إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

مشكلة الشرق الأوسط

الفصل الأول


صور الأشياء


هناك ثلاثة أمور لا بد من استيقانها: -
* أولها: إن حكم الوقت يقضى على هذه البشرية، التي تعمر هذا الكوكب، في هذا العصـر، أن تتوحّد..
* وثانيها: إن هذه البشرية، لكي تتوحد، لا بد لها من السلام..
* وثالثها: إنها، من أجل السلام، لا بدّ لها من المدنية التي تنشر حكم القانون العادل..

* فأما الأول فلأنّ التقدم التكنولوجي في وسايل نقل الناس، والأشياء، والأخبار، قد ألغى الزمان والمكان، أو كاد، وقد توحَّد هذا الكوكب، وأصبح أيِّ جزء من أجزائه على مدى ساعات، وتقل هذه الساعات كل يوم جديد.. ووحدة هذا الكوكب المكانية تواجه البشرية اليوم ببيئة مكانية جديدة، وهذه المواجهة تشكل تحدّياً على مدىً لم يسبق للبشرية أن عرفته في تاريخها الماضى، ذلك أنه مطلوب إليها أن توائم، مواءمة تامّة، بين حياتها وبين بيئتها هذه الجديدة، بأن تحدث وحدة تامّة، تنصهر فيها عناصرها المختلفة، وألوانها المختلفة، وعقائدها المختلفة، ولغاتها المختلفة أيضاً، أو، إن عجزت عن ذلك، فقد مضت سنة الأوّلين بالأحياء الذين عجزوا عن أن يوائموا بين حياتهم وبين بيئتهم..
إن العلم التجريبي الحاضر قد خدم البشرية على هذا الكوكب خدمات لا تحصى، ولكن هناك خدمة لم نتفطّن، إلى الآن، إلى حقيقة عظمتها، وتلك هي أنّه بإطلاقه للطاقة الذرية، بتفتيته للذرّة، قد لفت نظرنا إلى أن البيئة التي عاش فيها الأحياء قبلنا، ونعيش فيها نحن اليوم، ليست في حقيقتها ماديّة، وإنما هي روحية ذات مظهر مادّي.. بل إن المادة كما نعرفها ونألفها، ليست هناك، وإنما هي وهم من أوهام الحواس، وعندما ردّها العلم الحديث إلى أصولها الأولية انقلبت إلى طاقة تدفع وتجذب في الفضاء، والعلم الحديث قد عرف خصائص هذه الطاقة، ولكنه عجز عن معرفة كنهها، ووقف عند عتبة الكنه عاجزاً لا يبدي، ولا يعيد، ولا يدّعى، لأنه أحق من يفهـم أن مقامـه عنـد هـذه العتبـة، وأنـه لا يستقيـم، مـع كرامـة نفسـه عنـده، أن يدّعي لها ما لا يكون أبـداً..
البيئة التي نعيش فيها الآن، إذن، قد برهن العلم المادى التجريبي الحديث نفسه على أنها ليست مادية وإنما المادة مظهر لشئ وراء المادة وهذا الشئ الذي وراء المادة يعبّر الإسلام، عن أدنى منازله من المادة، بالروح، أو إن شئت التعبير الحديث، قل بالفكر.. فالبيئة التي نعيش فيها فكرية، تجسَّدت فيها الأفكار، فاتخذت مظهراً نسميه نحن المادة.. ومن ثمَّ فالوحدة البشرية التي تطلب البيئة الجديدة إلى الإنسانية تحقيقها إنما سبيلها الفكر.. فالناس يختلفون في اللون، وفى الإقليم، وفى اللغة، وفى العنصر، وفى العقيدة، ولكنّهم، كلهم، يلتقون في العقل.. فإن الإنسان في أدنى مراتبه من منازل الحيوان، قد تميّز عنه بالعقل، وهو لا يدخل حظيرة الإنسانية إلا به ـ فيما عدا حالات العلّة الطارئة.. والقول المشهور بأنّ الإنسان حيوان ناطق قولٌ لا يروقني فإن كل الحيوانات ناطقة، بل إن كل الأشياء ناطقة، والقول الذي يروقني حقاً هو أن الإنسان حيوان مفكر.. فليس هناك إنسان لا يفكر ـ في الحالات السوّية ـ وإن كان هناك أُناس قليلو التفكير.. وآفة التفكير في شيئين: في قلته وفى التوائه..
