إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
صدق الله العظيم
قال تبارك وتعالى في حق الصيام ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) ..
الصوم عبادة قديمة، إرتبطت بكل ديانات التوحيد، وإن إختلفت هيئته باختلاف مستويات الأمم، وأزمانهم، وطاقتهم. وعندنا في الإسلام، فإن الصيام هو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج، من قبيل الفجر وحتى مغيب الشمس .. ولكن ليس ذلك قصاراه، وإنما المطلوب فيه الإمساك عن قول السوء، وعن الإضرار بالناس، والإمساك حتى عن شهوة الكلام !! فقد جاء في الحديث ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) .. فإذا كان هذا في سائر الأوقات فإنه في وقت الصوم أولى. والصمت من عبادة الأنبياء، والأولياء، والصالحين، قال تعالى لمريم البتول (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) .. ولعل السبب في ذلك، أن الإنسان إذا لم يصمت لا يستطيع أن يتأمل، وينظر الى داخله، ويتعرف على نفسه، فيكتشف معايبها، ويقوم باصلاحها.. والتفكر يحتاج الى الصمت، والى الخلوة، والبعد عن ضوضاء الناس، وجلبتهم .. والتفكر أرفع من العبادة وفي الحديث ((تفكر ساعة خير من عبادة سبعين عاماً)) وذلك لأن الغاية هي إصلاح النفس، ولاتصلح النفس دون معرفة آفاتها وعيوبها، وهذه مهمة غاية في الصعوبة ورحم الله أبا العتاهية إذ يقول:
كيف اصلاح نفوس إنما هن قروح أحسن الله بنا إن الخطايا لا تفوح
والشخص الثرثار، الذي يتكلم كثيراً، ويحب أن يستلم المجلس، يقع في الأخطاء، وربما تحدث عن الناس في غيابهم، وربما حاول أن يرضي السامعين، أويضحكهم، فيضطر أن يكذب، أو يبالغ، حتى يصبح حديثه مرغوباً من السامعين، ولو صمت لكان خير له.
والصوم حظ الروح من العبادة، ومعنى ذلك أن فائدته تذهب مباشرة، الى زيادة روحانية الإنسان، فهو يشحذ الذكاء، ويعطية قوة و نفاذاً. ومعلوم أن " البطنة" تنيم " الفطنة"، والصيام إنما يشحذ الذكاء، لأنه يؤثر على الدم فينقيه، ويقلله، ويحد بذلك من طيش واندفاع الشهوة .. وقد جاء في حديث المعصوم ((إن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالصوم)) .. والغرض من عبادة الصوم أن يقوى العقل وهو الروح المنفوخ في الجرم البشري قال تعالى ((فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)) ..
والعلاقة بين العقل والصوم، علاقة تعاون على السيطرة على نوازع الجبلة، والحد من غلبة الشهوة .. فلقد جاءت الأوامر والنواهي في الشريعة، لتوجه العقل الى ضبط غرائز النفس، ومن هنا جاء الصوم، في مستواه الإبتدائي، تقييداً محدوداً، لشهوتي البطن والفرج ، في نهار شهر رمضان. فاذا تدرج السالك في مراقي الصوم، فطم نفسه من كل الفضول، ومرسها على محاربة العادة، ومن ذلك الصوم عن الكلام ، كما ذكرنا.. واذا استقامت للسالك نفسه في هذه المراحل، إتجه الصوم الى الخواطر، فصام عن كل خاطر سوء .. والصائم عن الخواطر السيئة، بحيث تكون داخلية نفسه خيّرة ، هو الصائم حقاً .. ولقد كان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ((اللهم اجعل سريرتي خير من علانيتي واجعل علانيتي خيّرة)) . وإذا لم يستطع الإنسان، أن يكف عن الكذب، والنميمة، والغيبة، والسخرية، والسب، والشتم، واللعن، والبذاءة، وغيرها من مساوئ الاخلاق ، ولم يبدأ في تهذيب خواطره، فلا داعي ان يترك طعامه وشرابه، كما جاء في الحديث، لأنه لن يعتبر عند الله صائماً..
