إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الاستاذ محمود في الذكرى الثلاثين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (٩)
خالد الحاج عبد المحمود
يناير ٢٠١٥
وحدة الكوكب الأرضي ومقتضيات هذه الوحدة:
لقد تحدث الأستاذ محمود، عن وحدة الكوكب الأرضي، بوقت طويل قبل ظهور مصطلح (العولمة).. وعلى كل، هنالك اختلاف جذري بين رؤية الأستاذ لهذه الوحدة، ورؤية العولمة لها.
لقد جاء من كتاب الأستاذ محمود (رسائل ومقالات الأول) قوله: "هذا الكوكب الصغير الذي تعيش فيه الإنسانية، وحدة جغرافية، قد ربط تقدم المواصلات الحديثة السريعة بين إطرافه ربطا ألغى الزمان، والمكان، إلغاء يكاد يكون تاما، حتى لقد أصبحت جميع أجزاء المعمورة تتجاوب في مدى ساعات معدودات للحدث البسيط يحدث في أي جزء من أجزائه.. يضاف إلى ذلك أن هذا الكوكب الصغير معمور بإنسانية متساوية في أصل الفطرة وان تفاوتت في الحظوظ المكتسبة من التحصيل والتمدين.. فينبغي والحال هذه، بل انه في الحقيقة، ضربة لازب أن تقوم فيه حكومة واحدة، تقيم علائق الأمم على أساس القانون كما تقيم حكومات الأمم - كل في داخليتها - علائق الأفراد على أساس القانون.. فذلك أمر مستطاع، بل هو آمر لا معدى عنه.. فان المتتبع لتطور الحياة يعلم جيدا أن مسالة الوحدة العالمية مسألة زمن فقط".. وهذا المعنى ورد بصور مختلفة، في مواقع عديدة جدا، من كتابات الأستاذ، وأقواله، ونحن لا نحتاج لمتابعتها، ولكن يمكن إيراد بعض النماذج الأخرى، فقد جاء من كتاب (التحدي الذي يواجه العرب) الصادرة طبعته الأولى في سنة 1967 قوله: "بإيجاز فإن التحدي الذي يواجه البشرية اليوم هو أن الكوكب الذي نعيش فيه قد اكتملت له الوحدة المكانية، وقد أصبح يتطلب من البشرية التي تعيش فيه، أن تحقق الوحدة الفكرية بين أفرادها، حتى يستطيعوا أن يتعايشوا في سلام - إن لم نقل يعيشوا في سلام - مع اختلاف ألوانهم، ولغاتهم، وعاداتهم، وعقائدهم، فإن هم عجزوا عن ذلك فسيكون مصيرهم مصير كل الأحياء الذين عجزوا عن أن يوائموا بين حياتهم وبين بيئتهم - وقد جرت بذلك سنة الأولين .. وتوحد البشرية عن طريق الفكر - وليس هنالك من طريق سواه - يتطلب مدنية تعطي منزلة الشرف للفكر".. ولقد جاء من كتاب (مشكلة الشرق الأوسط) أكتوبر 1967 في الفصل الأول تحت عنوان (صور الأشياء) قوله: "هنالك ثلاثة أمور لابد من استيقانها:-
أولها: أن حكم الوقت يقضي على هذه البشرية التي تعمر هذا الكوكب أن تتوحد
وثانيها: أن هذه البشرية لكي تتوحد، لا بد لها من السلام.
وثالثها: أنها من أجل السلام لا بد لها من المدنية التي تنشر حكم القانون العادل".. وقد جرت تفاصيل في كل هذه الجوانب، ويمكن لمن يشاء أن يرجع إليها.
ويقول الأستاذ محمود، عن مقتضيات وحدة الكوكب الأرضي، ما نصه: "بفضل الله، ثم بفضل هذه الكشوف، أصبحت الإنسانية تعيش في بيئة طبيعية جديدة .. بيئة صغيرة موحدة.. ولكي توائم الإنسانية بين مذاهبها الاجتماعية، وبيئتها الطبيعية هذه الموحدة، أصبح لزاما، أن تبرز إلى حيز الوجود، مذهبية اجتماعية، عالمية، موحدة، أيضا، عندها تلتقي الإنسانية جمعاء، التقاء أصالة، بصرف النظر عن اختلاف اللون واللسان والموطن.
