتوري، سواء كان من ملك وارث للعرش عن آبائه، ويجمع في يديه السلطات، أو من متسلط، مستبد مطلق، إنما يفسد الشعب بما يفرض عليه من وصاية تحول بينه وبين ممارسة حقه في حكم نفسه كما يفعل الرجال الراشدون.. وأسوأ من ذلك!! قد يكون المتسلط ـ وهذا هو الغالب الأعم ـ جاهلاً بأساليب الحكم الصالح، وخائفاً من انتفاض الشعب عليه، فهو لذلك يعتمد على الإرهاب، والبطش، والتجسس الذي يحصي على الشعب كل كبيرة وصغيرة، وينشر عدم الثقة بين أبنائه.. فمثل هذا الحكم إنما يربي المواطنين تربية العبيد لا تربية الأحرار.. وأنت لن تجد العبد يدفع عن حوزة ما يدفع الحر.. وجميع العرب بين تربية تشرف عليها الدكتاتورية العسكرية، وهي التي تسمى نفسها ((بالتقدمية)) و((بالثورية)) وبين تربية تشرف عليها الدكتاتورية المدنية، وهي التي تسميها الدكتاتورية العسكرية ((بالرجعية العربية)).. والشعوب العربية، بين هؤلاء وأولئك، مفروضة عليها الوصاية، من قادة قصّر، هم، في أنفسهم، بحاجة إلى أوصياء..
ونحن لن نتحدث هنا عن قصور القيادات المدنية بين العرب، لأن هذه القيادات ليس لها كبير أثر في الحوادث العنيفة التي تعرضت لها البلاد العربية في الآونة الاخيرة، وإنما سنتحدث عن القيادات العسكرية، وبوجه خاص عن القيادة المصرية – قيادة جمال عبد الناصر – لأنها فرضت زعامتها على العرب كلهم – بالترغيب وبالترهيب – حتى أصبحوا تُبعا لها، فقادتهم من هزيمة إلى هزيمة، وجرت عليهم من العار ما أن خزيه ليبقى على صفحات التاريخ، إلى نهاية التاريخ..

الشيوعيون يورِّطون جمال عبد الناصر في الأخطاء


يحدثنا السيد جمال عبد الناصر من خطابه الذي ألقاه بمناسبة العيد الخامس عشر لثورة الجيش المصري بالملك فاروق فيقول: ((من المؤكد لنا جميعاً أن إسرائيل في هذه المحاولة مكنتش بتعمل لحسابها وإنما كانت تعمل أيضاً لحساب القوى التي ضاقت ذرعاً بحركة الثورة العربية))، ويحدثنا المستشار الصحفي للسيد جمال عبد الناصر، السيد محمد حسنين هيكل في مقالة له بعنوان ((ماذا تريد أمريكا منا؟)) نشرت بالأهرام يوم 4/ 8 / 1967م، فيقول: ((الهدف الأول: تريد به الولايات المتحدة أن تحطم النظم الثورية في العالم العربي اليوم وفى مقدمتها النظام الثوري المصري.. وباعتبار أن هذه الانظمة هي الخطر على مصالح الاستعمار القديم الذي ورثته الولايات المتحدة الأمريكية، والاستعمار الجديد الذي تمثله هي اليوم))..
وتحدثنا الهيئة البرلمانية للحزب الشيوعي السوداني في كتيب لها أصدرته في يونيو عام 1967م باسم ((العدوان الأنجلو أمريكي الإسرائيلي)) فتقول: ((إن تواطؤ أمريكا وبريطانيا في العدوان الأخير يجب النظر إليه من زاويتين لتظهر أبعاده الحقيقية: -
أولاً: هدف التواطؤ وهو كما أسلفنا القضاء على النظم التقدمية في العالم العربي وبصفة خاصة في مصر))..