والإنسان كحيوان مفكر هو أيضاً حيوان كسول في ذلك، فهو لا يريد أن يفكر، وهو إن فكّر إنما يجعل فكره خادماً لهوى نفسه، ومن ثمّ يجئ التواء تفكيره.. وأندر شئ في الوجود التفكير المستقيم، ذلك بأنّ التفكير المستقيم لا يتبع هوى النفس وإنما يحمل هوى النفس على اتِّباعه، وهو بذلك التزام يطلب مظهره في وحدة القول، ووحدة العمل، وتلك مسئولية لا ينهض بأعبائها غير الرجال، والناس، كل الناس، لا يريدون أن يكونوا رجالاً، فهم قد طاب لهم التقلب في مهاد الطفولة، ولن يدرجوا منها إلى مناشط الرجولة تحت حوافز أقلّ إلحاحاً من حوافز التحدي التي تواجههم بها هذه البيئة الكوكبية الجديدة..
ومفترق الطرق الذي قلنا إن البشرية تقف عنده اليوم، إنما هو مفترق طريقين، إن أردت الدقّة.. هما طريقا الرجولة والطفولة، فإن أصرّت البشرية الحاضرة على التشبث بطفولتها فإن منطق البيئة الكوكبية الموحّدة الحاضرة سيلفظها، وسيجئ لفظه إياها في صورة انقراضها لتخلي مكانها لفصيلة جديدة تنهض بالتزامات البيئة الجديدة، وإن شبت البشرية الحاضرة عن طفولتها، ودرجت في مدارج رجولتها، فانها تكون قد أصبحت فصيلة جديدة يهديها اللّه سبل السلام بسلامة قلوبها وصفاء عقولها ـ برجولتها..
* وأما الثاني فإن السلام مقدّمة للفكر ونتيجة.. فهو كمقدّمة إنما يمليه الخوف من الحرب، وذلك أمر قد توفر الآن، وتوفر بما يكفي، والسلام في هذا المستوى ليس سلاماً وإنما هو ضرب من الحرب، كأنّ الناس فيه من خوف الحرب في حرب.. وهو مع ذلك، ضروري لنصل إلى السلام السليم الذي يكون نتيجة للتفكير المستقيم..
* وأما الثالث فإن القانون العادل لا يجئ إلا عن التفكير المستقيم، وهو لا يطبق، ولا ينفذ، إلا بالعمل وفق التفكير المستقيم، والتفكير المستقيم لا يجئ بالتمنّي، وإنما يجئ نتيجة العيش وفق منهاج لم يتوفر على تقديمه، في أوجه، فكر، ولا فلسفة، ولا دين، كما توفر في الإسلام..

الوحدة


وحكم الوقت الذي يقضي على البشرية أن تتوحَّد في يومنا هذا لا يحتاج إدراكه إلى كبير ذكاء، بل إن البشرية قد شعرت به، وأخذت تستجيب له بعمل لا ينقصه الحماس، وإن نقصته دقّة الإدراك، وها قد بلغت البشرية اليوم مرحلة الثنائية، وهي أدنى منازل التعدد من مقام الوحدة، ومن غير أدنى شك أن القافلة البشرية في سيرها الطويل من التعدد إلى الوحدة لم تنزل منزلة الثنائية هذه إلا في هذه الأيام التي تلت الحرب العالمية الثانية.. فإنه قد خرجت البشرية بعد هذه الحرب منقسمة إلى كتلتين اثنتين: الكتلة الشرقية، وهي الدول الشيوعية بزعامة روسيا، والكتلة الغربية، وهي الدول الرأسمالية بزعامة أمريكا.. وقد برز أخيراً ما سمي بالعالم الثالث، أو دول الحياد الإيجابي، ولدى النظرة الأولى قد يشكك الحديث عن العالم الثالث هذا في صحة انقسام العالم إلى كتلتين اثنتين، كما سبق أن قررنا، ولكن، إذا دققنا النظر، يظهر لنا جليّا أن ليس هناك عالم ثالث، وليس هناك دول محايدة، بله أن تكون محايدة حياداً إيجابياً.. وما تسمى بدول الحياد الإيجابي في طليعتها يوغسلافيا، والهند، ومصر، ونظرة بسيطة تريك أن يوغسلافيا دولة شيوعية صرفة، وأن الهند دولة رأسمالية، وأن مصر أخذت