إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

بعد عام من إعدام غاندي أفريقيا:
عبد اللطيف يروي حكاية الإعتقال ومأساة المحاكمة ومسرحية الإستتابة

أجري اللقاء: محمد الشيخ حسين


جريدة الصحافة | صفحة ٥
الأحد ١٩ يناير ١٩٨٦ م

حيث العقل لا يخاف والرأس مرفوع عال..
وحيث المعرفة حرة..
وحيث العالم لم يمزق التعصب جدرانه..
وحيث تخرج الكلمات من أعماق الحقيقة..
وحيث الكفاح المستمر يمد ذراعيه نحو الكمال..
وحيث لا يفقد العقل مجراه في صحراء التقاليد الميتة..
وحيث يقود العقل نحو ساحات أفسح من الفكر والعمل تحت سماء الحرية تلك..
يا إلهي..
أيقظ وطني
(طاغور)

مثل ملايين كثيرة توقف بي الزمن فترة غير قصيرة عند ذلك المشهد الذي عشناه وعاشه العالم معنا يوم 18 يناير 1985 م.
حزين في صمت، مقهور النفس، أدور بفكري محاولاً إختراق سحب الظلام التي أحاطت بنا لكي أعرف كيف.. ولماذا؟
كيف هان عليهم أن يغتالوه، وأن يعلقوه علي حبل المشنقة، وهو الذي وقف أمامهم مبتسماً.
لقد فعلوها وحاولوا إغتيال البلد كلها، ولعل مشيئة الله إختارته ليفدي وطنه.
قطعاً لم يكن ذلك الإغتيال حقيقة الدين الذي رفعوا قرآنه الكريم، واختفوا وراءه لكي يدبروا جريمتهم البشعة.
في القصة التالية سوف نجد جريمة قتل. إنه قتل مع سبق الإصرار والترصد، إنه ليس تكفيراً أو... إنه قتل.
القتيل فيه معروف.. أداة القتل مضبوطة، وسبب القتل واضح، والشهود موجودون، ومع ذلك فإن جريمة القتل لم يتم تسجيلها حتى الآن ــ حتى لو ضد مجهول!
إن القتيل ليس شخصاً عادياً، والقاتل ليس شخصاً واحداً، وهدف المحاكمة كان محدداً ؛ إعدام رجل.. مصادرة رأى.. وأد فكر.
كان ذلك هو الهدف العاجل المحدد وهناك هدف آجل " إعدام الحرية"
وجوهر القضية نفسها عرفها التاريخ كثيراً، ومعنى العقوبة هو نفسه في كل حالة، فقد تم التشهير بقاسم أمين، وقتل الكواكبي.. وعزل الشيخ علي عبد الرازق.. وفصل طه حسين، والقائمة طويلة، والقضية نفسها ليست مفاجأة.. فالأستاذ محمود محمد طه نفسه كان يعلم مقدماً بما ينتظره، ومع ذلك قرر المضي في طريقه، فهو إختار الحرية قبل الضغط، إختار الإختلاف قبل الموافقة، إختار المفكر فوق السياسي، إختار الإنسان الواحد فوق القطيع الضخم.
ولكن حسمت السلطة، وأصدر الخصوم السياسيون حكماً بأن الأستاذ قد كفر، وكالعادة وجدت السلطة مثقفين آخرين مهدوا الطريق وصفقوا وما يزالون!

حكاية للتاريخ:


في الأسطر التالية نلتقي من جانب مع الأستاذ عبد اللطيف عمر، أحد الذين كانوا قاب قوسين أو أدنى من حبل المشنقة، ونعتصر ذاكرته لكي يروي لنا أحداث الجريمة البشعة، باعتبارها نموذجاً في الشجاعة العقلية والصراع بين السلطة وحرية الرأي. والطرف الآخر هو شاهد عيان، أتاحت له الظروف حضور كل فصول المسرحية ــ ما عدا لحظة التنفيذ ــ يعود لأوراقه المخبأة ليصبح ما يرويه الإثنان معاً ــ عبد اللطيف والشاهد ــ تاريخ.

