مشكلة فلسطين
فى مؤتمر عام1897م الذي عقده زعماء الحركة الصهيونية حاولوا إبراز الجانب القومي، والجانب الإنساني فيما أسموه بمشكلة اليهود، ولقد قال هرتزل ((من بادئ الأمر فهمت عدم جدوى محاربة العداء للسامية)) وقال وايزمان ((اعتقد أن من أسباب العداء للسامية استمرار بقاء اليهود على قيد الحياة)) وهذه عبارة من وايزمان وتلك من هرتزل تستهدفان أمرين في آن معاً.. أحدهما استدرار العطف العالمي على نكبة اليهود التاريخية، وثانيهما التمهيد للوطن القومي لليهود في فلسطين، أو قل، إن أردت الدقة، إقامة دولة يهودية في فلسطين بها تعاد مملكة داود وسليمان إلى الوجود الحديث.. ولقد اهتبل هؤلاء الزعماء الصهيونيون كل الفرص التي أتاحها لهم التطور الدولي إلى أن وصل هذا التطور إلى نقطة التقت فيها أهداف الاستعمار الغربي بمطامع الحركة الصهيونية العالمية، وأحلامها، وذلك بعد نشوب الحرب العالمية الأولى.. فإنه قد ظهر للحلفاء، بعد حين، أن احتمال هزيمتهم أمام الجيوش الألمانية احتمال قوي، وأنه لا بد لهم من الزج بأمريكا في هذه الحرب، إن كان لا بد لهم أن يخرجوا منها منتصرين.. وكانت أمريكا يومئذ تعيش في عزلة تامة، ويزعم كثير من قادتها، وساستها، أن مصير اوروبا لا يهمهم.. وأنهم يمكن أن يجنبوا بلادهم ويلات حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.. ومن ههنا جاءت أهمية اليهود، بنفوذهم السياسي والاقتصادي، والمالي.. فقد فكر الحلفاء في استخدامهم لجر أمريكا للحرب، وقد أوحوا إليهم أن انتصار الحلفاء سيكون ذا فائدة عظيمة لليهودية العالمية.. ووجدت الحركة الصهيونية في حاجة الحلفاء إليها فرصتها التي كانت تنتظرها فاشترطت كثمن لتعاونها ذلك وطناً قومياً لليهود في فلسطين، كما اشترطت الاعتراف بها كمنظمة دولية، لها حق الاتصال بالخارج، بأمتياز دبلوماسي مما تستمتع به الحكومات عادة.. فكان من جراء الشرط الأول وعد بلفور المشهور، وكان من جراء الشرط الثاني أن وافق مجلس الوزراء البريطاني على أن تتولى وزارتا الخارجية والحربية نقل الرسائل والبرقيات الصهيونية إلى الخارج بواسطة سفاراتها.. وبالطبع فإن الاستعمار البريطاني، بصرف النظر عن الخدمة التي قدمتها الصهيونية بالتاثير على أمريكا وإدخالها الحرب مما نتج عنه انتصار الحلفاء، قد كان يدرك قيمة إنشاء دولة يهودية وسط البلاد العربية، وهي منطقة يتطلع إلى أن يكون له بها نفوذ مستديم، لما لها في ذاتها من أهمية قصوى، ولما تؤمن من طريقه إلى مستعمرته العظمى يومئذ ـ الهند..
الانتداب وهجرة اليهود
تعهدت بريطانيا إذن للحركة الصهيونية بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وأعلن ذلك وزير خارجيتها آرثر بلفور في نوفمبر عام 1917م.. ولقد أعطيت بريطانيا الانتداب على أقليم فلسطين في عام 1919م بقرار من القوات المتحالفة المنتصرة.. ثم إن عصبة الأمم في عام 1923م أقرت انتدابها على فلسطين رسمياً، وأقرت وعد بلفور بالوطن القومي لليهود، وكُلفِّت بريطانيا بالقيام على إنشاء هذا الوطن القومي، وقد جاء هذا التكليف الرسمي من عصبة الأمم على النحو التالي:-
((إن الانتداب سيكون مسئولاً عن وضع الدولة في ظروف سياسية وإدارية واقتصادية تساعد على إنشاء وطن قومي لليهود في تلك البلاد.. كما أنه سيعمل على تطوير منظمات الحكم الذاتي، بالإضافة إلى مسئوليته عن حماية الحقوق الدينية والمدنية لجميع السكان في فلسطين دون مراعاة للاختلافات العنصرية أو الدينية))..
