إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الاحتفاء بشهر الصوم، يحظى باهتمام كبير عند الأستاذ محمود، وكشأن الاحتفالات بالمناسبات الدينية عامة، فالاحتفاء يركز على المحتوى الحقيقي للصوم، ومحاولة الاستفادة من فعاليته الخاصة في شحذ الروح.. والأستاذ محمود صاحب تجربة عملية، على أساسها، يرشد الآخرين، وكمقدمة أود أن أشير إلى تلك التجربة في ممارسة شعيرة الصوم، في فترة السجن للتداخل الذي حدث مع السياسة، حولها، ولقيمتها في إبراز ضرورة الجدية والصدق في أمر الدين مهما كانت الضغوط التي يتعرض لها السالك في الطريق النبوي..
لقد سجن الأستاذ محمود مرتين في عام 1946م: الأولى بسبب إصداره منشوراً سياسياً، ضد الإنجليز، والثانية بسبب ثورة رفاعة ضد قانون منع الخفاض الفرعوني. وكان يتخذ من فترة السجن خلوة للعبادة، الصلاة والصوم.. وكان يصوم صيام المواصلة، النهار والليل لمدة سبعة أيام متتالية فاعتبره المراقبون للأحداث مضرباً عن الطعام، ونشرت الصحف متابعة لأيام الصيام المتتالية.. ففي الرأي العام 24/10/1946م جاء في كلمة تحت عنوان (خواطر) ما يلي: (شاءت الحكومة أن تضع الأستاذ محمود محمد طه رئيس الحزب الجمهوري، في الدرجة الثالثة بالسجن حيث يلقى المعاملة التي يعامل بها حثالة المجرمين من أحقر طبقات المجتمع.. وكان أن صام الأستاذ محمود، وأضرب عن تناول الطعام، والشراب منذ أربعة أيام، احتجاجاً على هذه المعاملة القاسية).. ويواصل: (بهذا اليوم أتم الأستاذ محمود رئيس الحزب الجمهوري السجين ستة أيام من صيامه.. وقد أغلقت أمس أندية الخريجين في مدني، والأندية الرياضية، احتجاجاً على سوء معاملته.. وتتوالى برقيات الحزب الجمهوري والمواطنين على السلطات بالاحتجاج).. انتهى..
هذا وقد صححت أسرة الأستاذ محمود الخبر بأن الأستاذ صائم وليس مضرباً عن الطعام عبر الخطاب الآتي: (حضرة رئيس تحرير الرأي العام.. بالإشارة إلى الخبر المنشور في صحيفتكم عن إضراب رئيس الحزب الجمهوري عن الطعام، أعرفكم أن الأستاذ محمود كان صائماً في اليوم الذي اعتقل فيه، و ليس مضرباً، وأنه قد افطر ليلاً.. وقد قابلت ضابط السجن بوصفي خالاً للمعتقل في يوم وصوله، وسمح لي بتقديم الطعام إليه في كل يوم، ومن هذا يتضح أن الأستاذ لم يكن مضرباً عن الطعام كما نشر، وختاماً تقبلوا سلامنا.. التوم محمد حمزة.. الرأي العام 5/11/1946م)..
وفي لقاء لطلاب معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم، مع الأستاذ محمود بمنزله عام 1975م قال: (بدأ السجن في مدني.. ويلاحظ برضو أنو المحكمة كانت زي سجنتني في الدرجة الثالثة، ما ذكرت معاملة خاصة.. في مدة الاحتجاز قبل السجن كنت أعامل كسجين درجة ثانية، لكن المحكمة ما ذكرت التمييز دا فكان الاتجاه انو أكون سجين درجة ثالثة.. بدأت بطبيعة الحال بنفس الأسلوب بتاعي اللي هو الصيام الصمدي، فكان سبعة أيام ما في أكل ولا شراب لا بالليل ولا بالنهار.. وكانوا يجيبوا الأكل بتاعهم يختوهو وبعدين يشيلوهو، ويجيبوا الوجبة البعدو، والأخوان من بره يتكلموا عن الإضراب عن الطعام لسوء المعاملة.. هم الأخوان الجمهوريون عارفين أنو صيام.. بدت الحركة الثانية بالصورة دي، بعد السبعة يوم في اليوم الثامن عدلوا السجن إلى الدرجة الثانية.. سجن مدني ما فيهو مكان لمساجين الدرجة الثانية.. استمريت زي ثلاثة شهور في سجن مدني.. فتقرر في الآخر أني أجي كوبر)..
