إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

حين قال شركاء وأجراء الحكم نعم للإمامة قال محمود لا

إدارة الندوة: محمد محمود راجي


ندوة أقامتها جريدة الصحافة مع اللجنة القومية للإحتفاء بالأستاذ محمود محمد طه
١٩ يناير ١٩٨٦ م - ٩ جمادى الأولى ١٤٠٦ هـ

علي شرف إحتفالات البلاد بالذكرى الأولى لاغتيال شهيد الفكر الأستاذ محمود محمد طه، أجرت [الصحافة] هذه الندوة مع خمسة من أعضاء اللجنة القومية للإحتفال بذكرى الجريمة التي روعت العالم وأساءت للإسلام، يوم صدر الحكم فيها بإٍسمه وبإسم شريعته السمحاء التي لم يعرف عنها في يوم من الأيام أنها كانت مقبرة للفكر أو مشنقة للمفكرين والمعارضين، إلا أنها كانت شريعة آخر الزمان، التي جعلت من كبير الطغاة إماماً تبايعه القبائل، وتسبح بحمده (البطون) الخاوية.
و [الصحافة] إيماناً بواجبها القومي تجاه هذه الأمة وتجاه أجيالها القادمة، تقدم هذه الندوة، لتكشف مدى الجريمة التي إرتكبها البعض في حق هذا الوطن، وفي حق دين الأغلبية من بنيه.

الصحافة:


علي خشبة المشنقة الحمراء، وقف، شامخ الرأس، أسمر الجبهة، مرفوع الهامة، رائعاً مبتسماً حتي في موته.
مشهد تكرر لمئات المرات، في مسرحية (التخلص من الخصوم) التي إستمر نميري يعرضها علي إمتداد الوطن، لستة عشر عاماً نازفة.
الرجل الشيخ (76) عاماً لم يكن أول الشهداء، ولا كان آخرهم.. سبقه إلي درب الشهادة العشرات، منهم أُغتيل رمياً بالرصاص بعد أن جرد من الرتبة، ومنهم، من سحقتهم الدبابات والأقدام.. وآخرون لم يعرف لهم قبر.. وبكل تأكيد لم يكن الأخير.

د. علي أبوسن:


لقد إغتال نميري خلال سنوات حكمه العشرات ؛ عسكريين ومدنيين.. هم حتماً شهداء، لهم في نفوس هذه الأمة كل الإجلال والإكبار.. ويعد كل واحد منهم نموذجاً رائعاً لنضال هذه الأمة ضد الطغيان وأساليب القمع والإرهاب.. إلا أن استشهاد الأستاذ كان ذا معنى خاصاً، لإختلافه في بعض جوانبه عن عمليات الاغتيال الأخرى التي شهدها تاريخ السودان الحديث والقديم.. فلم نسمع، ولم نقرأ، أن السلطة أياً كان نوعها، إستعمارية أو وطنية ديكتاتورية، قد أصدرت حكمها علي رجل بالإعدام لمجرد أنه قال رأيه بطريقة سلمية !! وهذا ما حدث للأستاذ محمود الذي عرف علي طول سنوات نضاله بأنه كان نموذجاً للداعية المفكر المسالم !! رجل مثل هذا يقدم للمحاكمة لأنه أصدر منشوراً عارض فيه النظام، ثم ينفذ فيه حكم الإعدام بتهمة البغي وإثارة الكراهية ضد الحكومة، وكأننا في أيام محاكم التفتيش؟!
لهذه الأسباب نحتفل علي مستوى العالم العربي بذكرى اغتيال الأستاذ (رحمه الله)، وليس لأننا من أنصار فكره أو لأننا من مريديه.. نختلف معه كثيراً ولكننا نحترمه كمفكر يجب أن يعطى كل الحرية ليقول آرائه ويعبر عن فكره.

د. إبراهيم الكرسني:


إلي جانب ما ذكره د. علي فإن محمود يـُعد أول مواطن سوداني يتم إعدامه لأنه قال رأيه فقط.. لم يحمل سلاحاً.. ولم يخطط لإنقلاب عسكري.. ولم يشترك في تنظيم لتغيير نظام بالقوة.. وكانت كل جريمته أنه قال رأيه في صدق وجرأة.