وقد كان من ضمن توصيات وتوجيهات عصبة الأمم لبريطانيا وهي دولة الانتداب ((أن تيسر هجرة اليهود بشروط مناسبة)) وأن تشجع استيطان اليهود ببعض أرض فلسطين سواء أكانت ((أرض الدولة أو الأرض القاحلة التي لا تحتاج إليها الدولة للمنافع العامة))..
وفى إبان قطع البريطانيين بوعد بلفور أصرت الصهيونية على أن تدخل أمريكا في الالتزام بهذا الوعد، وسعى زعماء الصهيونية في بريطانيا وفى أمريكا سعيهم حتى اهتم الرئيس الأمريكي ودرو ولسون فكون لجنة أرسل بها إلى فلسطين لتوافيه بتقرير بعد دراسة الحقائق على الطبيعة، وقد كان ذلك عام 1919م، ولقد تقدمت هذه اللجنة بتقرير تقول فيه ((إن مؤتمر السلام ينبغي ألا يغمض عينيه عن حقيقة هامة هي أن الشعور المضاد للصهيونية في فلسطين وسوريا شعور عنيف لا يجب أن نغض من شأنه أو نأخذه مأخذ السخرية والتهكم.. وقد أجمع الضباط البريطانيون الذين استشارهم أعضاء اللجنة على اعتقادهم بأن البرنامج الصهيوني لا يمكن تنفيذه إلا عن طريق القوة المسلحة.)).. ومع ذلك فإن أمريكا قد التزمت للصهيونية، وباشرت الوفاء بالالتزام بصورة هي ظاهرة كل الظهور في موقفها الحاضر من دولة إسرائيل..
ولقد كان بفلسطين في ذلك الوقت 84.000 يهودى 650.000 عربى ومساحة فلسطين نحو8000 ميل مربع، ولكن الهجرة اليهودية في استمرار، وتجد التشجيع الرسمي.. وكلما ازدادت هجرة اليهود كلما ازدادت مخاوف العرب، وكان رأيهم ((إن الصهيونية صنو للاستعمار الانجليزي، وأن الزعماء الصهاينة المسئولين قد نادوا دائماً بفائدة إيجاد وطن قومي يهودي قوي يعتمد عليه الانجليز لحماية طريقهم إلى الهند والوقوف في سبيل نمو القومية العربية))..
معارضة وعد بلفور
وهب في معارضة وعد بلفور كل سكان فلسطين من غير اليهود - العرب وغير العرب - المسلمون والمسيحيون، وكانت المشكلة تتمثل لهم على صعيدين: الصعيد الاقتصادي والصعيد السياسي.. فأما من الناحية الاقتصادية فإن سكان فلسطين كانوا يشعرون أن هؤلاء اليهود سينافسونهم في معيشتهم، وأنهم بثرواتهم الضخمة، ومقدرتهم الاقتصادية المعروفة، وباتجاههم إلى امتلاك الأرض من أصحابها باغرائهم بالمال سيصبحون، عما قريب، سادة البلاد الفعليين.. وأما من الناحية السياسية فقد كان الفلسطينيون يشعرون بأن اليهود سيكونون عقبة أمام تحرير البلاد من نير الاستعمار.. لأنه قد عرف عنهم دائماً أنهم يعارضون كل اتجاه وطني لتحرير البلاد التي يعيشون فيها وأنهم يفضلون أن يتعاونوا مع الدولة الحاكمة الأجنبية ضد العناصر الوطنية.. فكأنهم بذلك يمهدون ليوم يستولون فيه على السلطة منفردين بها عن بقية السكان، فإن لم يجئ ذلك اليوم فلا بأس في حسبانهم من استمرار الحكم الأجنبي.. ولعل هذا العامل السياسي قد كان من أكبر الأسباب التي جمعت على مقاومتهم كل سكان البلاد من مسيحيين ومسلمين.. وقد بلغت هذه المقاومة في عام 1922م حداً من العنف جعل البريطانيين يصرحون في ذلك العام بأن وعد بلفور لم يقصد به أن تصبح ((فلسطين كلها يهودية)) وهو لم يقصد به إلى استبدال السكان العرب، أو الثقافة العربية بسكان آخرين أو بثقافة اخرى.. وإنما هدفه توطين اليهود في بلاد يعتبرونها وطناً قومياً لهم باعتبار تاريخهم الماضي، وكان زعماء الصهيونية يوافقون على تصريح بريطانيا هذا ويعلنون قبولهم إياه..
