إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
في ذكرى إغتياله التاسعة والعشرين: الأستاذ محمود محمد طه , مضاء الفكر والعزيمة
خالد فضل
تمر هذه الأيام الذكرى 29 على إغتيال المفكر الإسلامي الكبير الشيخ محمود محمد طه , الذي تم إغتياله في يوم 18يناير 1985 , بعد محاكمة مهزلة لطخت جبين القضاء السوداني,
إذ تمت محاكمة الفكر بالردة , ونفذ الحكم على شيخ جاوز السادسة والسبعين من العمر شنقا وسط ابتهاج واحتفالات من سدنة سلطة مايو المبادة التي كانت في تلك الأيام تستند على تأييد جماعات الإسلام السياسي , ولا غرو أن تم تحوير التهمة التي أعتقل الأستاذ وصحبه بموجبها من إثارة الفوضى أو مناهضة النظام الى الردة, وعوضا عن المحاكمة وإصدار الحكم بموجب قوانين جهاز الأمن وأحكام الطوارئ التي كانت سائدة ساعتئذ , تم إصدار الأحكام من القاضي المكاشفي طه الكباشي بموجب قوانين تفتيش الضمير ولوائح المكارثية التي سادت بلادنا على أخريات عهد مايو , وما تزال.
لقد شكلت تلك الواقعة تحديا ما تزال آثاره ماثلة بل تفاقمت عندما آل أمر البلد كلها لتلك الجماعة القاصرة فكريا وأخلاقيا , غير المؤهلة أدائيا ودينيا ,فقد صدم الناس لحادثة الإعدام تلك , وصدم الناس كذلك أن تجد تلك الواقعة من ينفذها بدم بارد وإظهار الفرحة والإبتهاج لدرجة التهليل والتكبير مما شكل صدمة قاسية لأصحاب الضمائر الحية في كل أصقاع الدنيا وهزت الشعور الإنساني بصورة فظيعة , بيد أنها من جانب آخر قد أشرت الى حجم التردي الذي أنحدرت اليه الجماعات الإسلامية والتي تنتمي الى الإسلام شعارا وبينها وتعاليمه السمحة بعد المشرق عن المغرب. فقصارى ما بذله الأستاذ محمود من جهد كان يصب في خانة فهم مستنير وعصري للدين الإسلامي ومقاصده التي لا تخرج في عمومها عن العدالة والحرية والمساواة وغيرها من القيم الإنسانية النبيلة التي تشكل عصب الدعوات الإصلاحية وجوهر الأديان السماوى منها والوضعي, كما أن الطريق الذي أختطه الأستاذ وسار عليه حتى صعوده الباذخ الى حبل المشنقة قد ألهم دعاة التغيير معاني التضحية والثبات على المبدأ , وقد كان لنهجه السلمي في الدعوة لما يراه صحيحا أثر أقوى في نيل إحترام من يخالفه الرأي قبل مؤيديه, والى الأستاذ وتلامذته من أعضاء الحزب الجمهوري يعود الفضل في إفتراع لغة الحوار بالتي هي أحسن , وفي جامعة الخرطوم كان الأخوان الجمهوريون أول من إبتدر أركان النقاش التي صارت سنة حميدة في الوسط الجامعي قبل أن تهضلم أجواء بلادنا وتتلبد سمواتها بفحيح أفاعي جماعات الهوس الديني المسيطرة منذ ربع القرن , فتحول كل إرث التسامح الى عنف مادي ولفظي فج يصدر من أعلى قمة الحكم الى أدنى مستويات منسوبي السلطة , بل صار العنف اللغة الوحيدة التي يستخدمها تيارات الإسلام السياسي , وصار سلوكهم اليومي والمعتاد مما قاد الى سيادة العنف في حياة السودانيين بصورة غير مسبوقة وأصبح أي سوداني يرى ألا خير من أي حوار سلمي لإنتزاع الحقوق المشروعة , فقدآلت الدولة السودانية برمتها الى التيار الذي وقف خلف وساند السفاح الراحل جعفر النميري لإرتكاب جريمته البشعة تلك وهو يختلق لها المبررات الدينية ويستغل المشاعر الإسلامية ويدغدغ الأفكار الساذجة التي لا ترى في الإسلام الا شعائره, ولا تعرف من الدين الا ما يصدره
سلطان الزمان, وهي آفة لازمت الدين الإسلامي منذ فجر دعوته مع الأسف , فقد ظل الفكر محاربا ودعوات الرشد مؤودة من ابن رشد الى محمود,.
لقد إمتاز الفكر الإسلامي للإستاذ محمود بالإستنارة والعقلانية وأجتهد في تنزيل دعوات الله المتكررة في القرآن الكريم لإعمال العقل والتدبر والتفكير, وكان جزاء إجتهاده ذاك الإعدام بوساطة سلطة متقحمة على الدين وجماعة مستغلة للإسلام في تحقيق غايات دنيئة لا تمت لصفاء الدين بصلة ولا تعبر عن مقاصده التي لا تتعدى سعادة الإنسانية ورفاهها وجعل حياتها أفضل وتحقيق غاية الله من خلق البشر وجعلهم يقطنون الأرض لعمارتها ليتم التفاوت بينهم حسب كسب عقولهم وليس عبر إلغاء العقل وإدعاء التدين كما هو سائد في بلادنا وفي معظم بلدان المسلمين التي ابتليت بمثل تلك الجماعات الإرهابية .
لقد قدم الأستاذ محمود نفسه فداء الفكرة الناصعة التي أوقف عمره من أجلها لا يبغي سلطة أو صولة ولا يرغب في جاه أو سلطان , بل عاش ما آمن به وما رآه حقا وصدقا وهو في فهمه للدين الإسلامي يعد من أقرب الدعاة إذ إتسم سلوكه بمطابقة أقواله وربى صحبه على نهجه فكانوا غير , يقابلون الإساءة بالإحسان والغلظة بالتسامح والعنف بالكلمة الهادئة الرصينة , كما رباهم معلمهم على أن الدين المعاملة والخلق العظيم فكانوا يتمثلون قيم الدين في سلوكهم , وهذا الأمر أوغر صدور من يصدرون في الدين عن طريق السمسرة ويعتبرونه تجارة رابحة واستثمار مضمون طالما ظل في خانة العواطف لا يتجاوزها الي لب العقول وهذا هو بالضبط أحد أهم إسهامات الفكر الجمهوري والأستاذ محمود مما جعله حاضرا بقوة ورغم البطش الدموي والجريمة النكراء في حق الشهيد محمود والفكر بصورة عامة الا أن بذرة الوعي ما تزال متقدة وستؤتي أكلها , فقد إنكشف زيف دعاة الإسلام السياسي المتاجرين به , وانفضح سلوك الهمج من جماعات الإرهاب باسم الإسلام والغد سيكون للعقل وللفكر وللعقلانية والتأمل والتدبر وغيرها من ممارسات لم يحض القرآن علي فعل شئ أكثر من حضه عليها . ولتظل مأثرة الأستاذ محمود حاضرة تعبر عن مضاء الفكر والعزيمة.