إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
نشرت صحيفة الانتباهة بتاريخ 17 فبراير 2013م مقالا تحت اسم أحمد طه محمود، تعرض فيه الكاتب إلى شخص الأستاذ محمود بفاحش القول وبذيء الكلام، واستخدم من الألفاظ ما تحمل أقصى درجات العنف تجاه الجمهوريين.. أسوأ من ذلك فقد خاض في أعراض الجمهوريين بقذف يضعه تحت طائلة القانون الجنائي القائم اليوم، بعد أن شوه مشروع خطوة نحو الزواج في الإسلام، أيما تشويه!! المشروع الذي أعلنه الأستاذ محمود في كتاب طبع عام 1971م، وقامت على أساسه فيما بعد، مئات الزيجات في السودان وفي مختلف المدن، وهو مؤسس من الشريعة الإسلامية المعمول بها في قانون الأحوال الشخصية اليوم، وليس فيه أي تطوير للشريعة على أساس الرسالة الثانية من الإسلام التي يزعم الكاتب أنه يعارضها، ولا يعلم أن ما يعارضه إنما هو أوهام من صنع عقله المريض!!
وقد ذكر الكاتب في بداية مقاله أنه شاهد على أحداث المحاكمة التي تمت في مواجهة الأستاذ محمود وأربعة من تلاميذه، وعلى تداعياتها في التنفيذ، ولكن بمقارنة ما كتبه هذا الكاتب، مع التاريخ الموثق، لن تجد مناصا من أن تتهمه بأنه مصاب بخرف مبكر، إذا كان حقيقة حاضرا لتلك الأحداث ثم هذه شهادته التي شاهدها على الواقع!!
وقبل أن ندخل في الرد، أحب أن أشير إلى أن جهاز الأمن الوطني كان قد وجه الصحف عامة، خلال الاحتفال بالذكرى 28 لوقفة الأستاذ محمود التاريخية، بألا تنشر كتابة عنه أو عن أفكاره، لا بشر ولا بخير، ولكن لم يطبق هذا الأمر إلا على الكتاب الذين يكتبون بخير، من الجمهوريين وغيرهم، فقد استمرت صحيفتي الانتباهة والرأي العام تنشر في تشويه الفكرة الجمهورية والإساءة إلى مؤسسها، ولا يجد ذلك التشويه وتلك الإساءات التصحيح المطلوب من الجانب الآخر، بسبب أمر جهاز الأمن هذا، الذي أقل ما يوصف به أنه غير دستوري!!
إن هذا المقال، على رداءته، إنما نشر بإرادة الله ووراءه حكمة، سنحاول تلمسها، بين ثنايا هذا الرد، ومن أجل أن نشرك القارئ المحترم، في فهم هذه المسألة التوحيدية، نسوق الجزء التالي من خطاب الأستاذ محمود إلى تلاميذه عندما بدأت المواجهة مع سلطة مايو، فقد ورد في ذلك الخطاب بتاريخ 14 فبراير 1984 ما يلي:
(وأول ما نبدأ به هو أن ما يجري من قومنا المسئولين، نحو ديننا، وشعبنا إنما هو بإرادة الله.. وإرادة الله دائماً تنطوي على حكمة.. علم من علم وجهل من جهل.. والله يريد أمراً ولا يرضاه وهذا معلوم عندكم.. وإنما يكون عملنا نقل قومنا - مسئولين عن أمر الناس وغير مسئولين- من إرادة الله إلى مرضاته.. وهذا إنما يكون بالنقد الهادئ، والموضوعي والبناء، الذي لا ينطلق عن ضغينة ولا عن حقد، وإنما ينطلق عن رغبة أكيدة في هداية الضال.. ينطلق من محبة للضال وكراهية الضلال.. وهذا أيضاً معلوم عندكم، بفضل الله عليكم.. وإرادة الله يمر عليها وقت في جزيئات الزمان والمكان، تطابق رضاه، فيكون ما يريده هو ما يرضاه.. ثم تقع المفارقة بين الإرادة والرضا ليحصل الترقي.. واليوم المفارقة بين الإرادة والرضا أكبر مما كانت في أي وقت مضى..).. انتهى..
في البداية، نقدم تعريف بمشروع خطوة نحو الزواج في الإسلام، الذي أشرنا إليه أعلاه، وقلنا أنه مأخوذ من الشريعة السلفية، لعلنا نكون وفقنا في إبراز طرف من الحكمة وراء هذا الكاتب، فالشعب السوداني في أمس الحاجة لهذه المشروع التاريخي..
لقد ورد في كتاب خطوة بقلم الأستاذ محمود تحت عنوان خطوات الزواج:
مما تقدم، يمكننا أن نستبين الخطوات الرئيسية التالية:
1 - اختيار الطرفين لبعضهما عن رضا وقبول من كليهما..
2 - فترة خطبة قصيرة يرتبط الطرفان عقبها بعقد زواج شرعي..
ويلاحظ أن الخطبة ليست سوى إخطار الزوج أهل الزوجة بنيته الاقتران بها.. وليس فيها أي أثر للتقاليد الجوفاء، والتكاليف الكثيرة المعروفة لدينا..