والصيام ممارسة في الزهد، ومحاولة لتهذيب النفس، والتوجه الى الله .. ولهذا يجب أن نقلل فيه من الطعام حين نفطر في آخر اليوم. أما أن يأكل الناس في رمضان أكثر مما يأكلون في غيره من الشهور، وأن يشتروا فيه من الطعام والشراب أكثر، فإن هذه مفارقات، تقتل روح العمل، وتبقي على قشرته فقط .. وأقل الصيام الذي يسير صاحبه الى حقيقة الصوم، أن يأكل وجبتين في يوم الصيام، بدلاً من الثلاثة وجبات التي يأكلها في غير رمضان.. وصيام المجوّدين، يقوم على وجبة واحدة في اليوم !! كما يجب ان نقلل من النوم في شهر رمضان فلا نساهر بالليل في لعب الورق أو "الونسة" أو مشاهدة المسلسلات ثم ننوم معظم النهار ونحتال بالهروب من مواجهة الجوع والعطش !!
يقول تعالى ((هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)) والفرق بين الضياء والنور، أن الجرم المضئ، نوره من ذاته، أما الجرم المنير، فنوره منعكس عليه من الجسم المضئ .. وجاء في الحديث ((الصوم ضياء والصلاة نور))!! وفي مستوى تأويل القرآن، هناك مقابل في داخل الجرم البشري، لكل ما هو موجود في الآفاق .. قال تعالى في ذلك ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))، ولهذا فإن الشمس إشارة الى القلب، حيث مركز الروح، والقمر إشارة الى العقل، والجسد إشارة الى الأرض ونحن في صلاتنا إنما نسعى لأن نعرض عقولنا الى ضياء قلوبنا حتى تصبح منيرة وهادية لنا في دروب الحياة .
والصلاة حظ النفس، حين كان الصيام حظ الروح .. ونحن حين نمارس حركات صلواتنا، كأنما نقلب عقولنا في أجسادنا، لتقابل ضياء أرواحنا من داخل قلوبنا، كما يتقلب القمر في أوضاعه المختلفة، حتى يصبح بدراً تاماً، ثم يقوم هو بإنارة الجسد، كما ينير القمر الأرض.
والعلاقة بين القرآن ورمضان، ليست مجرد إنزال القرآن في رمضان .. وإنما أبعد مدى من ذلك. فالصيام كما قررنا، حظ الروح، والروح المنفوخ في الجسد البشري، هو العقل .. قال تعالى ((فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)) .. والقرآن مستوى من مستويات الروح، قال تعالى ((وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) ومن هنا جاء فضل التعرض للقرآن، بالقراءة والتفكر، ومحاولة الفهم، في رمضان .. وأفضل قراءة القرآن ما كان منه في الصلاة، وروح الصلاة الحضور فيها، والحضور يتأتى في قيام الليل، أكثر مما في الأوقات الأخرى. ومن هنا جاءت فضيلة قيام الليل في رمضان، وفي غير رمضان .. وصلاة القيام، ليست هي صلاة "التراويح" التي يصليها الناس اليوم بعد العشاء، ثم ينصرفوا الى أمور حياتهم بعدها، فهذه ليست سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما السنة هي قيام الليل، أدناه ركعتان ووتر، وأعلاه أثنتا عشرة ركعة ووتر.
والصوم ليس قصاراه أن يكبت الشهوات والخواطر، وانما أن يكسب العقل بالمران، القدرة على مناقشتها، وتصفيتها، حتى يتحرر تماماً من سيطرتها وإلحاحها .. وليس الغاية ألا يكون للإنسان أي شهوة، وإنما أن تكون شهوته في مرضاة الله .. فقد جاء في الحديث " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به" .. والعبادة كلها، وفي مقدمتها الصلاة والصوم، تسوق إذا اتقنت الى العبودية، والعبودية لا تتم للإنسان، وهو مسترق لأي شئ سوى الله .. فالعبد لله هو الذي تحرر مما سواه .. ومن هنا تجئ علاقة الصوم بالحرية. والحرية مستويان : حرية الفرد في الجماعة، وحرية الفرد في داخل نفسه، وهو في الجماعة .. فحرية الفرد في الجماعة، هي التي يناضل الناس لتحقيقها، بخلق القوانين العادلة، وبالنظام الديمقراطي، واستقلال القضاء، والتداول السلمي للسلطة، والمواثيق التي تحفظ حقوق الإنسان. وهي في الغالب، لا تأتي إلا بثورة تغيير