هذه النظرة الخاطئة مصدرها الشيوعيون في روسيا وخارجها، وقد تورط في الأخذ بها السيد جمال عبد الناصر فانطلق في الطريق الخطأ، وأصبح يصدر في تصرفه مع الدول الغربية عن عقدة من يشعر أنه مضطهد، وأنه مقصود بالعداوة، ولقد ظهرت هذه العقدة في خطاب الاستقالة المشهور، الذي ألقاه السيد جمال عبد الناصر في مساء يوم 8/6/1967م وذلك حيث يقول ((لقد قررت أن أتنحى تماماً ونهائياً عن أىِّ منصب رسمي، وأيِّ دور سياسي، وأن أعود إلى صفوف الجماهير أؤدي واجبي معها كأيِّ مواطن آخر)).. لماذا؟ اسمعوا!! ((إن قوى الاستعمار تتصور أن جمال عبد الناصر هو عدوها وأريد أن يكون واضحاً أمامهم أنها الأمة العربية كلها وليس جمال عبد الناصر))
((والقوى المعادية لحركة القومية العربية تصورها دائماً بأنها امبراطورية لعبد الناصر وليس ذلك صحيحاً لأن أمل الوحدة بدأ قبل جمال عبد الناصر وسوف يبقى بعد جمال عبد الناصر))
هذا هو السبب الذي من أجله استقال السيد جمال عبد الناصر من منصبه في زعامة الأمة العربية!! فهل سمع الناس بزعيم يستقيل من أجل اعتبار أعدائه، وأعداء أمته، إياه؟؟ اللهم لا!! إلا أن يكون زعيماً يعيش في عقول أعدائه، قبل أن يعيش في عقله هو، أو، بالأقل في عقل أمته.. وذلك شأن الزعماء الذين يتصرفون عن عقد نفسية، لا عن فكر سليم.. هذا إذا لم نقل شيئاً عن توقيت الاستقالة نفسها.. ذلك بأنها قد أذيعت، وشغلت بها الأمة العربية، ولا تزال النيران تطلق، والعدو يتقدم في جبهة سوريا..
وامتداداً لتلك النظرة الخاطئة التي يروج لها الشيوعيون، وانطلاقاً منها يرى الشيوعيون أن التحول في علاقات السيد جمال عبد الناصر مع الدول الغربية يرجع إلى قرارات يوليو عام 1961م، وشيوعيو السودان، في كتاب هيئتهم البرلمانية الذي سبقت الإشارة إليه، يحدثوننا تحت عنوان ((الخلفية التاريخية للتآمر الاستعماري)) فيقولون: ((كانت قرارات يوليو1961م التاريخية إيذاناً بدخول الثورة العربية مرحلة جديدة في تطورها، هي مرحلة التحول الاجتماعي، فقد وضعت تلك القرارات الثورة العربية وجهاً لوجه مع الإقطاع ورأس المال، وفتحت الطريق أمام الصراع الحاسم بين شقي الرحى في المجتمع المصري: الطبقات الطفيلية المستغِلة من جهة، والجماهير العاملة من جهة أخرى)) والشيوعيون يعتبرون أن عملاً نحو الاشتراكية لا يمكن أن يتم، في عالم اليوم إلا إذا ((وضعت الشعوب العربية وجها لوجه أمام الاستعمار الحديث باعتباره المعوق الأساسي لعملية التقدم الاجتماعي)) ولعمر الحق إن الاستعمار ليعوِّق التقدم الاجتماعي ولكن يجب أن نكون دقيقين في فهم مقاصد الشيوعية من هذه العبارة.. فالشيوعيون يعتقدون أن الاشتراكية هي الماركسية، وإنك لن تستطيع أن تكون اشتراكياً إلا إذا صرت ماركسياً.. والحق إن الماركسية اللينينية إنما هي مدرسة من مدارس الاشتراكية، وجدت فرصة التطبيق في روسيا، وهي مدرسة لها من الانحرافات، عن سواء الاشتراكية، ما يوجب على الناس أن يأخذوها بحذر شديد، حتى يتقوا تلك الانحرافات الخطيرة، وسنترك تفصيل تلك الانحرافات لكتابنا الذي يجري الآن اعداده باسم ((الاسلام ديمقراطي اشتراكي)) ونكتفي هنا بأن نقرر أن الدول الصغيرة، في يومنا الحاضر، يمكن أن تكون اشتراكية بدون أن تكسب عداوة الغرب، بل إنها قد تجد معاونة الغرب في سبيل اشتراكيتها، إذا كانت تدرك الخطر الذي تتعرض له من تضليل الاتحاد السوفيتي إياها، فتبذل مجهوداً ذكياً في أن تصبح اشتراكية غير تابعة للاتحاد السوفيتي.. بمعنى آخر، إذا كان زعماؤها من الذكاء، وسعة الإدراك للصراع العالمي، بحيث لا يورطون بلادهم في ميدان الحرب الباردة الناشبة بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية.. فلقد كانت يوغسلافيا، وهي دولة شيوعية، تتلقى معونة أمريكية عند ما كانت تناصب استالين العداء، وترفض أن تخضع للاتحاد السوفيتي، أو تسير في ركابه.. واليوم عندما أعلنت رومانيا، وهي دولة شيوعية، استقلالها عن الاتحاد السوفيتي، أخذ الغرب يتسامح معها، ويشجعها، ولأول مرة، منذ نشأة هيئة الأمم المتحدة، أمكن أن يكون للجمعية العامة رئيس شيوعي، هو وزير خارجية رومانيا..