تسير أخيراً في ركب الشيوعية، وأن نظاماً واحداً لا يمكن أن يضم هذه الدول، ويصمد للامتحان، حتى في حالة السلام، وأما في حالة الحرب فإن دولة في عالم اليوم لا تستطيع أن تقف على الحياد، ثم يحترم الفريقان المتحاربان حيادها، إلا إذا كان دخولها الحرب لا يخدم غرضاً لا يهمها، وما هكذا مصر، ولا أيِّ دولة من دول الشرق الأوسط، مثلاً.. هذا فيما يخص الحياد، وأما الحياد الإيجابي فكيف يكون محايداً حياداً إيجابياً من لا يملك فكرةً إيجابية تعصمه عن السير في ركاب الشيوعية كما تفعل يوغسلافيا، أو في ركاب الرأسمالية كما تفعل الهند أو عن الخبط ذات الشمال وذات اليمين كما تفعل مصر؟ إذن فالتقرير العلمي الصحيح هو أن العالم قد برز بعد الحرب العالمية الثانية مقسوماً إلى كتلتين.. ليس هذا فحسب بل إن الكتلتين ظلتا على مدى النيِّف والعشرين سنة الماضية، ولا تزالان، كفرسي رهان، تحاول كل منها بسط نفوذها على العالم بأكمله، ونحن لا نحتاج، في أمر الشيوعية، إلى كثير تذكير بهذه المحاولة، ذلك أن الشيوعية بطبيعتها دعوة إلى ثورة عالمية، ترمي بكل الأساليب التي لديها، لتبسط نفوذها على العالم، وإن كانت أساليبها المفضّلة هي الثورة والحرب..
وأمّا الرأسمالية فهى صاحبة السيطرة الاستعمارية التقليدية المعروفة على العالم، وقد أصبحت سيطرتها تنازع كل يوم، بفضل اللّه، ثمّ بفضل يقظة الشعوب المستعمَرة، والشعوب الأخرى الصغيرة التي لا مطمع لها في استعمار أحد، ولا تحب أن ترى غيرها يستعمر الآخرين، وما من شك أن الصراع بين الكتلتين قد لعب دوراً رئيسياً في هزيمة الاستعمار الرأسمالي، وفى اضطراره ليتوارى خلف صور مختلفة تقوم على الحيلة، والخدعة، أكثر مما تقوم على القوّة التي طالما لجأ إليها في الماضي.. والناس كثيراً ما يتحدثون عن الاستعمار القديم، والاستعمار الجديد، وهم يعنون بالاستعمار القديم الاستعمار الغربى المباشر، الذي عرف قبل منازعة الشعوب له، وذلك في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ويعنون بالاستعمار الجديد الاستعمار الغربي أيضاً، ولكن في الصور التي اضطرته مقاومة الشعوب له أن يتخفى وراءها.. وفى الحق إن الاستعمار القديم لم يكن جامداً على صورة واحدة وإنما كان متطوراً وملتمساً للأساليب التي تغنيه عن الاعتماد على القوة دائماً، وكل ما يمكن أن يقال هنا هو أن تطوره قد كان بطيئاً فيما مضى لأنّ المعارضة له من الداخل قد كانت قليلة، وعندما اشتدَّت المعارضة اضطر هو للإسراع في التماس الثياب التي يستر بها عريَه عن أعين غير الأذكياء من الناس.. وقد ظنه بعض الناس، لفرط ما يغير من ثيابه، ويفتنُّ في التغيير، استعماراً جديداً، وما هو بذاك.. وغرض الاستعمار الغربي الاستغلال الاقتصادي، وقد ظهر قبيل ظهور الآلة، ولكنه قوي وانتشر، وتنظم مع ظهور الثورة الصناعية.. ذلك بأنّ الصناعة بالآلة كانت تحتاج المادة الخام وتحتاج المجال لتسويق الأدوات المصنوعة، وقد بدأ الاستعمار كعمل تجاري في أسواق مفتوحة، ثمّ ألجأته المنافسة إلى احتكار الأسواق، فدخل النفوذ السياسي بالحكم المباشر في الميدان، وكان لا بد من أجل بسط النفوذ السياسي من العمل العسكرى..