عبد اللطيف عمر:


بداية البداية كانت مع إطلاق سراحنا من المعتقل في 19 / 12 / 1984 م
وفي نفس الأسبوع ــ تحديداً ــ شرعنا في إعداد المنشور.
والأستاذ قال بكلمات مباشرة: يجب أن نفهم أن هذا المنشور قد نتعرض فيه لأقصي صور البطش ــ والنظام منهار وخائر ولا يحتمل أي مواجهة.
كلمات الأستاذ رسخت في أذهاننا المدى الذى يصل له رد الفعل وخصوصاً في ظل وجود القوانين المذلة.
المنشور أخذ طريقه في التوزيع، وتم اعتقال بعض الاخوان الذين حملوا المنشور.. وعلم أنني المسئول عن التوزيع.. والذين اعتقلوا في أم درمان تحت المادة (127 ــ أ) كانوا أربعة.. وذهبت إلي القسم الأوسط لأضمنهم، وهناك تمَّ اعتقالي، باعتباري المسئول عن توزيع المنشور، وكان واضحاً أنهم يريدون الأستاذ، ثم حضر أحد الأخوان يريد أن يضمنا الخمسة، وفعلاً تمت الضمانة.. وخرجنا من الحراسة، وقبل أن نتنسم عبير الحرية كان لهم طلباً غريباً، بالذهاب إلي مكتب نيابة أم درمان.. ومثلنا أمام وكيل النيابة. وبعد دخول وخروج إتضح لنا أن مكتب النائب العام ومن ورائه محمد آدم عيسى وزير الشئون الجنائية قد وضع المادة "96" بملحقاتها في أورنيك التحري وعدنا مرة أخرى للحراسة.

شاهد العيان:


تجربة الحراسة حقيقة لا يعرفها إلا من عاشها، وحياة الحراسات في بلد المليون ميل تجربة مؤلمة ومعاناة صعبة، وعبد اللطيف الذي عاشها وأنفعل بها كيف يراها الآن؟

عبد اللطيف عمر:


أعدنا للحراسة بالقسم الأوسط بأم درمان في زنزانة كبيرة إسمها الصين لكثرة من بها من منتظرين. وأخذت من الصين الازدحام وكثرة السكان فقط، والعالم داخلها أشكال وألوان. ومكثنا فيها ليلتين لا توصفان.
وفي ذلك الأثناء تم اعتقال الأستاذ في القسم الأوسط لمدة أسبوع كامل، ولم يحصل له الشرف الذي حصلنا عليه بنقلنا إلي سجن أم درمان!!
وقبل أن أترك حديث الحراسة ألفت نظر من يود معرفة الحياة في الحراسات إلي مقال الأستاذ طه إبراهيم المحامي الذي نشرته [ الأيام ].

شاهد العيان:


نحن الآن في غرفة كانت أصلاً صالوناً في المنزل الذي تعقد فيه المحكمة الجنائية رقم "1" والصالون هو المحكمة الجنائية رقم "4".. في الداخل تربيزة مكتب بحجم عادي وكنبتان من كنب المدارس قبل السلم التعليمي.. عدد البشر داخل الغرفة أكبر من سعتها.. أدوات تسجيل.. كاميرات تلفزيون.. فلاشات مصورين.. وفي الخارج مجموعة كبيرة من الاخوان الجمهوريين بملابسهم ناصعة البياض.
القاضي يدخل الصالون مرتدياً طربوشاً ذا لون أقرب إلي لون التراب المخلوط بالدماء.
القاضي يصيح طالباً من الجميع الخروج، والقضية عادية ولا تستحق هذه الضجة، بحثت في تلك اللحظة عن وقار القاضي ــ عفواً ــ لم أجده، ولا أدري لماذا رسخ في ذهني مشهد مهرجي الأفلام الهندية.
وأخيراً بعد إتصال تلفوني إنتقل الجميع إلي مبنى البلدية، وأترك المايكرفون للأستاذ عبد اللطيف..

عبد اللطيف عمر:


كان رأى الأستاذ الذي وافقنا عليه، هو لا بد من موقف سياسي واضح بمواجهة القوانين في مستوى التنظير والتطبيق، مواجهة تـُشعر السلطة بالرأى الآخر في قوانينها، ولهذا لم نتلفت أو نهتم بإجراءات المحكمة العادية، وأعتذرنا للسادة الأفاضل المحامين الذين تطوعوا للدفاع، ورسخ في ذهننا أن نفدي أبناء شعبنا الذين جلدوا وقطعت أيديهم، أهّلنا أنفسنا لهذا الدور، فداء للشعب من المذلة.
وعندما عدنا.. لسماع الحكم، لم يتغير شعورنا عند لحظة النطق بالإعدام، وإن كانت دهشتنا بالغة في المفارقة بين التهمة ــ توزيع منشور ــ والحيثيات التي ساقها للحكم ــ ادعوا فهماً جديداً للإسلام!!
بعد الحكم قال الأستاذ " إنتوا اتطهرتوا " ولم نتقدم بأي إستئناف.