ولو قد كان للسيد جمال عبد الناصر من الوعي السياسي وسلامة التفكير، والمقدرة القيادية بالمستوى المطلوب لأمكن أن يصبح اشتراكياً من غير أن يكسب عداوة الغرب بالصورة التي جرها على البلاد العربية اليوم.. بل لأمكن، في الظرف العالمي الحاضر، أن يصبح اشتراكياً بمعاونة، وبصداقة، من الشرق والغرب في أن معاً..
ومن أجل هذه الاعتبارات فإن التحول لم يحصل بقرارات يوليو 1961م، وإنما حصل بقرارات 26 يوليو عام 1956م، وذلك بالهيئة غير المسئولة التي بها باشر السيد جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس، وعن ذلك أسلفنا التفصيل..
إن الشيوعيين ليَضِلّون عن الحق، ويُضلِّون.. هم يضلون عن الحق لقصورهم عن التفكير الدقيق، ولتورطهم في الغرض دائماً، والغرض مرض كما يقولون.. وهو مرض فكري ومرض خلقي.. وهم يُضلِّون كل من يتعرض لهم، أو يتعرضون له، ولقد أضلوا السيد جمال عبد الناصر ولا يزالون يباشرون إضلاله، وعن طريقه يضلون العرب جميعاً، ومع ذلك، أو لعله من أجل ذلك، يحدثنا السيد هيكل في جريدة الأهرام الصادرة يوم 25/8/1967م فيقول ((الحقيقة الأولى: إن الصداقة العربية السوفيتية، وإزالة العوائق المصنوعة التي كانت تعترض سبيلها تعتبر من أهم المنجزات التي حققتها حركة الثورة العربية المعاصرة))..
فالعرب يعتبرونها صداقة مع الاتحاد السوفيتي!! ليس هذا فحسب، بل ليعتبرونها، كما يخبرنا السيد هيكل، ((من أهم المنجزات التي حققتها حركة الثورة العربية المعاصرة)) وفى الحق إن حركة الثورة العربية المعاصرة لم تنجز شيئاً وإنما نصَب الروس لها شركاً فمشت إليه مغمضة العينين، وورطت معها العرب جميعاً، فهم اليوم يستغلهم الاتحاد السوفيتي أشنع الاستغلال، ويظنون أن لهم إرادة ((إننا نحتفل اليوم بانتصار القومية العربية، وفى نفس الوقت نشعر أن القومية العربية أصبحت لها إرادة نافذة تقاتل في سبيل وجودها وفى سبيل كيانها، فقد مرت القومية العربية بمراحل متعددة، إذ بدأت تجابه الضغط والسيطرة الأجنبية وكانت تحاول دائماً أن تتحرر من السيطرة الأجنبية لتكون لها مشيئتها الخاصة وإرادتها الحرة، ولكن السيطرة والاستعمار كانا دائما يعملان ما في وسعهما بكل الطرق وبكل الوسائل للقضاء على يقظة القومية العربية.. ثم تطورت هذه القومية من مرحلة الجمود إلى مرحلة كفاح الاستعمار، كافحت وقاتلت واستطاعت أن تنهي سيطرة الاستعمار)) هذا ما قاله السيد جمال عبد الناصر في يوم 26 /2/1958م في احتفالات إعلان الوحدة بين مصر وسوريا.. وقد فشلت هذه الوحدة وانتقضت بعد تجربة أربعة أعوام، ولكن فشلها لم ينبه السيد جمال عبد الناصر إلى أن افكاره أوهام، وأعماله القائمة عليها سلسلة أخطاء، وأن غفلته عن حقيقة نوايا الاتحاد السوفيتي، وتوهُّمه إياه صديقاً للعرب، قد جرت على العرب من المآسي ما سيقترن باسم جمال عبد الناصر لبقية تاريخ العرب.. أما عن وهم جمال الذي يسميه ((إرادة القومية العربية)) فيكفي أن العرب اليوم لا يخاطبون في مصيرهم، وإنما يخاطبون في ذلك زعماء الاتحاد السوفيتي، فلكأنهم هم الأوصياء على العرب، وقد أصبح العالم يعرف اليوم أن السلام لا يستقر في الشرق الأوسط إذا لم ترض عنه روسيا..