وبنفس القدر الذي به أصبحنا نعيش في بيئة، واحدة، فقد وجب علينا أن نفكر تفكيرا جديدا، تفكيرا يتسم بالأصالة، وبالشمول، وبالدقة.. ووجب علينا أيضا أن نعيد النظر فيما تواضع عليه الناس، في العهود السوابق، من مفاهيم ومدلولات"
الحضارة والمدنية:
ومما له صلة أساسية، بمفهوم الواقع، ما سبق أن ذكرناه، في الحلقة الثانية، من أننا نعيش في أخريات الثلث الأخير من ليل الوقت.. فمن لا يرى جيدا، تغلب عليه رؤية ظلام الليل، فيتوهم أن لها السيادة.. أما من يرى جيدا، فيرى أن ظلام الليل، يوشك أن يزول، فهو في حالة فناء.. أما ما يوشك أن يولد فهو اليوم الجديد، الذي بدأت تظهر تباليج فجره، ولن يلبث طويلا، حتى يطلع. وهذا اليوم هو - اليوم الآخر - الذي ظلت جميع رسالات السماء تستهدفه، وتبشر به، وتدعو له، وللإيمان به، حتى أنه أصبح ركنا من أركان الإيمان الديني.. هذا الثلث الأخير من ليل الوقت، هو قمة (الحضارة) البشرية، على الأرض - وقد ميزنا بين الحضارة والمدنية، فليراجع في موضعه - بل ما نعيشه هو (الحضارة) المعرفة بالألف واللام، وكل صور الحضارات السابقة، هي تمهيد وإعداد لهذه الحضارة، ومقدمة طبيعية لها.. وإنسان هذه الحضارة، هو قمة البشرية، أو (خاتم البشر) كما عبر بعض المفكرين الغربيين، ولكن بمعنى غير الذي عنوه.. وهذه الحضارة وصلت إلى نهايتها، وتوشك أن تفضي إلى عصر (المدنية) المعرفة بالألف واللام.. مدنية (اليوم الآخر)، التي كانت جميع المدنيات، والحضارات، الأخرى السابقة، مقدمة لها، وإعداد للأرض حتى تجعل ظهورها ممكنا.. وهذه الحضارة، لكي تتحول إلى مدنية، هنالك العديد من صور التغيير الهامة، التي لا بد أن تتم فيها، بالنسبة للفرد البشري، وبالنسبة للمجتمع البشري.. وأساس التغيير كله، هو التحول من مرحلة قمة البشرية، إلى مرحلة الإنسانية.. وهو يعني التحول من الحياة الدنيا، إلى الحياة العليا - الأخرى - والتحول من عقل المعاش، وقيمه، إلى عقل المعاد، وقيمه - ولقد سبق لنا أن ذكرنا، أن الإنسان طالما سيطرت عليه النزعات الحيوانية، قاومها، أو خضع لها، فهو في الحياة الدنيا - فنحن على الرغم من أننا خرجنا من الغابة، منذ وقت طويل، إلا أننا خرجنا والغابة داخلنا، فهي وإن يك قد حدث لها تلطيف في الخارج، إلا أنه في الداخل، لا يزال الحيوان هو المسيطر، لم ينله إلا القليل جدا، من التهذيب، والأنسنة.. والبيئة الجديدة، وهي تفرض علينا السلام، تقتضي التخلص من جميع النزعات الحيوانية فينا، والتحول نحو النزعات الإنسانية.. وهذا يعني السيطرة التامة للفكر، والقيم، على الغرائز، بدلا عن سيطرة الغرائز، كما هو الحال عند الحيوان، والى حد كبير عندنا نحن، حتى الآن.. ولأن حكم وقتنا الجديد، يقتضي السلام، فإن أهم ما ينبغي أن نتحول عنه، من نزعاتنا الحيوانية، هو (العدوانية)، والتي تعبر عن نفسها، بصور عديدة، أهمها، وأخطرها، الاتجاه الرهيب جدا، والمكلف، والخطير جدا، إلى التسلح وعسكرة الحياة، والذي يسود جميع دول العالم!! فعلى الرغم من أننا فقدنا المخالب، والأنياب، التي كانت لنا في الغابة، إلا أننا لم نتخلص منها، وإنما استعضنا عنها، بمخالب وأنياب، أكثر فتكا، بكثير جدا من تلك التي كانت لنا ونحن في الغابة!!
رغم كل التطور الخارجي، إلا أن قانون الغابة لا يزال هو السائد - صحيح أن هنالك الكثير من التلطيف - لكن لم يتم تجاوز قانون الغابة، في مجتمعنا هذا المتحضر!! والقاعدة الأساسية في قانون الغابة هي أن القوة تصنع الحق وتتقاضاه..
فللقوي حق طبيعي على الضعيف يستحقه لمجرد قوته..ويتقاضاه بقوته.. هذه هي شريعة الحيوان، ولا نزال نحن نعتقد فيها، ونعمل بها.. ولا يزال أسلوب الهيمنة، الذي يقوم عليه مجتمع الحيوان، في الغابة، هو الأسلوب السائد في مجتمعنا المتحضر!! ولا تزال، في مجتمعنا، الحيوانات الصغيرة، والضعيفة، عليها أن تعيش على فضلات الحيوانات القوية!!