والصيام الصمدي معروف في السنة النبوية، فقد كان النبي الكريم عليه أفضل السلام وأتم التسليم يصومه.. وعندما حاول الأصحاب أن يقلدوه فيه منعهم فقالوا: إنا نراك تواصل يا رسول الله.. قال: إني لست كأحدكم فإني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني.. وبالطبع لا يطعمه خبزاً ولا يسقيه لبناً، وإنما هي أنوار اليقين بالله، فالحياة في الأساس ممدودة روحياً من الله.. ولذلك فإن هذا الصيام مرتبط بحاجة العابد وبطاقته الفردية، وليس شريعة عامة وللصوفية في السودان فيه مشاهد..
إن جميع العبادات ما هي إلا وسائل لإصلاح النفوس، ولكننا في الوقت الحاضر أفسدنا تلك الوسائل، بإساءة ممارسة تطبيقها.. فالصلاة التي هي أشرف وابرك عمل العبد، أصبحنا نصليها بالعادة، ونعاملها كمظهر اجتماعي، فجردناها من روحها وجوهرها، وهو الحضور ومن ثم حرمنا من ثمرتها وبركتها.. نحن نهتم بالمظهر أكثر من الجوهر، فنركز على مكبرات الصوت في المساجد، من غير ترشيد، لدرجة مبالغ فيها، ونظن أن مجرد نشر حركات الصلاة عبر الميكروفونات يجعل صلاتنا مقبولة عند الله!!
نحن لا ننتبه إلى أن روح التدين في المعاملة، وقد قال النبي الكريم: "الدين المعاملة"، ولتمكن الغفلة في نفوسنا لا نأبه للمضايقة التي يمكن أن تحدث للمرضى والمرضعات والأطفال والمرهقين من المواطنين الذين تضطرهم ظروف عملهم إلى أن يرتاحوا في أوقات معينة، وقد قال تعالى: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً).. إن تفاصيل صلاة المصلين داخل المسجد تخصهم هم، ولا شأن للجيران والمارة بها، فيجب أن تكون تلك التفاصيل محصورة داخل المسجد فقط، ونكتفي بإعلان الآذان فقط عبر الميكروفون مع مراعاة الضبط اللازم للصوت.. ويلاحظ أن بعض المساجد تبث عبر المكبرات المحاضرات والأحاديث التي يستمعون إليها داخل المسجد فيجعلون الاستماع إليها إجبارياً على الجيران، وتحت ضغط الإرهاب الديني تستمر هذه الممارسات من غير اعتراض أو تصحيح.. إن بعضنا يظن أن تلك الصلوات عندما تؤدى وتعلن على الملأ، إنما هي مسجلة تقرأ علينا يوم الحساب وتوضع في ميزان الحسنات.. ولكن الفهم الصحيح هو أن هذه الصلاة إنما هي وسيلة إصلاح للنفس اليوم، في المقام الأول، ويجيء تمام الأجر يوم الحساب.. فإذا أنت أضعت القيم التي ترمي إليها الصلاة في حسن معاملة الناس فلن تجدها مسجلة في أي مكان آخر، لأنها لم تنجز المهمة التي شرعت من أجلها، فالدين المعاملة كما ورد في الحديث.. ألم يقل النبي الكريم: (رب مصل لم يقم الصلاة)!؟ وأكثر من ذلك: (رب مصل لم تزده صلاته من الله إلا بعداً) !!؟؟وفي الصوم (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش)!!؟؟ بلى قد قال كل ذلك.. ولتأكيد أن القيم التي تستخدمها العبادات كغاية أهم من العبادة نفسها، جاء في الحديث (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).. اعد قراءة هذه النصوص بتركيز لتعرف حجم المخالفة وخطورتها على من يقترفها..
لقد كان الأستاذ محمود يحرص على تحقيق أقصى درجة من الفائدة الروحية التي يرمي إليها الصوم.. وكان تلاميذه يجتمعون أمام منزله في إفطار جماعي لا يختلف في مكوناته عن الأيام العادية.. ثم تقام جلسات الذكر والفكر حول فهم العبادات بصورة تجعلها مؤثرة على سلوك الأفراد، ودافعة لترقيهم الروحي إلى الأمام.. ويوجه الذين لديهم أعذار تمنعهم الصوم، بألا يترددوا في العمل بالرخصة الممنوحة لهم شرعا، فإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه كم جاء في الحديث النبوي، ثم يذكرهم- أعني أصحاب الرخصة- بأن يتوقفوا عن الطعام الذي تندفع إليه نفوسهم اندفاعاً، بشره وشهوة، ويتناولوا غيره، فإن في ذلك تحقيق لقدر من أهداف الصوم.. فالصوم إنما هو الاستعانة بترك شهوتي البطن والفرج على دواعي الجبلة البشرية إلى الغفلة، وهو يهدف إلى تقوية العقل ليتمكن من قيادة النفس وتوجيهها.. وأثر الصوم في إضعاف سيطرة النفس السفلي أظهر من العبادات الأخرى ولذلك جاء الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)..