النظام القديم .. أما حرية الفرد في داخل نفسه، فهي تعني خلاصه- خلاص عقله وقلبه من الخوف. وهي أيضاً تحتاج الى ثورة، داخلية، تعيد صياغة النفس صياغة جديدة وذلك لأن الخوف المتأصل في النفس البشرية هو الأب الشرعي لكل معايب السلوك ومساوئ الاخلاق والشخص الخائف، لا يستطيع الاستمتاع بحياته، ولا بحريته، وسط الجماعة. ولما كانت النفس بطبعها تسعى للذة العاجلة، بكل سبيل، وتفر من الألم، فان اتجاه تربيتها، هو الحد من لذتها، بالعقل القوي الذي يسوقها مما تريد الى ما يرضي الله .. ولهذا قامت حكمة الصوم، على إضعاف الجسد، بالجوع والعطش، والحرمان من الشهوة الجنسية، حتى يسهل قياد النفس للعقل، وفي هذا المضمار، يجئ دور الصوم في تحقيق الحرية .. فالصيام يعين على ترك مذام العادات، والتحرر من سلطان العادة، والحد من ممارسة للشهوة .. وحين يغيب التفكر، نؤدي أعمالنا بالعادة، التي تجاري طبيعتنا.. ولقد جاء الصوم محارباً للعادة، وشاحذاً للفكر، ولهذا تجد أصحاب "الكيف" ، أشقى الناس بالصيام، لأنهم عبيد العادة، التي تأصلت حتى أصبحت إدمان .. ومن هنا تجئ حرمة "الكيف"، بكل أنواعه، وكل مستوياته، ولو كان المشروب، أو المأكول، أو المستنشق، في نفسه ليس حراماً، وذلك لأن الحرمة عند السالكين المجوّدين إنما تقع على الإدمان، وليس على عين الشئ المتناول، وحرمة الإدمان تجئ من استعباده للإنسان وحرمانه من ثم من العبودية لله وهو بذلك يحد من الحرية، والحرية هي أرفع قيم الحياة !!
ومن إسهام الصوم في تحقيق الحرية، شحذ الذكاء، الذي يعين على حسن التصرف، الذي يمنع الحرية من المصادرة .. فمعلوم أن ثمن الحرية، هو حسن التصرف فيها، و أن سوء تصرف الفرد، الذي يورطه في الاعتداء على حقوق الجماعة، يصادر حريته، وفق قانون الجماعة. فالحر حرية فردية مطلقة، إنما يسلك فوق قوانين الجماعة .. ولهذا هو يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، ثم لا تكون عاقبة فكره، وقوله، وعمله، إلا خيراً وبراً بالاحياء والأشياء!! مثل هذا الشخص الحر، موكل بالعدل والاحسان، لو كان هنالك قانون أو لم يكن. ولما كانت الحرية بهذا المعني عزيزة المنال، قال الشاعر العارف :
تمنيت على الزمان محالاً أن ترى مقلتاي طلعة حر
و الأفراد هم الذين يكونون المجتمع، لهذا فإن التداخل واضح بين الحرية في المجتمع، والحرية لدى الفرد .. فإذا كان الحكام في بلد، بعيدين كافراد، عن تحقيق الحرية في أنفسهم، فلا يتوقع أن يعرفوا قيمتها .. ولهذا تجئ مصادرتهم لحريات الآخرين منطلقة من خوفهم وطمعهم .. طمعهم بالحرص على التمتع بالسلطة، والجاه، وما يتبعهما من متع الحياة الدنيا. وخوفهم من زوال هذه النعم، ومحاسبتهم على ما ارتكبوا من جرائم، بغرض المحافظة عليها.. فاذا وضح هذا ، فإن المنهج الذي يركز على إصلاح المجتمع ويهمل الفرد، منهج معكوس لأنه يهتم بالوسيلة ويهمل الغاية، كما أن المنهج الذي يركز على إصلاح الفرد، ويهمل إصلاح المجتمع ، منهج ناقص، لأنه أهمل الوسيلة الوحيدة المؤدية لغايته. فأنت لا يمكن أن تحقق الديمقراطية، إذا كان من يدعي تطبيقها لا يعرف حقيقتها، ولا يعتقد أنها ذات علاقة بتربيته لنفسه، وتخلصه من خوفه، وطمعه .. وإذا كان من تطبق عليه لا يستطيع تحمل مسؤوليتها، والوفاء بمتطلباتها، والسهر على حمايتها من كل وصاية. فالصوم إذاً ثورة تحرر داخلي، بها تكتمل حرية الفرد، بعد أن يخلق المجتمع الديمقراطي الحر.
ولعل من أول خطوات الإصلاح ، الربط الوثيق، بين المفاهيم الدينية، وواقع الحياة .. وذلك لأن الدين قد جاء من أجل الإنسان، وليس العكس. فاذا كان الدين منقولات عن السلف، لا تؤثر فينا، ولا تنسجم مع حياتنا فان التعلق بها، لا يمكن أن يكون من مرضاة الله ..