إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } صدق الله العظيم
لقد انتهينا في الحلقة السابقة، وبالأدلة الدامغة، إلى تقرير حقيقة في غاية الأهمية وهي أن الحجاب في الشريعة السلفية إنما يعني بقاء المرأة في البيت، ولا يحق لها أن تخرج إلا للضرورة المحددة في الشريعة بألا تجد من يعولها حتى يخشى عليها من الهلاك، وفي هذه الحالة تخرج للعمل بزي لا يظهر إلا وجهها وكفيها.. وقلنا إن خروج المرأة اليوم، للتعليم والعمل والمعاملات الاجتماعية لا يقع في إطار الضرورة كما حددتها الشريعة، وبما أن هذا الخروج قد أبرزته الحاجة إلى الحياة الكريمة، فهو ضرورة في واقع جديد غير الواقع الذي فرض عليه الحجاب بالمعنى الذي أوضحناه.. فإذا تطورت الضرورة بهذا المستوى، فلا بد من أن يتطور الزي تبعا لذلك، إذ أن المجتمعات في كل مكان قد خرجت عن الشريعة، بهذا الواقع الجديد، ولا يستقيم عقلا أن يطالب إنسان بإرجاع المرأة إلى البيت في مجتمعنا المعاصر.. إنه من وحي العبر التي اكتسبتها البشرية في صراعها الطويل، ونضالها المرير من أجل الحضارة، و التمدين والإنسانية، الاقتناع بان الحقوق لا تعطى، ولا تمنح، وإنما تؤحذ أخذاً، وتنتزع انتزاعا.. وذلك إنما يتم بفهم هذه الحقوق، وبالشعور بالحاجة إليها بواجباتها، وبالمقدرة على الالتزام بتبعاتها.. ومن أجل إعانة المرأة، ضحية القهر و الظلم الطويلين، ونزيلة آخر وأكبر معاقل الاستضعاف من أجل إعانتها على فهم حقوقها، قام الأستاذ محمود محمد طه، من ضمن ما قام به من مجهود لنصرة قضية المرأة، قام بإخراج كتيب (خطوة نحو الزواج في الإسلام) كاشفاً فيه القناع عن أبرز جوانب شريعة الأحوال الشخصية السلفية تقدماً.. كما اخرج، فيما بعد كتاب (تطوير شريعة الأحوال الشخصية) الذي وضح فيه بصورة حاسمة وجلية، الأسس الفكرية والدينية لشريعة الأحوال الشخصية الجديدة القائمة على أصول القرآن والتي بموجبها، أصبح الزواج علاقة تقوم على التكافؤ بين الزوجين، و على المساواة بينهما في الحقوق و الواجبات..
وفي عام 1975م، ومواصلة لجهد الأخوان الجمهوريين، من أجل جعل ذلك العام - عام المرأة العالمي – عام الثورة الكبرى، ومحاولة لتذكير المرأة الثائرة بواجباتها، و إعانتها على النهوض بها صدر هذا المنشور عن زي المرأة ، وما ينبغي أن يكون عليه من حيث الشكل.. وقد ورد في المنشور:
ونحب، في مقدمة منشورنا هذا، ان نؤكد بصورة حاسمة، أن اهتمامنا بالزى ليس اهتماما سطحياً، ولا متزمتاً وإنما هو حرص على الحرية التي نالتها المرأة، وحرص على نموها وازدهارها..
فالمرأة قد نالت حريتها بيدها، ولم يمنحها لها أحد.. ولكن الخطر يكمن في أن تتداعى هذه الحرية إلى الفوضى فتنهزم بين أعدائها وبين مسيئي استعمالها.. فالحرية تعني أن يفكر الفرد كما يريد، وأن يقول كما يفكر، و أن يعمل كما يقول، بشرط أن يتحمل مسئولية فكره، وقوله، وعمله، وفق القوانين الدستورية التي توفق بين حاجة الفرد، وحاجة الجماعة.. والفوضى تعني ان يتهرب الفرد من تحمل مسئولية فكره وقوله وعمله.. ولذلك فإن حرية المرأة تعني أن يكون لها حق السفور، وهو يعني الخروج مع الحشمة مظهراً وسلوكاً.. أما التبرج هو يعني إبراز المفاتن فهو الفوضى عينها، وهو من ثم ضد الحرية، لأنه يؤخر القيمة الإنسانية ويقدم النزوة الحيوانية.. ولذا فإننا، حينما نهتم بقضية (الزي) فإنما نهتم لنذكر المرأة بواجبها المناط بها لاستنقاذ نفسها من ابتذال الأنوثة وآثار الاسترقاق حتى ينفتح، للبشرية، الطريق الذي بسلوكه تنزل منازل الإنسانية والكرامة..