الصحافة:


إذن لماذا هو دون غيره (محمود محمد طه) الذي تقام له الليالي.. وتخصص له الندوات وتكرمه الأمة بتكريس لحظة موته يوماً لحقوق الإنسان العربي؟ هل يختلف محمود محمد طه عن بقية الشهداء الذين خطوا بدمائهم صفحات رائعة في تاريخ هذا الوطن؟

د. مالك يشير مالك:


إن من أهم الأسباب التي فرضت علينا حتمية الإحتفال بذكرى اغتيال الأستاذ، هي مواقفه البطولية التي سجلها في شجاعة وجرأة أمام محكمة المهلاوي وشيخه المكاشفي، عندما قال واصفاً قوانين سبتمبر (أنها شوهت الشريعة، وشوهت الإسلام، ونفرت عنه.. و وضعت لإرهاب الشعب). والأستاذ في كلماته تلك جسد روح الإرادة الشعبية الرافضة لقوانين سبتمبر ولمحاكمها ولقضاتها.. ولقد تحمل في رجولة تبعة رأيه حتي آخر لحظة من حياته.

د. عبدالله بولا:


محمود محمد طه , واحد من المثقفين الذين ينتمون للحركة الشعبية. وظل طول حياته مفكراً منقباً في خصائص هذا الشعب العظيم.. كان علي إيمان مطلق بقدرة هذا الشعب علي الفعل وعلي حماية حقوقه حتى في أحرج اللحظات، وقال ؛ هذا الشعب أكبر من أن يهان.. ألا يستحق هذا الشيخ الذي تنبأ بثورة هذا الشعب، و الذي لم ينفصل في يوم من الأيام عن هموم هذا الوطن، وعن قضاياه، و مات وهو يدافع عن حق الإنسان في أن يفكر وأن يقول رأيه..

الصحافة:


الرجل مفكر، كتب في الدين والتاريخ والسياسة، وعالج موضوعات المرأة ومشكلاتها.. وزعت كتبه آلاف النسخ، قرأها الناس وتهذبوا بها. ثم وزع منشوراً فألقي القبض عليه، وسيق إلي المحكمة، وخلال سويعات إتهم بالبغي وإثارة الفتنة ضد النظام، ثم نفذ فيه حكم الإعدام أمام أربعة من تلاميذه..
كل ذلك تمَّ في لمح البصر، وأمام دهشة العالم و وجومه !
السؤال الذي يطرح نفسه ها هنا ؛ لماذا كل تلك العجلة في التخلص من الرجل الشيخ؟ ولماذا بتلك الطريق الوحشية؟ وإلي أي مدى يمكن أن تتكرر مأساة الثامن عشر من يناير مرة أخري؟

د. إبراهيم الكرسني:


لقد كان الحكم علي الأستاذ مبيتاً وجاهزاً، الهدف الأساسي منه إرهاب الشعب، وإثارة الخوف في نفوس حركة المعارضة التي بدأت تقلق راحة النظام. ولقد إتضح هذا الهدف من خلال الحيثيات الضعيفة للمهلاوي، والتي قال فيها أن الحكم (الإعدام) سيكون عظة (للآخرين) من (مثيري الفتنة).
ولو قدر لنظام نميري أن يستمر لأكثر من السادس من أبريل لاستغل نفس القوانين والقضاة والمستشارين للتخلص من بقية رجال المعارضة مثلما تخلص من الأستاذ محمود.. وكان يمكن للمسرحية أن تتكرر أكثر.

د. عبد الله بولا:


أتفق مع د. كرسني في أن سريان قوانين سبتمبر حتي اللحظة، يعني أن الكثير من أفراد وقيادات القوى السياسية الموجودة علي الساحة السياسية اليوم، مبشرة بنفس مصير الأستاذ محمود.
نعم لقد ذهب نميري وحاشيته إلي مزبلة التاريخ.. إلا أن الذين وضعوا له قوانينه وأيدوه، وباركوا خطواته، وبايعوه، ما زالوا علي الساحة السياسية (يبرطعون) ويهددون مستغلين عواطف البسطاء ومتاجرين بحاجاتهم ومعتقداتهم.
ويجب أن لا نسمح لتلك القوانين ولتلك الفئة بأن تمر دون تنديد، وفضح، وتشهير دائم حتي يعي الناس مدي خطورتها.. إذا لم نفعل ذلك فسيحدث لنا أبشع مما حدث للأستاذ محمود.