وهكـذا ظهر الاستعمار وأصبح حملة عسكرية لهزيمة المنافس أو لهزيمة الحكومات الوطنية، ثم حكماً سياسياً مباشراً، غرضه تنظيم البلاد المستعمرة لتكون أرضها مزرعة للمادة الخام، وبشريتها سوقاً مستهلكة للبضائع المصنوعة.. ومع إن الاستعمار بدأ بالحملة المسلّحة إلا أنّه لم يشأ أن يعتمد على السلاح في طول بقائه، فجنح إلى الحيلة، وذلك ببث أفكاره، وتعاليمه، وثقافته، وأسلوب حياته، وعاداته بين المستَعمرين، فكأنّه لم يكتف باستعمار الظاهر فأراد أن يزحف إلى الباطن، لم يكتف باستعمار الأجساد بتسخيرها بالخوف، فأراد أن يستعمر العقول بتسخيرها بالثقافة، التي تجعل الناس مشدودين إليه، يتخذون حكامه، ومفكريه، أساتذة، ومثلاً يحتذى.. وهو لم يكن يعلِّم المستعمَرين إلا بالقدر الذي يجعلهم مقدّرين لأستاذيته، ومفتونين بأساليب معيشته، ومتعاونين معه لإطالة مدته، ومن لطف اللّه على الناس أن جعل الذين يخرجون الاستعمار من بلادهم هم الذين تعلَّموا ثقافته، وأفكاره، ولكنهم لم يقفوا في تعلُّمها عند الحد الذي كان يريد لهم ألّا يتعدوه.. ومع ذلك فإن فكرة الاستعمار في التركيز على استعمار العقول لم تخطئ تماماً، فهم في كل بلد قد خلقوا فريقاً ممن قـد استعمروا عقولهم مقيمين على الولاء لسادتهم، وأساتذتهم الذين قد مكّنوا لهم من الخيرات مما جعلهم أجانب عن بني جلدتهم.. فالاستعمار القديم يتلوّن ويتفاوت في تلوّنه بين الفتح العسكري والاستعمار الثقافي وبين الحكم السياسي المباشر والحكم عن طريق الحكومات الوطنيات يقوم عليها الذين كان قد استعمر عقولهم، ومن هؤلاء من بلغ استعمار العقول بهم مبلغاً جعلهم يحاربون الاستعمار بأقوالهم، ويمكنون له بأعمالهم، وهم لا يعلمون.. وغرض الاستعمار الغربي من كل هذا التلوُّن إنما هو الاستغلال الاقتصادي.. ومع ذلك فإن هناك استعماراً جديداً لم يتفطّن له الناس، لأنّهـم لم يعرفوه، ولم يألفوه، وإنما هم مشغولون عنه بالاستعمار الغربي، الذي عرفوه وأصابهم منه من الشر ما شغلهم عن كل ما عداه، وما جعلهم لا يصرفون كلمة الاستعمار، حين يسمعونها، إلا إليه.. هذا الاستعمار الجديد هو الاستعمار الشيوعي الذي يسعى جاهداً اليوم لبسط نفوذه على العالم.. وهو استعمار يسعى من الوهلة الأولى إلى استعمار العقول بأفكار هي غاية في السوء، وغاية في الخطورة، وليس غرضه المباشر الاستغلال الاقتصادي، وإنما غرضه المباشر النهي، والأمر، والسيطرة، والاستغلال الاقتصادي يجئ من بعد ذلك بالتبعية.. ويخطئ كثيراً من يظن أن المادة هي أقصى ما تطلب النفس البشرية.. ذلك بأنّ التذاذ النفس البشرية بالسلطة يفوق التذاذها بالثروة.. بل إن السعي وراء الثراء إنما يحفزه ما يكفله الثراء للثري من نفوذ سياسي ومن جاه أدبي ولقد أصاب في هذا الباب الشاعر الذي قال:
يقولون سعـدٌ شكّت الجـنُّ قلبَه * ولكنّ سـعـداً لم يبـايع أبا بكرِ
لقد صبرت عن لذة العيش أنفسٌ * وما صبرتْ عن لذة النهي والأمرِ
ومما لبَّس أمر الشيوعية على الناس، وأذهلهم عن خطرها تلبسها بالدعوة إلى الاشتراكية، والاشتراكية حبيبة إلى كل النفوس الحرّة، وما ينبغي أن يعرف بوضوح هو أن الشيوعية، ونعنى بها هنا الماركسية اللينينية، ليست هي الاشتراكية، وإنما هي مدرسة من مدارس الاشتراكية، لها حسناتها وعليها سيّئاتها، والأمر المحقق هو أن كارل ماركس لم يكن أوّل اشتراكي، ولن يكون آخر اشتراكي.. والماركسية اللينينية خطأها أكبر من صوابها، وهي إذا ما حُللت إلى عواملها الأوّلية يتضح أنّها دين ودولة.. فهى تحاول أن تقيـم دولتها، اقتصادياً، على