3 - العقد على مهر قدره جنيه واحد؟ قال النبي صلى الله عليه و سلم: "أخير النساء أحسنهن وجوهاً، وأقلهن مهورا .." .. وقال عليه أفضل الصلاة والسلام: "من يمن المرأة تيسير خطبتها، وتيسير صداقها، وتيسير رحمها.."
4 - تسليم الزوج زوجته والزوجة زوجها، على حد سواء، في نفس ليلة العقد..
5 - دخول العروسين ببعضهما، بملابسهما القديمة، في حجرة مؤثثة بالأثاث القديم، ومفروشة بالفرش القديم، الموجود بالمنزل..
6- قيام الزوج بالصرف على منزله، و الزوجة بإدارة بيتها، منذ صباح اليوم التالي للزواج..
هذه الخطوات ما هي إلا عودة للشريعة الإسلامية في بساطتها التي بعد عنها الناس، مجاراة للمظاهر الفارغة الجوفاء.. وفي الفقرات التالية نوضح الأسس التربوية، والشروط القانونية، التي تمنع الاستهتار بمثل هذا الزواج، وتهيئ له أسباب الاستقرار..
ويواصل الكتاب تحت عنوان مستوى القانون:
كما ذكرنا، فإن تقليل المهر المادي يعني أنه لابد من ترجمته إلى شروط كرامة للمرأة.. وهذه الشروط تثبت في وثيقة تعاقد الزواج، وتلزم الطرفين قضاءً، لحماية هذا الزواج بسيط التكاليف من الاستهتار.. والشروط هي:
1 - يجب أن تكون العصمة بيد المرأة، كما هي بيد الرجل، فلا يستأثر بها أحدهما.. ولا يهولن أحداً هذا الكلام، فإنه جائز شرعاً، ومعمول به قضاءً.. وهو مسنود بأصل الدين، ومستمد من مبدأ التفويض الذي بواسطته يملك الزوج زوجته أن تطلق نفسها.. ففي صفحة 334 من الطبعة الأولى لكتاب (الأحوال الشخصية حسب المعمول به في المحاكم الشرعية المصرية والسودانية والمجالس الحسبية ) للأستاذ معوض محمد مصطفى سرحان جاء ما يلي: (ثم إن التفويض عند الحنفية يصح قبل العقد، وعند إنشائه، و بعد تمامه في أي زمن كان حال قيام الزوجية.. وصورة التفويض قبل حصول العقد أن يعلق التفويض على المتزوج بها، كأن يقول إن تزوجتك فأمرك بيدك تطلقين نفسك متى تشائين.. فإنه إن تزوجها ثبت التفويض غير المقيد بزمن، وكان لها الحق في تطليق نفسها متى أرادت.. وصورة التفويض عند إنشاء العقد أن تقول امرأة لرجل يحل له التزوج بها زوجت نفسي منك على أن يكون أمري بيدي أطلق نفسي متى شئت، أو كلما شئت فقال لها قبلت صح الزواج، وكان أمرها بيدها على الصورة التي قالتها، وقبلها الزوج )..
وما يفعله الأخوان الجمهوريون في هذا الأمر إنهم يثبتونه في عقد الزواج، ويجعلونه حقاً تلقائياً لكل امرأة.. كل امرأة كريمة تتنازل عن مهرها المادي وتطلب التفويض بدلاً عنه..
2- يشترط أن لا يقع الطلاق إلا بعد أن يرفع الأمر إلى حكمين عدلين، موثوق بهما من الطرفين، أو كل طرف، على الأقل، واثق من حكمه الذي ارتضاه.. قال تعالى : "وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله، وحكماً من أهلها، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما، إن الله كان عليماً خبيراً" وقد نصت المادة الخامسة عشرة من المنشور الشرعي السوداني رقم 17 على اللجوء إلى الحكمين (أنظر كتاب معوض صفحة 389)
و يرى الجمهوريون في مسألة التحكيم ما يلي : ـ
أ- إن أهم ما يميز الحكمين هو الدين، ثم تأتي القرابة، والجيرة، والخبرة، مع ثقة الزوجين فيهما.. وذلك لأن صاحب الدين لا يسعى في هذا الأمر إلا وهو واثق من أنه يريد الإصلاح..
ب ـ مهمة الحكمين أن يعيدا الصفاء، والمودة، وحسن العشرة، إلى الحياة الزوجية بكل وسيلة ممكنة.. وخلافاً لما جاء في المنشور سالف الذكر، ليس من حقهما أن يحكما بالطلاق، لأن حق الطلاق ملك للزوجين لا يستعمله سواهما.. جاء في صفحة 390 من كتاب معوض ما يلي: "ففهم الحنفية، والظاهرية والشيعة الإمامية، والشافعي، أن مهمة الحكمين مقصورة على الإصلاح بين الزوجين، و ليس لهما أن يفرقا بينهما، إذ التفريق لا يكون إلا بتفويض من الزوج، وتوكيل من الزوجة بقبول الخلع، إذا دعت إليه داعية.."