د. علي أبو سن:


الجمعة 18 يناير 1985.. يا له من يوم في تاريخ هذه الأمة.. الرجل الشيخ معلق علي حبل المشنقة، جسده يهتز مع هبات الهواء الخفيفة، ومزيج عجيب من المتعصبين والمتطرفين والمضللين، وتنابلة السلطان.. يتحلقون حول الجسد الطاهر في نشوة مجنونة وهم يرددون في هوس دموي (الله أكبر..) (الله أكبر..)
يا لها من وحشية وحيوانية لم يعرفها الشعب السوداني من قبل، وتذكرنا بعهد محاكم التفتيش، وأباطرة روما قبل غسطنطين، الذين كانوا يعذبون ويقتلون المسيحيين الأوائل ثم يلقون بهم للأسود الجائعة لتفتك بهم وتمزقهم، بينما الإمبراطور وحاشيته يتابعون ذلك المشهد الدموي في متعة وشبق.
إن الذي حدث، ومهما ألبسوه من لباس الدين يظل أفظع جريمة يمكن أن يرتكبها إنسان ضد أخيه الإنسان.. وهو إساءة للإسلام.. فلم يكن هذا الدين في يوم من الأيام دين حقد و تصفية وانتقام.. ولقد أساء نميري للدين مثلما أساء لقيم وشعارات كثيرة، يوم حاول تسييس الإسلام بمساعدة مستشاريه لتحقيق أغراضه ومآربه السياسية.

د. مروان حامد الرشيد:


إن اغتيال محمود محمد طه بتلك الطريقة الوحشية، يعد مثالاً صارخاً لمدى إستخفاف نظام نميري بمواثيق حقوق الإنسان وحرياته، وإنتهاكاً سافراً لحق المواطن في أن يفكر وأن يقول رأيه.
لقد إعتقد نميري وأنصاره من المتاجرين بعواطف الجماهير أن تلك المشنقة التي نصبوها ستخيف المعارضة الشعبية. ولقد كذب ظنهم.. وكان اغتيال الأستاذ محمود هو الفتيل الذي أشعل قنبلة الثورة، وأجـّج نار المقاومة، ونظم صفوف المعارضة، وجمع النقابات المهنية والعمالية حول بعضها البعض مكونة نواة التجمع النقابي الذي قاد مع جماهير الشعب السوداني إنتفاضة مارس ــ أبريل، وعصف بعرش الطاغية.
لقد إقتلع الشعب حريته إقتلاعاً من بين براثن النظام الدكتاتوري وسدنته.. وخرج إلي الشوارع و هو يهتف بسقوط القوانين التي أهانت الشعب وأذلته.. ويكذب من يظن أن جماهير مارس ــ أبريل خرجت مطالبة بزيادة الأجور، أو لتخفيض أسعار السلع الأساسية.. لقد خرجت تلك الجماهير لأنها مُست في حقوقها، وفي كبرائها، بعد أن أذلتها محاكم تفتيش نميري وقضاته الذين ضعفوا أخلاقياً ومهنياً..
أتفق مع د. كرسني ود. بولا في أن وجود قوانين سبتمبر حتي اللحظة، يعد تهديداً سافراً لحقوق الإنسان ولحريته التي دفع الثمن لها دماً وأرواحاً زكية. فلقد أذلت تلك القوانين الشعب، وحاولت إخضاع أفراده لحكم مستبد مطلق، تحت ستار من عباءة ممزقة ومشوهة للدين.
لا أعرف مدى إمكانية تكرار ما حدث للأستاذ محمود.. وإن كنت اُؤمن بأن صمام الأمان للحريات هو في قدرة الشعب علي أن يدرك حريته وأن يدافع عنها، وهذا لن يتم إلا بتعليم النـشء منذ نعومة أظافرهم الإعتزاز بالحرية، واحترام آراء الآخرين. والوصول إلي تلك الدرجة من الوعي ليس بالأمر الصعب.. يحتاج فقط إلي إعادة تقييم مضمون ما يدرس بمدارسنا، وكيفية تدريسه، فإن أفق الشعب وعقليته يتفقان والطريقة التي تعالج بها حقائق التاريخ.. أنظروا لمناهجنا الدراسية، وستعرفون لماذا أعدم محمود محمد طه.. ولماذا تخرج تلك المدارس كل يوم مئات المتعصبين والمتطرفين الذين لا يعرفون للإنسان قيمة، ولا للحرية معنى.. يتحلقون حول كل مهووس، ويتبعون كل نبي في زمن إنتهى فيه الأنبياء.
الحرية في حاجة إلي رأى عام واع ليحميها. لا يكفي فقط أن نضمن تلك الحريات في الدساتير والمواثيق لكي نقول ؛ لقد نلنا حرياتنا.. وإنما يجب أن تكون قضية الدفاع عن الحرية هي الشغل الشاغل لكل الناس في هذا الوطن.