ومع إن هجرة اليهود إلى فلسطين كانت متصلة، ومنظمة تنظيماً رسمياً من قبل دولة الاحتلال، إلا أنها كانت في نطاق ضيق في خلال العقد الثالث من القرن العشرين.. ثم أخذت في نهايته تزداد ازدياداً ملحوظاً، ويرجع السبب في ازديادها إلى ما وقع من اضطهاد لليهود من النازية في المانيا، ومن الدول المشايعة للنازية في اوروبا.. ولقد بلغ الأمر بهجرة مضطهدي يهود اوروبا إلى فلسطين، في الفترة التي تلت عام 1930م، مبلغاً أظهر عجز بريطانيا عن السيطرة على تنظيم الهجرة، كما هو من واجبها أن تفعل، وأثار شكوك العرب ودفعهم إلى التفكير في حل عربي لمشكلة فلسطين..
ثم نشبت الحرب العالمية الثانية، وقد شمّر فيها اليهود يبذلون مجهوداً كبيراً من أجل نصرة الحلفاء، وهم يشعرون أن انتصار الحلفاء الثاني في الحرب الثانية لا بد أن يبلغ بهم ما يرمون إليه من هدف.. وكانت العلاقات بين المهاجرين اليهود والمقيمين العرب تزداد سوء كل حين، حتى إذا وضعت الحرب أوزارها في عام 1945م بدأ سوء هذه العلاقات يتصاعد نحو قمة الأزمة.. وفى تلك السنة كونت الأقطار العربية المستقلة الجامعة العربية (وهى مصر والسعودية، واليمن، وسوريا، ولبنان، والعراق، والاردن)..
قرار التقسيم
وعجزت بريطانيا عن السيطرة على الهجرة وعجزت عن وضع حل يرضي العرب واليهود.. وأصبحت تستعد للتخلي عن الانتداب.. وفى 2 ابريل من عام 1947م طالبت بعقد دورة خاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة لمناقشة هذه المشكلة الفلسطينية.. ولقد كان إعلان بريطانيا عجزها على لسان وزير خارجيتها المستر آيرنست بيفن، وذلك حين قال من خطاب له ألقاه أمام مجلس العموم البريطاني ((مشكلة فلسطين قضية معقدة كل التعقيد بسبب ما فيها من تناقض في موضوع حقوق الفريقين: العرب واليهود، بموجب صك الانتداب)) ثم يمضي في خطابه ذاك إلى أن يقول، ((لقد عجزت بريطانيا عن التوفيق بين السماح لليهود بغزو فلسطين وبين مراعاة صك الانتداب في عدم الإضرار بمصالح سكانها الآخرين.. ولقد أصدرت بريطانيا الكتاب الأبيض الذي حدد الهجرة لفلسطين ليوقفها فيما بعد، وأقر المجلس الموقر هذا الكتاب الذي أثار معارضة اليهود، وتشدد العرب وإصرارهم على الاستقلال الناجز.. ومما زاد في تعقيد القضية أن أمريكا قد حشرت نفسها فيها وأخذ الرئيس ترومان يوالي تصريحاته عنها.. ولو وقف أمر هذا التدخل الأمريكي عند حد إدخال مائة ألف مهاجر يهودي إلى فلسطين لكان في الإمكان معالجته، ولكن الحدبث يدور حول المجئ بالملايين، وليس من العدل المساواة بين مصالح العرب أصحاب البلاد وبين اليهود الطارئين على فلسطين.. إلا أن بريطانيا لا تستطيع أن تفرض حلاً نهائياً بالقوة، لأنها دولة منتدبة، ولذا فقد أصبح من واجبها أن ترفع الأمر إلى الأمم المتحدة لتقرر وتفرض الحل الذي تراه))..