الاشتراكية، وسياسياً، على الدكتاتورية، وإن كانت يطيب لها أن تسمِّي الدكتاتورية، مغالطة، ديمقراطية، ولكن هذا لا ينطلي إلا على البسطاء، وهؤلاء لحسن التوفيق، يقلون كل يوم.. وأما دينها فهو إنكارها الأديان.. فإنها قد اتخذت من إنكار الأديان ديناً، ومن إنكار الأُلوهية إلهاً.. وماركس ولينين واستالين وماوتسي تونغ ليسوا آلهة دينها، وإنما هم أنبياؤها، ولكنها أولتهم من التقديس ما ألحقهم بالآلهة.. وهذه الردة إلى الوثنيات الأوليات هي التي جعلت استعمار الشيوعية لعقول من يتورطون فيها أسوأ، بما لا يقاس، من استعمار الأفكار الغربية لعقول من يتعرضون لها.. وليس ههنا مجال حديثنا عن الشيوعية فإن لنا موعداً بذلك صدوركتابناعن ((الاسلام ديمقراطي اشتراكي)) الذي هو الآن تحت الإعداد، وما يهمنا هنا هو التنبيه إلى خطر الاستعمار الشيوعي وهو ما يجب أن نصرف له عبارة ((الاستعمار الجديد)) التي نطلقها خطأ اليوم على تلوُّن ((الاستعمار القديم))..

الثنائيـة


قلنا إن القافلة البشرية قد نزلت منذ نيِّف وعشرين سنة بمنزلة الثنائية، وهو أمر لم يتفق لها من قبل في سيرها الطويل، وقلنا إن منزلة الثنائية هي أدنى منازل السير من مقام الوحدة، ولن تلبث البشرية طويلاً في هذه المنزلة لأنّ تحديات البيئة الجديدة تحفزها حفزاً إلى مواصلة السير إلى مقام الوحدة حيث يتم التناسق، والتواؤم، بين البيئة الموحَدة مكاناً، والإنسانية الموحَدة فكراً، فيحل بذلك في الأرض السلام، كان ذلك بفضل اللّه، على الإنسانية ضربة لازب ولقد أسلفنا القول إلى أن منزلة الثنائية التي نزلت بها القافلة البشرية منذ نيِّف وعشرين سنة تمثل أحد معسكريها الشيوعية بقيادة الاتحاد السوفيتى، وتمثل المعسكر الثاني الرأسمالية بقيادة أمريكا.. ويحلم كل من الاتحاد السوفيتي وأمريكا أنه سيقود القافلة البشرية، إلى مقام الوحدة، وهيهات!! ذلك بأنّ البشرية لن تحقق وحدتها إلا عن طريق الفكر الحر، وليس للفكر الحر كبير كرامة في أيِّ من المعسكرين، على تفاوت بينهما في ذلك.. ويحاول كل من المعسكرين الآن تحقيق حلمه في قيادة القافلة البشرية، ويحتدم الصراع بينهما في تلك المحاولة، والأسلوب المحبب للشيوعية في الصراع هو الثورة والعنف والأسلوب المحبب للرأسمالية هو الحرب.. الحرب في مقابلة الثورة وفى مقابلة العنف.. ولكن هناك اعتبارات جدّت في تجارب البشرية جعلت الحرب غير ذات موضوع، ذلك بأنه قد ظهر جليّاً أنها لا تحل مشكلة، في عالم اليوم، وإنما تعقد المشاكل.. ودلّت تجربة بريطانيا أن من يكسب الحرب قد يخسر السلام فكأنه حارب لغير هدف.. هذا ولقد كانت الحرب العالمية الثانية بالأسلحة التقليدية، ولم تستعمل الأسلحة الحديثة إلا في صورة القنبلة الذرّية التي أسقطت على هوريشيما فكانت بها نهاية الحرب على الفور، وذلك لما أحدثت من أضرار لا قبل للبشرية بمثلها، هذا مع إن هذه القنبلة، بالنسبة لما جدّ بعدها من أسلحة ذرّية وهايدروجينية كأنّها لعبة الأطفال.. مما وكّد في الأذهان أن الحرب إذا نشبت بالأسلحة الحديثة، فلن يكون فيها منهزم ومنتصر وإنما سيتم بها تحطيم الحضارة الحاضرة تحطيما تاماً، ومن يدري، فقد يتم بها تحطيم الحياة البشرية على هذا الكوكب برمته؟؟ وأمر هام يضاف إلى كل أولئك وهو أن هناك توازناً في القوى بين الكتلتين يجعل كل منها تخشى عواقب الحرب ضد الأخرى ويمكن القول، على التحقيق، بأن السلام الحاضر، غيـر الطبيعي، الذي تعيش في ظله البشرية اليوم إنما يرجع الفضل فيه، بعد اللّه، إلى توازن القوى بين الكتلتين..
