إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الاحتفال بشهر رمضان في صالون الأستاذ محمود (٢)

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق


١٠ يوليو ٢٠١٣

أشرنا في مستهل هذا البحث، إلى الصيام الصمدي، وقلنا إن الأستاذ محمود إنما يتحدث في التربية عن تجربة مجودة في ممارسة العبادة، وكل مجهوده في ترشيد تلاميذه كان ولا يزال، إنما يرمي إلى هدف واحد، هو أن يتعامل السالك مع العبادة بعلمية ليحقق الثمرة التي من أجلها شرعت.. ومن هنا جاء تعريف الصوم بأنه الاستعانة بترك شهوتي البطن والفرج على دواعي الجبلة البشرية إلى الغفلة، وهو يهدف إلى تقوية العقل ليتمكن من قيادة النفس وتوجيهها.. ولذلك وطالما أننا نصوم، فمن العبث أن نفرط في صومنا بممارسات تبعدنا عن الثمرة المنتظرة من الصوم.. فنحن على سبيل المثال، نحاصر الفترة من طلوع الفجر إلى مغيب الشمس، وهي فترة الصوم، بأطايب الأكل والشرب لنجعلها في أضيق زمن بتخطيط وبإصرار، والهدف من ذلك هو أن نبعد عن أنفسنا الشعور بالجوع والعطش إلى أبعد حد!! فإذا قارنت هذه الحالة بحالة من يصوم الصيام الصمدي لسبعة أيام متتالية ليلا ونهارا، تجد أن العلمية المستهدفة لن تتحقق بمثل هذه الممارسات المعوقة..
إن الصوم لهو توأم الصلاة، قال تعالى: (يأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر، والصلاة !! إن الله مع الصابرين) وقال النبي الكريم (الصوم ضياء والصلاة نور).. والصبر في الآية هنا يعني "الصوم" لأن الصوم رياضة تطالب بالصبر عن دواعي الجبلة، وعن الغفلة، والانحراف، وغرضها تقوية الفكر.. والصبر فضيلة في السالك، يحتاج إليها في جميع مقامات العبادة، وليست في صفة العباد صفة تعادلها.. ولذلك فإنه قد قال: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) كل عامل في الطاعات أجره بحساب، إلا الصابر فإن أجره بغير حساب.. فالصوم ليس هو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج، وإنما الصوم التزام بمحاربة العادات، وانتصار للفكر، بدوام الحضور حتى يصبح الصائم حاضراً مع الله، ومتخلياً عن كل ما سوى الله.. وبارتقاء درجات الصائم، ترتقي درجات المصلي، حتى إن السالك في هذا المستوى، بالصوم، والصلاة، ليبلغ مقام من قال سبحانه وتعالى عنه: (الذين آمنوا، ولم يلبسوا إيمانهم بظلم!! أولئك لهم الأمن، وهم مهتدون).. والظلم هنا إنما يعني الشرك الخفي الذي عنه قال المعصوم (إنه ليدق حتى يصبح أخفى من دبيب النملة السوداء في الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء).. إن الصلاة وسيلة إلى هذه المقامات، يعينها، في حسن التوسل إليها، صنوها الصوم.. وهذا معنى قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين).. قوله: (استعينوا)، يعني استعينوا على دواعي "الجبلة" إلى "الغفلة" حتى تخرجوا من الغفلة إلى نور الحضرة " العلم".. والحديث (الصوم ضياء والصلاة نور) يوضح العلاقة بين الصوم والصلاة، كما أنه يوضح قيمة الصوم والصلاة للسالك.. والفرق بين النور والضياء محكي في قوله تعالى: (هو الذي جعل الشمس (ضياء) والقمر (نوراً) وقدره منازل، لتعلموا عدد السنين، والحساب.. وما خلق الله ذلك إلا بالحق.. يفصل الآيات لقوم يعلمون) فالضياء (النور) الأصيل، والنور (النور) المعار.. فالجرم "المضيء" "نوره" منه كالشمس، والجرم "المنور" نوره مستمد من غيره كالقمر.. وعندهم أن الأرض والشمس والقمر من آيات الآفاق، تمثل الثالوث المودع في البنية البشرية، من آيات النفوس.. والله تبارك وتعالى يقول: (سنريهم آياتنا، في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق.. أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ؟؟).. فالشمس، من آيات الآفاق، في مقابلة "القلب" من آيات النفوس.. والقمر، من آيات الآفاق، في مقابلة "العقل"، من آيات النفوس.. والأرض من آيات الآفاق، في مقابلة "الجسد" من آيات النفوس.. ومعنى الحديث أن الصيام إنما هو حظ الروح، فهو يشحذ الذكاء، ويعطيه نفاذاً، ومضياً.. ومعلوم أن "البطنة" تنيم "الفطنة".. والصيام إنما يشحذ الذكاء، لأنه يؤثر على الدم فينقيه، ويقلله، ويحد بذلك من طيش، واندفاعات، الشهوة.. وقد جاء في حديث المعصوم (إن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم، فضيقوا مجاريه بالصوم..) فإذا ما شحذ الصوم ذكاء "روح" العابد، ثم إن هذا العابد أقبل على الصلاة، فإن عقله يكتسب، نوراً بتعرضه لضياء "الروح" في أوضاع صلاته المختلفة، كما يكتسب القمر النور من ضياء الشمس، وهو ينزل منازله المختلفة.. والقمر ينزل أربعة عشر منزلاً يصير، في نهايتها، بدراً كاملاً.. سبعة لينتصف فيها بالنور وسبعة أخرى ليصير فيها بدراً كاملاً.. يحكي في الحجم جرم الشمس، حتى لكأنه قد عكس بنوره جميع ضيائها.. هذا فيما يرى الرائي.. والصلاة، في كل ركعة، فيها سبعة حركات، تمثل منازل القمر السبعة.. فأنت إذا كنت سالكاً مجوداً، وصليت ركعتين، وفكرك حاضر في صلاتك، فيجب أن تعلم أن كل حركة، من حركاتك الأربع عشرة تختلف عن الحركة التي سبقتها، وإن كانت تشبهها، وما ذاك إلا لأنها بمثابة منزل جديد، ينزله قمر "شريعتك" من شمس "حقيقتك".. فإذا ما أنت أكملت الركعتين، فلكأنما قد أكملت بدرك، لكأنما قد استضاءت صفحة عقلك بنور المعرفة المنبثقة من ضياء روحك، فتوازى العقل، والقلب..