شاهد العيان:


الحكم رفع لمحكمة الإستئناف لفحصه، وتمَّ تأييده.. واكتنفت سماء الخرطوم بغيوم كثيرة قبل إعلان التأييد، حتي فوجئ الناس بالمكاشفي وهو يتصبب عرقاً داخل التلفزيون يتلو حكم التأييد، لحظتها تذكرت بطل مسرحية ليلة السحلية لـ تـنسي ويليامز، مرة حمامة وديعة، وأخري سحلية زاحفة، وثالثة ثعباناً ساماً، ورابعة قرداً في حديقة الحيوانات يقذف الأطفال بالفول، ومرة نمراً مفترساً.. لا أعرف ماذا افترس؟ المهم أن أحيا أدافع عن بقائي!

عبد اللطيف عمر:


تأييد المكاشفي للحكم لم نعلم به، لأننا كنا في كوبر.. كنا في "زنزانات إنفرادية" ولم نحط علماً به إلا بعد تسرب صحيفة صباح الخميس 17 / 1 / 1985 م
وفي صباح يوم الخميس كنا قد تقابلنا داخل السجن.. وفي الظهر شعرنا أن الحركة غير طبيعية، ولم يكن لدينا خبر بتأييد الرئيس المخلوع للحكم.
وفي تمام الخامسة حضر إلينا ضابط ومعه بعض الجنود، وأخذوا الأستاذ، ولم نكن نعلم أين سايرين به.
وبعد أن أكملت الشمس رحلتها اليومية، دعينا لمكتب مدير السجن فرادى، وهناك تمَّ إبلاغنا بتأييد الرئيس المخلوع للحكم، وأنه قد أمهلنا ثلاثة أيام للتوبة.
وكانت إجاباتنا تقريباً موحدة، بدون إتفاق وتشاور، وهي رفضنا للرجوع.
وبعد ذلك وضعت القيود في أرجلنا، وحـُوِّلنا الي الزنزانات البحرية المعدة للمنتظرين لتنفيذ الأحكام بالإعدام.. ووضعنا كل اثنين في زنزانة لأنها كانت مزدحمة.
في غضون هذه الإجراءات، كنا لا نعلم مصير الأستاذ، وسألنا عنه أحد الضباط، فأوضح لنا أنه في إحدى الزنازين، وثمة حاجز يفصله عنا.. ونحن في الإنتظار سمعنا النشرة من راديو مع أحد المنتظرين، وساعتها عرفنا أن التنفيذ في الأستاذ سيتم غداً ــ المهم مكثنا ليلة..
وفي صباح الجمعة، حضر إلينا شاويش، وقادنا في طريقه للمشنقه، وجال في أذهاننا أننا مقادون إلي تنفيذ الحكم فينا، لأننا رفضنا الرجوع.
وعند وصولنا ساحة المشنقة، وجدنا الحشود، والقضاة، ومستشاري نميري يشهدون اللحظة البشعة وكأنهم في إنتظار عرس.
ثم خرج الأستاذ من غرفة غرب المشنقة، وسار في خطوات واثقة ثابتة، وهو مقيد اليدين، والرجلين، مغطى الرأس.. حين اعتلى المنصة كان يمشي مشيته الطبيعية التي عرفتها ثلاثين عاماً رغم ثقل القيد حول اليدين والرجلين.
في تلك اللحظة الرهيبة، وجلال الموقف الذي يدخل في اللب رهبة وإجلالاً، إنطلق المكاشفي مسرعاً، واعتلي المنصة، والأستاذ واقف في شموخ ببسمته المشهورة.
وتحدث المكاشفي عن تدرج الحكم وقال بالنص " ان الرئيس جعفر المنصور قد أيـد الحكم "
بمجرد أن إنتهى التنفيذ، طلب منا العودة إلي الزنازين، وساعتها فهمنا أن الهدف هو إرعابنا، ثم علمنا أن طائرة هيلكوبتر قد أخذت جثمان الأستاذ وحلقت به شرقاً.