ولما كانت الشيوعية اليوم تعيش متنازعة بين خوفها من الحرب العالمية وبين ولائها لمذهبيتها في الثورة والعنف، فقد هدتها الحيلة إلى أن تقسم برنامجها لغزو العالم واخضاعه إلى مرحلتين.. فأما المرحلة الأولى فغرضها إخلال توازن القوى القائم بين الكتلتين اليوم، وترجيح كفتها هي على كفّة الرأسمالية الغربية، وسلاح هذه المرحلة المهارة الدبلوماسية باستعراض المذهبية بصورة جذّابة، وباستعراض التقدم العلمي، والفني، والتكنولوجي، في ميدان اختراع الآلة، ووسائل الحرب، من الأسلحة الرهيبة الحديثة وسلاحها أيضا الدجل، والخداع، وتضليل الشعوب، واستغلال عواطفها نحو السلام، وخوفها من الحرب، وسلاحها الإرجاف، وتشويه الحقائق، ورشوة الكتّاب، والعلماء، أو إرهابهم، وشراء الصحف، والسيطرة على المطابع وتبني التكتلات الإقليمية وإطاره الشعارات البرّاقة، الجوفاء، المحبوكة، المسبوكة، التي تخدع السطحيين المتحذلقين، أنصاف المثـقـفين، فيظنوا أنّهم حين يرددوا هذه العبارات في الكتابة وفى النقاش إنما يدخلون في زمرة المثـقـفين المفكرين الأحرار، وهكذا يستعيضون عن التفكير السليم الحر الذي يعوزهم بالعبارات الجوفاء التي يأخذونها تلقيناً ممن يظنونهم سادتهم، وأساتذتهم، ويظلون يرددونها في الصحف، وعلى حيطان المنازل، وفى الأحاديث، وفى شتّى المجالات حتى تشيع بين طبقات الشعب، وتعمل عملها في التضليل المنظّم.. وأمّا المرحلة الثانية فغرضها إنهاء المؤامرة الكبرى المدبرة لاغتيال حرية البشرية، وهي تبدأ حين يصبح، بفضل نجاح المرحلة الأولى، واضحاً جليّاً أن كفة الشيوعية قد رجحت بكفّة الرأسمالية بصورة تجعل المغامرة المسلّحة ضد الدول الغربية تنتهي بهزيمة الغرب، من غير أن تخرج منها الشيوعية الدولية محطمة تحطيماً يعجـزها عـن الانتشاء بنتائج النصـر..
