إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الاستاذ محمود في الذكرى الثلاثين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (٣)

خالد الحاج عبد المحمود


يناير ٢٠١٥

الحق والباطل:


إن القضية الأولى، والأساسية، بالنسبة للنظرية النقدية في الإسلام، هي أن الحقيقة واحدة، هي الذات الإلهية - وهذه الحقيقة التوحيدية الكبرى، تفيد بأنه تعالى، مرجعية كل شيء في الوجود.. فمن هذه الحقيقة ينبثق كل شيء، واليها يعود.. فالوجود مصدره واحد، وطبيعته واحدة، وقانونه واحد، وطريقه واحد، ومصيره واحد.. هذه (الوحدة) هي أهم ما يميز التصور الإسلامي.. وعندما نأتي لمناقشة الحضارة الغربية، سنرى، أن جميع مشاكلها الكبيرة، ناتجة عن الربكة والقصور، في تصورها للحقيقة.. والخلل، في أي قضية من قضايا هذه الحضارة، مرجعه الأساسي، للقصور، والخلل المبدئي في تصور الحقيقة!!
وبما أن الحقيقة واحدة، وهي مصدر الوجود الحادث، كله، فإن الباطل المطلق لا وجود له.. الباطل المطلق لا يدخل الوجود.. فالباطل باعتبار الحقيقة - اعتبار وجهة نظر الله للوجود - لا وجود له!! وإنما وجود الباطل وجود عقلي، يقوم على ظاهر الأشياء.. كما سبق أن قررنا أن كل شيء يدخل الوجود، إنما يدخل بإرادة الله، وإرادة الله حق، يقول تعالى: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا، ذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار). فالسموات والأرض حق في ذاتها، وخلقت بالحق، فالباطل هو الوجه البعيد عن الحقيقة، والحق هو الوجه القريب منها.. فالكفر، مثلا، دخل بإرادة الله (من آمن فقد آمن بقضاء وقدر، ومن كفر فقد كفر بقضاء وقدر).. فالكافر (مسلم)، من حيث الإسلام العام، الذي لا يخرج عنه خارج، ولا يشذ عنه شاذ!! ولكنه كافر من حيث الشريعة.. والحق هو القانون الذي يسير الله تعالى به الوجود إليه.. وهو، هو الإرادة الإلهية.. يقول تعالى: (وما خلقنا السموات والأرض، وما بينهما، إلا بالحق، وأجل مسمى، والذين كفروا عما أنذروا معرضون) أو يقول: (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق، ولكن أكثرهم لا يعلمون).. فالوجود كله، خلق الله، وخلق الله لا يكون لغير حكمة.. وهذه الحكمة هي الحق وراء الباطل في أيّ صورة من صوره. وهذه الحكمة أيضا، هي الحق وراء الشر والعذاب في أيّ صورة من صورهما.. فالحق نسبي، والباطل نسبي، وهما يأخذان نسبيتهما من قربهما أو بعدهما عن الحقيقة وهما مقيدان بحكم الوقت.. فكل حق، هو حق بالنسبة لوقته، فإذا جاء حكم وقت جديد، أصبح باطلا، وانتقل الحق إلى ما هو أكمل منه، حسب حكم الوقت الجديد.. والحق والباطل مرتبطان بما ينفع الناس أو يضرهم.. وما ينفع الناس أو يضرهم، مرتبط بقانون الوحدة - مرتبط بخيري الدنيا والأخرى معا.