ج ـ إذا أصر الطرفان المتعاقدان، أو أصر أحدهما، على الطلاق فإنه لا محالة واقع.. و لا يملك الحكمان أمر تعليقه، كما لا يملكان الحكم به.. و لكن من حقهما أن ينصحا الطرف المصر، بالترك، أو بالتريث.. كما لهما أن يفرضا تعويضاً، إذا رأيا، يقدر حسب حال الزوجين، و يأخذه الجانب المضرور، وهو، في الغالب، الذي يقع عليه الطلاق.. وحكم الحكمين بالتفويض ملزم قضاءً..
د ـ إذا اختلف الحكمان، فيمكنهما أن يختارا، في مثل شروطهما، إذا أمكن، حكماً ثالثاً للترجيح..
هـ ـ في حالة وقوع الطلاق، فإن على الحكمين تحديد من تكون له حضانة الأطفال، حيث تتوفر الرعاية والشفقة.. والقاعدة المتبعة هنا أن تكون الحضانة للأم ما دامت صالحة.. فإن فقدت الأم صلاحيتها، جعلا الحضانة لمن يليها، حسب الترتيب الشرعي.. ونفقة الأطفال على الزوج، و يحددها الحكمان..
3ـ ينص في العقد أنه لا يصح تعدد الزوجات إلا لضرورة قصوى، كالعقم، أو المرض الذي لا يرجى منه شفاء، مثلاً.. ولا يقع إلا بعد استئمار الزوجة المضرورة، وإلا بعد تدخل الحكمين، اللذين عليهما أن يراجعا الزوج، إذا رأيا ذلك.. وللزوجة أن تطلق نفسها إذا لم تقبل في زوجها مشاركة..
و هذا الشرط لا يتنافى مع أصل الدين، إذ أن الدين قد نفر من تعدد الزوجات.. فكأن عدم تعدد الزوجات، في نظر الدين، أفضل من تعدد الزوجات.. فإذا اشترط عدم تعدد الزوجات، إلا لضرورة ملجئة، فإن هذا الشرط تدعيم للأحسن، والأفضل في نظر الدين) انتهى..
هذا هو مشروع خطوة، وكما هو واضح فهو مسنود بالشريعة الإسلامية، في كل شروطه، ولاحقا وفي عام 1991م أجيز قانون الأحوال الشخصية القائم اليوم، وجاء متفقا تماما مع هذه الشروط، وأوردها بالنص في مواده، فكأن مشروع خطوة انتقل من ساحة الجمهوريين إلى الساحة العامة، وهو أصلا وضع للشعب السوداني وقد جاء إهداء الكتاب هكذا:
(إلى الآباء والأمهات الذين يؤرق مضاجعهم شبح الرذيلة الذي يهدد بناتهم وأبناءهم !! )..
ولقد أشاد السيد رئيس الجمهورية، بزواج الجمهوريين، في أكثر من لقاء متعلق بالزيجات الجماعية لمؤيدي الحكومة، ونصحهم بدراسة مشروع خطوة لأنه فعال في حل مشكلة الزواج..
كان الجمهوريون يوثقون زيجاتهم قبل صدور هذا القانون، في وثيقة خاصة بهم، ثم توثق لاحقا عند الحاجة في المحكمة الشرعية، لكن الآن أدرجت هذا الشروط بلا استثناء في الوثيقة الرسمية، بالنص على ظهر الوثيقة وبختم المحكمة الشرعية.. وأول سابقة قضائية كانت بالمحكمة الشرعية بمدني بتاريخ الثاني من نوفمبر 2007م، وقد تم الزواج، بمنزل البروف عصام عبد الرحمن على يد مأذون المدينة، وقد نشرته صحيفة الوطن بتاريخ الخامس من نوفمبر 2007م، كعنوان رئيسي بالصفحة الأولى: زواج القرن بمدينة ود مدني!!
ببساطة هذا هو زواج الجمهوريين نظريا وتطبيقيا !!
انظر ماذا قال كاتب الانتباهة: (وأسأل أولئك المدافعين عن محمود محمد طه كم من الفتيات اللاتي انتهكن أعراضهن بجنيه سوداني واحد «بقاعدة الخابور والصامولة» مع ترديد خطبة النكاح التي يقول العريس فيها «أنا انبثاق نفسك عنك خارجها والله شهيد بيننا» وتقول العروس مثل ذلك؛ وهنا يلزمك أن تضع ألف خط أحمر تحت اسم الجلالة حيث إن اسم الجلالة عندهم يعني «ذلك المرتد» والعياذ بالله.) انتهى!!
هل لهذه البذاءة أي علاقة بهذا المشروع!!
إن الباب مفتوح، لتقديم هذا القذف إلى المحاكم، ولكن الجمهوريين يعلمون أن البداية ستكون باللطف والعطف والمحبة، كما أشار الأستاذ محمود في خطابه إليهم، فكأن لسان حالهم يحكيه قول الشاعر:
يقذفني اللئيم بكل قبح وأخشى أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة وأزيد حلما كعود زاده الإحراق طيبا