فالمرحلة الاولى، وتسمى بالحرب الباردة، مقدمة للمرحلة الثانية وهي الحرب الساخنة، وما يقال عن أساليب الشيوعية في الحرب الباردة يقال قريب منه عن أساليب الرأسمالية فيها، وكل مشاكل العالم اليوم، في كل دولة من دوله، سواء كانت في داخليتها أو مع جيرانها، وسواء كانت هذه المشاكل دبلوماسية، أو سياسية، أو اقتصادية، أو حربية، فإن مردها إلى هذه الحرب الباردة، فانقسام ألمانيا، وانقسام برلين، وانقسام وحرب كوريا، وانقسام وحرب فيتنام، ومشاكل كوبا، ومشاكل الكنغو، والأخطار التي تهدد نيجريا، كلها وغيرها يمكنك أن تضعها عند عتبة دار هذه الحرب الباردة، وحين تدخل مصلحة دولة صغيرة في حلبة هذه الحرب الباردة، تهدر هذه المصلحة، ولا تعار أدنى اهتمام، وتصبح هذه الدولة الصغيرة كالنملة تحت أقدام الفيَلة المتصارعة، لا تبالي الفيَلة بمصيرها.. وهذا يوجب على كل زعيم، يستحق لقبه، من زعماء الدول الصغيرة أن يسير مفتوح الذهن ليكسب لأمته مكاناً تحت الشمس من غير أن يجرُّها إلى حلبة هذه الحرب المجنونة.. فإذا كان هذا الزعيم زعيماً عربياً مسلماً فقد وجب عليه، زيادة عمّا تقدّم، أن يرتفع بأمته إلى مستوى النزاع المذهبي ليشارك فيه بوصفه صاحب رسالة هي أوْلى بغَدِ الإنسانية على هذا الكوكب من الشيوعية، ومن الرأسمالية الغربية بآماد بعيدة.. والمشاركة في النزاع المذهبي تلقي على الزعيم المسلم واجبين: أولهما ألّا ينضوي إلى كتلة من الكتلتين المتنازعتين حتى لا يُضيع وقته في صراع لا مستقبل له، وثانيهما أن يحافظ، بكل ما اُوتي من ذكاء، ونفوذ، على توازن القوى الحاضر، ولا يعمل أيِّ عمل من شأنه أن يُخل به، حتى ولو كان هذا العمل سيعود على بلده بكسب إقليمي.. فإذا توفر على هذين الواجبين، فأوفى بهما، فقد تفرغ لواجبه الأساسي.. وهو بعث الكتلة الثالثة بين الكتلتين، وهي كتلة تجمع في جهاز واحد بين الاشتراكية والديمقراطية، وذلك أمر لا تطيقه الشيوعية من جانبها، ولا الرأسمالية من جانبها الآخر، ثم هو أمر لا يتحقق السلام على هذا الكوكب إلا به، لأن قانون العدل الموزون لا ينبني إلا على المساواة الاقتصادية، والمساواة السياسية، فالمساواة الاجتماعية في آن معاً.. وأنت لا تظفر بابتغاء هذا العدل الموزون في غير الإسلام.. وأما في الإسلام فإن أدنى مراتبه العدل، وأوسطها التسامح، وأعلاها المحبة: ((إن اللّه يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى)) والقربى هنا تعني الرحم الموصول بآدم وحواء.. ونحن لن نبحث، في سِفرنا هذا، مقدرة الإسلام على الجمع، في تشريعه، بين الاشتراكية والديمقراطية، في حين تعجز عن هذا الجمع الرأسمالية الغربية، والشيوعية الماركسية اللينينية، عجزاً تاماً، وسنترك هذه الدراسة المستفيضة للسفر الذي هو الآن تحت الاعداد باسم ((الاسلام ديمقراطي اشتراكي))..
وثنائية الكتلة الشرقية والكتلة الغربية لم تظهر بعد نهاية الحرب مباشرة، وبكل قسماتها، وذلك أمر بديهي، لأن الاتحاد السوفيتي، أثناء الحرب ضـد المحور، قـد كان حليفاً للدول الغربية، ومع إن طبيعة الانقسام موجودة إلا أن ظهورها العملي اقتضى بعض الوقت، وبعض العوامل.. فمن ذلك مثلاً أن الحلفاء كانوا قد أقدموا على احتلال إيران بصورة مؤقتة لضمان وصول الإمدادات إلى الروس، وعندما انتهت الحرب تباطأت القوات الروسية في الجلاء عن المناطق الإيرانية التي تحتلها، فلم يرق هذا التباطؤ الدول الغربية حيث إن إيران ((تشغل مركزاً هاماً في الاقتصاديات والاستراتيجية البريطانية)) وذلك لقربها من العراق، والقسم الخاضع لبريطانيا من ساحل الخليج، حيث منشآت الشركة البريطانية، ومنابع البترول.. فمارس الغرب بعض الضغط على الروس لينسحبوا من إيران، ولكنهم لم يفعلوا إلا بعد أن اضطرت إيران إلى عقد اتفاق تجاري معهم بشأن استنباط البترول في المناطق الشمالية..