شاهد العيان:


إنقضى نفس هذا اليوم قبل عام بكارثة، وجاء السبت وفي يوم الأحد 20 / 1 / 1985م كان موعدنا مع الفصل الأخير من المسرحية الهزلية.
في ذلك اليوم جاء من أطلق عليهم مجموعة العلماء. وجلست مع الأربعة الآخرين، تعرض كتابة صيغة التوبة الشرعية أو الإعدام.. لم يكن هناك حوار ولم يكن هناك نقاش، كانت هناك كتابة أو مشنقة.
تلك كانت اللمحة العامة، غير أن الخرطوم إستيقظت صباح الإثنين 21 / 1 / 1985م تتحدث عن رجل نحيل الجسم، حاد النظرات، بارع الحجة، أذهل مجموعة العلماء بحجة في غاية البساطة وقمة الحجية (إذا رغب فرد في أن يدخل الإسلام، ليس بالضرورة أن يقر أن زيداً كافر). وبعدها أصبح حديث المدينة التي أُعجبت به واحترمت ذكائه واندهشت حينما عرفت حقيقة تلك الكوكبة!

عبد اللطيف عمر:


في أمسية الخميس 17 / 1 / 1985م بعد أن تمّ تأييد الحكم بواسطة الرئيس المخلوع، تمت إعتقالات واسعة وسط الاخوان الجمهوريين.
وبعد التنفيذ في الأستاذ، لم يكن هناك أي إتجاه للرجوع، غير أن الفاصل الزمني حتي موعد التنفيذ فينا، قد أعطانا فرصة للتفكير وتقويم الموقف، وهل نمضي في طريق التصفية الجسدية ونحن مدركين مدى جهالة النظام واصراره علي أن حكمنا " حد " لا يمكن الرجوع عنه.
المهم ظللنا في انتظار وتقويم جديد، واضعين في الإعتبار همجية النظام.
وكان لا بد من معرفة تقويم التنظيم ككل للأمر، وهل نعطي لأصحاب الهوس الديني الفرصة في القضاء علي التنظيم.. وساعدنا الإعتقال في ذلك كثيراً، وفي صباح السبت حضر إلينا كبير الجمهوريين ونقل إلينا رأى القلة التي نجت من الإعتقال، التي قومت الموقف بأنهم همجيين ومهووسين، وطلبوا منا الرجوع عن الأقوال كتابة. بعد أن وصلنا إلي هذه القناعة، بعد مناقشة شارك فيها كل أعضاء التنظيم تقريباً..
بلغنا إدارة السجن بأننا لا نرغب في مقابلة أي علماء، ولسنا في حوجة إليهم، وكل ما يرغبون فيه إخراج مسرحية.. ولكنهم أصروا علي الحضور، وحبكوا المسرحية جيداً، ونادوا أصغرنا سناً، ومضوا في مهزلتهم.. ووجدنا متنازلين في الظاهر علي الأقل ولم يدركوا أن مقابلتنا لهم كانت تفويتاً للفرصة والإستتابة تحصيل حاصل، ولو أن الغرض الهداية ــ كما ادعوا ــ لما تمت بتلك الصورة المظهرية، فضلاً عن ما سمي بصيغة التوبة الشرعية.. كانت صيغة مكاشفية.
وفي الختام أقول أن الموقف قد كان صعباً تعرضت فيه بكل بساطة لأن أرى رجلاً في مقام الأستاذ محمود محمد طه يتعرض للتصفية الجسدية، في تآمر مكشوف ومن خصومه السياسيين.
ومؤكد أن الشعب السوداني قد ظهرت له بشاعة الجريمة، ولكن الشعب السوداني كان مغلوباً علي أمره.. ولكن هذا لا يعفيه ومثقفيه عن المسئولية في أن يتم عمل كهذا ضد حقوق الإنسان، بتلك الصورة البربرية، ولعل العزاء يكمن في أن الحادث المأساة، أشعل الثورة المكبوتة بعد 76 يوماً من إعدام الأستاذ..
والحكم جسَّد كيف يتم إرتكاب أبشع الجرائم بإسم الإسلام، وهذا نذير للناس لكي يجتنبوا الدعوات الدينية الجاهلة.

شاهد العيان:


إنتهت رواية الأستاذ عبد اللطيف عمر.
وفعلاً نجح خصوم الأستاذ السياسيين من إغتياله في محكمة سريعة دبرت بليل.
غير أن الذين أعدموه، والذين أيدوهم، إن ظنوا أنهم تخلصوا منه ومن فكره بإعدامه.. فقد أخطأوا...
...
...