ظاهرة (الموضة) وتحليلها:
إن المتتبع لظاهرة (الموضة) بشكل عام، سواء الشرق أو الغرب، في الداخل أو في الخارج، ليلمس بوضوح الميل العام للاهتمام السطحي بالمظهر، و إغفال الجوهر.. وقد أدى هذا الاهتمام الزائد بالمظهر إلى فوضى الأزياء التي لم ينج منها مجتمع من المجتمعات، فراح الجميع رجالاً ونساء ضحية لتجار (الموضة).. ولما كان اهتمام المرأة بالمظهر أكبر، فإن المتتبع لظاهرة (الموضة) فيما يخص أزياء النساء، وطرق تصفيف الشعر، و أدوات الزينة، من مساحيق، وعطور، وكريمات الخ.. ليلمس بوضوح أكثر سقوط النساء فريسة لمصممي الأزياء، ومصففي الشعر، وصانعي أدوات الزينة، كما يلمس، قبل ذلك استجابة النساء للتصورات المتخلفة، غير الإنسانية، والتي حملها الرجال لعهود طويلة، عنهن، وحملتها من ثم، النساء عن أنفسهن.. تلك التصورات التي تبرز المرأة كجنس، وكوسيلة للمتعة العابرة الرخيصة، وتسلكها في عداد (الحريم)، ومن ثم تهدر إنسانيتها، وكرامتها.. واستجابة المرأة لهذه التصورات تجد تعبيرها فيما نحن بصدده من الحديث عن الزي في استعمال الفساتين القصيرة التي تعلو فوق الركبة، مما يسبب حرجاً للمرأة، خاصة عند جلوسها في الأماكن والمركبات العامة، كما تجد تعبيرها في لبس الثياب الشفافة، والفساتين المحزقة، وفي استعمال الأحذية ذات الكعب العالي التي تخل بالمشية، وفي استعمال العطور الصارخة، و المساحيق، و الحلي، و الباروكات (التي تزيف المرأة وتحيلها إلى دمية كعرائس المولد، لا تصلح إلا للهو و اللعب)..
التبرج مضر بالحرية:
كل هذا الذي ذكرناه يضر بقضية الحرية أبلغ الضرر، وذلك لأسباب عديدة.. فالمرأة المتبرجة، الخليعة المظهر، تثير ريبة وغيرة من يهمهم أمرها، مما يجعلهم يتسلطون عليها، ويفرضون عليها الوصاية، التي يبررها سلوكها المشين.. كما أن المظهر المتبرج يدعم تصورات الرجل الخاطئة عن المرأة، ويؤيد نظرته المتخلفة، القاصرة للحد الذي يعرض المرأة للمضايقة المستمرة، والمعاكسة من الذين لا خلق لهم، ولا دين.. أكثر من هذا فإن المظهر المتبرج يعكس تخلف المرأة الفكري والخلقي، وخواءها الداخلي، بالصورة التي يستحيل معها انتصار قضية المساواة بين النساء والرجال في بعدها الحقيقي – بعدها العميق في داخل النفس البشرية – كما يستحيل معها الارتفاع بالعلاقة بين الرجال و النساء من وهاد الكثافة، و الحيوانية إلى سماوات اللطافة، و الإنسانية.
إننا لا ندعو النساء إلى الرهبنة:
إن الإنسان – رجلا كان أو امرأة كل لا يتجزأ وهو ينبغي أن يكون مظهره، مصدر الجمال – قلباً وجسداً، وعقلاً.. ولذلك، فإننا حين ننعى على النساء انجرافهن مع التبرج و انحرافهن في استعمال أدوات التجميل الصناعية والكيماوية، ننعي في نفس الوقت، على الرجال قبولهم الصامت، ورضاءهم، بل وتشجيعهم لهذا الوضع.. لأن هذا، بأي حال من الأحوال، لن يعين النساء على الخروج من مرحلة النقص والقصور.. ونحن، حين ننعى على النساء، و على الرجال، هذا الوضع لا نفعل ذلك من مواقع الوصاية، ولا نريد للنساء أن يترهبن، أو أن يتنكرن لأنوثتهن وإنما نفعل ذلك من مواقع الحرص على الحرية، و الجمال الإنساني الأصيل، الذي يعكس سلامة وصحة الجوهر، ورشاقة وأناقة المظهر..
ماذا نريد؟
إننا نريد أن تنهض نساؤنا بواجبات حريتهن.. وفيما نحن بصدده من الحديث عن زي المرأة ومظهرها، فإن على نسائنا واجباً كبيراً، وخطيراً، في أن يرفضن – بفهم وبإصرار – أن يذهبن ضحية لتجار (الموضة) من مصممي الأزياء ومصففي الشعر، وغيرهم، كما أن عليهن، قبل ذلك أن يرفضن أن يسقطن فريسة للتصورات، و القوالب البالية، التي تبرزهن كجنس، ومن ثم تذهب بإنسانيتهن وكرامتهن، وحريتهن.. فإن جمال النساء، في المكان الأول، ليس في جمال أجسامهن، و إنما هو في كمال عقولهن، وخلقهن ودينهن.. ولذلك فإن عليهن أن يكن عوالات على إبراز هذه الكمالات في معركتهن لاسترداد حقوقهن، وليستخلصن، من المرأة المبتذلة الأنثى كاملة الأنوثة – المرأة الإنسان..