ثم تداعت سلسلة من حوادث المواجهة بين الاتحاد السوفيتي والدول الغربية يحفزها احتمال نشوب حرب جديدة بين الشيوعية والرأسمالية، وقد أوضح الأمريكيون هذه المواجهة بقولهم ((لقد وقفت قوة كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وجها لوجه في الشرق الأوسط ولهذا الالتقاء مغزاه بالنسبة لصراع المصالح بين الدولتين والذي يمتد، بدرجات متفاوتة، خلال العالم، ونتيجة لهـذا لا يمكن فصل الأمن في الشرق الأوسط عـن مشكلة الأمن العالمية التي تواجه الولايات المتحدة، ولكنه عنصر هام في تلك المشكلة))..
وعدم بروز الانقسام بين الكتلتين في وقت مبكر يفسر لنا، مع عوامل أخرى، وقوف الاتحاد السوفيتي مع الولايات المتحدة صفاً واحداً في جميع المراحل التي عارضها العرب في قضية فلسطين في الأمم المتحدة، والتى بدأت منذ أبريل من عام 1947م، ومن ذلك مشروع التقسيم، وفى هذا يحدثنا الأستاذ خيري حمّاد، مؤلف ((قضايانا في الأمم المتحدة)) فيقول في صفحة 156 ((وتعاقب المتكلمون في الجلسات التي استمرت عدة أيام.. وكان من أوّلهم الممثل الأمريكي الذي تباكى على حالة اليهود وما يعانونه من اضطهاد، ومنّ على العرب بما لهم من دول مستقلة أصبحت أعضاء في الأمم المتحدة، وقال إن حكومته تؤيد مشروع الأكثرية، وإن كانت تطالب ببعض التعديلات عليه لصالح العرب ليكون أكثر واقعية.. وتحدث المندوب السوفياتي، ولأول مرّة يتفق والمندوب الأمريكي على اتجاه واحد، فعرض ما عاناه اليهود من آلام على أيدي النازية، وأشار إلى استحالة الاتفاق والتفاهم بين العرب واليهود، وانتهى إلى القول بأنّ حكومته تؤيد مشروع الأكثرية..
((وتعاقب الوفود على الكلام.. وبان ضعف العرب في المنطقة الدولية لا بالنسبة إلى حقهم، فقد كان هذا الحق صارخاً في وضوحه، وإنما بالنسبة إلى نفوذهم، أمام النفوذ الأمريكي والسوفياتي مجتمعين، لا سيما وأنّ أمريكا قد أعلنت جهاراً أنها ستكافح وتناضل لإقرار التقسيم وإقامة الدولة اليهودية، مما دفع ظفر اللّه خان مندوب الباكستان إلى الوقوف ليحذر أمريكا من هذا الموقف الذي سيقضي على كل ما لها من صداقات بين العرب والمسلمين.. وتحدث المندوبون العرب فناشدوا الضمير العالمي العدل والحق وأن يرعوي عن ارتكاب أبشع جريمة في حق الأوطان والحقوق الإنسانية، وألّا يسير في ركاب الصهيونية التي تريد تسخيره لخدمة أغراضها، ولكنهم لم يشددوا في هجومهم على الاستعمار نفسه الذي كان أساس القضية وخالقها، بل حصروا نطاق هجومهم في الصهيونية))..
كان ذلك في سبتمبر من عام 1947م وهو، كما هو واضح، تاريخ مبكر بالنسبة لفترة ما بعد الحرب التي انتهت في أواخر عام1945م، ولذلك لم تظهر القسمة بين الكتلتين بصورة واضحة، كما أصبحت فيما بعـد، وقـد يظن إنسان أن قضية العرب في فلسطين، في الأمم المتحدة، أصبحت أقوى حيـن وقفت إلى جانبها روسيا، بعـد أن كانت تقف فيها إلى جانب إسرائيل، في فجر تاريخها، ومثل هذا القول من أصدق الدلائل على سطحية التفكير عند من لا يستطيعون الوصول إلى جذور المشاكل العالمية.. فإن مفتاح معالم السياسة الدولية، في وقتنا الحاضر، كله في هذا الصراع بين الكتلتين، وكل سياسي تغيب عنه هذه الحقيقة لا تجئ أفكاره السياسية إلا فجّة، ضحلة، متهالكة..