من كل ذلك، نخلص إلى أن الله تعالى، هو الفاعل الحقيقي، لكل ما يحدث في الوجود.. وهو تعالى، يفعل بذاته، ويفعل بالأسباب.. وفعله بالأسباب، يعني أن هنالك فاعل مباشر.. والنظرة التي تقوم على التوحيد تقتضي رؤية الفاعل الحقيقي والفاعل المباشر في وقت واحد.. وهذا هو موضوع السببية وهو أهم مواضيع الفكر البشري، في جميع مجالاته، في الدين، وفي الفلسفة، وفي العلم، وفي الفكر، وفي الحياة.. ولما كان فعل الله تعالى في الوجود، لا يكون إلا لحكمة، فإن كل ما يحدث في الوجود له غاية محددة، ولا شيء على الإطلاق يحدث صدفة، أو لغير غرض أو حكمة.. وهذا هو موضوع الغائية الكونية، وهو موضوع المعرفة الحقيقية، وعليه ينبني كل شيء، فيما يتعلق بالقيم والأخلاق بالذات، كما عليه ينبني مفهوم النظرة التاريخية التي وفقها يتم إحقاق الحق وإبطال الباطل - كما سنرى.. وأهم ما يعنينا هنا، عن الغائية الكونية، هو أن الإنسان، في الإسلام، هو الغاية، من جميع الأكوان، ومن جميع ما يجري فيها.. فالكون كله مسخر لإنجاب الإنسان (وسخر لكم ما في السموات والأرض، جميعا منه..) وهذا ينطبق على الإنسان نفسه، فغايته هي نفس الغاية الكونية، وهي تحقيق إنسانيته.. وعلى ذلك، فإن غاية الأكوان وغاية الإنسان، هي غاية واحدة.. وتحقيق إنسانية الإنسان، يعبر عنها في الإسلام بصور مختلفة.. ومن ذلك، أنها تعني، رجوع الإنسان إلى المقام الذي عنه صدر، وهو صورة (أحسن تقويم)، التي كانها في الملكوت، في عالم الأرواح، يحققها هنا في عالم الأجساد..وهذا يعني العودة إلى الفطرة الأساسية التي فطره الله عليها (فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون).. وهذه الفطرة ثابتة، لا تتغير، وهذا معنى قوله تعالى: (لا تبديل لخلق الله) ولكنها تتغطى وقد تغطت بالفعل، عبر التجربة في صراع الحياة.. ووظيفة المنهاج في الإسلام، هي إزالة الحجب التي حجبت الإنسان عن فطرته الأصيلة، حتى يتمكن من الرجوع إليها.. وهذه هي وظيفة القرآن، ووظيفة، منهاج (طريق محمد) عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم.. وتحقيق إنسانية الإنسان، يعبر عنها أيضا، بتحقيق، خلافة الإنسان لله في الأرض، والتي قال عنها تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة).. ويعبر عنها، بتحقيق العبودية لله.. فكل هذه المعاني، تعبر عن موضوع واحد، من زوايا مختلفة.. وتحقيق إنسانية الإنسان، إنما تكون بالترقي في الفكر، وفي القيم، وفي الحرية، طلبا لتحقيق الحياة الإنسانية، والفكر، والقيم، والحرية، في الإسلام، هي أيضا وجوه مختلفة، لموضوع واحد، ولا يمكن الفصل بينها - وهذا ما سيتم بيانه لاحقا.
وأكبر نقائص الحضارة الغربية، والنقص الذي يقضي عليها بالفشل النهائي، هو أنه لا توجد فيها أي غائية كونية!! وهذا ما جعل هنالك، خللا، وقصورا، في جميع قضاياها الأساسية، خصوصا في مجال القيم، فمن المستحيل أن تكون هنالك مرجعية ثابتة للقيم، دون وجود غائية كونية، وهذا ما سنبينه، في موضعه، عند نقد الحضارة الغربية.. وحتى السببية، فإن تصور الحضارة الغربية لها، قاصر أشد القصور، فهي تهمل السبب الحقيقي، وتتعامل فقط مع الأسباب الظاهرة.. وحتى الأسباب الظاهرة، تصور الحضارة الغربية لها، تصور مضطرب جدا.. وسنرى ذلك بصورة خاصة، عندما نتحدث عن السببية في العلم المادي التجريبي، والذي هو من أهم أطر المرجعية، في الحضارة الغربية..