خطوط عريضة للزي والمظهر:
ولتحقيق طرف مما ذكرناه نقترح، فيما يلي، زيا يتسم بالبساطة، و الاعتدال، بين طرف التزمت المتمثل، بصورة جلية في زي المرأة السعودية، وفي زي الأخوات المسلمات (وهما ليسا زيين إسلاميين بأي حال من الأحوال) وطرف التفسخ والانحلال المتمثل في الأزياء الحديثة، المتأرجحة، على غير هدى، ولا بصيرة، و إنما استجابة لدواعي سطحية، ورخيصة.. و الخطوط العريضة التي سنقترحها، فيما يلي، ليس غرضها قهر النساء، أو صبّهنْ في قالب زي موحد، و إنما غرضها أن يفي زي المرأة بمتطلبات الثورة الكبرى – ثورة أكبر من استضعف في الأرض، و لا يزال، ثورة النساء.. و الزي الذي نقترحه لفتياتنا، يجب أن يفي بما يلي:
أولاً: أن يكون (الفستان) من الطول بحيث ينزل إلى ما تحت الركبة حتى يكون ساتراً في جميع الحالات، و أن يعمم بحيث يكون (محتشماً) من جميع الوجوه..
ثانياً: أن تستعمل النساء – وخاصة عند خروجهن للأماكن العامة – الثوب الأبيض، غير الشفاف، فإنه من البساطة، و الجمال، و الهدوء، بحيث يغني عن المبالغة في استعمال الثياب الصارخة الألوان، الملفتة للنظر، في غير ما ضرورة..
ثالثاً: أن تتحاشى النساء استعمال الأحذية ذات الكعب العالي، فإنها تخل بالمشية وتغيرها..
رابعاً: أن تصفف النساء شعرهن بالأسلوب الذي يعكس الجمال في بساطة، ووقار، وهدوء وبالطريقة التي تمكن الثوب من الاستقرار على الرأس..
خامساً: أن تتجنب النساء استعمال (الباروكات) والإضافات الصناعية الأخرى، وكذلك المساحيق، وغيرها فإنها تزيف حقيقتهن وتحيلهن إلى مخلوقات (بلاستيكية) تثير الإشمزاز والنفور . وينطبق هذا الحكم على استعمال الحلي.. وغني عن القول أن الجمال الحقيقي هو الجمال الطبيعي الذي لا تدخل فيه يد الإنسان إلا كدخولها (لإزالة الأشواك) ولتشذيب وتهذيب الورود والزهور..
سادساً: أن تقلع النساء وخاصة عند خروجهن للأماكن العامة، عن استعمال العطور الصارخة وما شابهها..
هذه النقاط الست تخص مظهر وزي النساء متزوجات وغير متزوجات، خارج المنزل.. أما المتزوجات فمتروك لهن – داخل المنزل – حرية اللبس، والتزين بالطريقة التي تروق لهن، ولأزواجهن.. بقيت نقطة صغيرة عن المرأة العاملة في الأعمال التي تعذر معها لبس الثوب.. فمثل هذه المرأة يمكنها أن تلبس في مكان العمل، معطفاً كمعطف المعمل يغطي إلى ما تحت الركبة فهو محتشم، وهو أيضاً ميسر للعمل..
خاتمة:
هذه خطوط عريضة، فيما يخص الزي والمظهر العام تستطيع نساؤنا أن يتحركن داخلها بحيث يظهرن مقدرتهن في إبراز الجمال الهادئ البسيط، الذي يثير لدى المشاهد، ليس النزعة الحيوانية، وإنما طبيعته الإنسانية المتسامية، كما يرغمه على تغيير نظرته للمرأة، واحترامها والثقة بها، والاطمئنان إليها، ويدفعه ليتعامل معها ليس كجسد، أو كنوع، وإنما كإنسان كامل له جسده، وعقله، وقلبه..
فلتقلع النساء – إذن – عن التبرج فإنه دليل على السطحية وخفة العقل، ورقة الدين.. وليحرصن على الحشمة، والبساطة، في المظهر.. فإنهن إن يفعلن ذلك يستأهلن حقوقهن، ويخرصن ألسن الخصوم والمعارضين، ويرسين القواعد المتينة للنظرة الإنسانية الجديدة التي بها، وبها وحدها، ينفتح الباب لتحقيق العلاقة السامية الشريفة بين النساء والرجال..
- تلك العلاقة التي حلم بها الشعراء والحكماء وحفلت بها نبوات الأنبياء..