د. علي أبوسـن:


أتفق مع د. مروان في النقطة الأخيرة التي ذهب إليها.. و لقد أثبتت التجارب التاريخية أنه ليس بالمواثيق والدساتير وحدها تـُحمى الحريات، وإنما باليقظة المستمرة، ولذلك يجب أن يشعر الشعب بأن حريته التي نالها بالقوة، هي حصن يتهدده الأعداء في كل لحظة، وإذا أردنا للحرية أن تبقى فليس ثمة تنبيه أفصح من التعبئة المستمرة للجماهير بأهمية الدفاع عن عن حقوقها وحرياتها.. ودفعها لممارسة تلك الحقوق والحريات عملياً داخل نقاباتها، وأحزابها، ومواقع عملها، وداخل الأسرة نفسها.. وذلك بإحترام حرية الفكر، وحق الآخرين في أن يكون لهم رأى مخالف لرأينا.. وأن نحترم الآخرين ونقدرهم رغم الخلافات الفكرية.

د. مالك بشير مالك:


لا أجد ما أضيفه إلي ما قيل، غير ما كان يردد الأستاذ محمود نفسه (الرأى العام الواعي سياسياً لا يمكن أن يسمح لأحد أبداً بإنتهاك حقوقه).. فذلك الرأى الواعي المتنور بحقوقه، هو صمام الأمان الأول لحماية الحرية والديمقراطية.. والأستاذ كان يقول دائماً (ثمن الحرية هو السهر المتواصل عليها).

د. كرسني:


أتفق مع كل ما ذكر حول أهمية الممارسة اليومية للحقوق الأساسية، وأضيف إلي ذلك أهمية تضمين تلك الحقوق في المواثيق النقابية حتي يلم أكبر قدر من الناس بها وبطرق ممارستها وكيفية حماية تلك الحقوق.

د. عبد الله بولا:


إن عدم إحترامنا لمساهمة الخصم ولإضافته ولرأيه من الأسباب الرئيسية التي سهلت علي نميري مهمة إعدام محمود محمد طه.. تقبل آراء الآخرين واحترام حقوقهم هو الضمان الوحيد لاستمرار النظام الديمقراطي التعددي الذي ارتضيناه، والذي يقوم في أساسه علي تعدد الآراء والمواقف والاتجاهات.
القوانين وحدها ليست كافية لحماية الحرية وضمان تمتع الأفراد بحقوقهم.. ويجب علي رجالات الفترة الإنتقالية، أن يتحملوا مسئولياتهم تجاه الصالح المشترك، وأن يرتفعوا إلي مستوى مطالب الشارع من أجل تحقيق شعارات الإنتفاضة، والتي كانت وما زالت من أولوياتها حتمية إلغاء قوانين سبتمبر.. وعلي كل من في نفسه ذكرى من دكتاتورية أن يتذكر قولة شاعرنا ود المك (الظلم وقفته قصيرة).

[الصحافة]:


كثيرون من الفقهاء وعمداء النظرية العامة للحريات، يذهبون إلي أن الرأي العام الشعبي قد يتجه وبصورة مؤقتة ــ نتيجة لقصور أو لحسن النوايا ــ إلي مناصرة إتجاه معادٍ للحرية. إلا أن علماء ومثقفين، لا يمكن وصفهم أبداً بأنهم (قـُصَّرْ) ناصروا نميري وقوانينه المعادية للحرية، وأصابوا الحرية وحقوق الإنسان بأكثر من طعنة نجلاء عندما شاركوه في الدفاع عن تلك القوانين، وإصدار أحكامها والتغني بها.. أليس من المدهش أن يتحول المثقف إلي نصير للقوانين المستبدة والحكم المطلق؟

د. مالك بشير مالك:


أعتقد أن ما حدث أمراً عادياً ومتوقعاً من تلك الجماعة التي شغلت نفسها بالترويج للهوس الديني والدفاع عنه في حماس أعمى.. متجاهلة كل القيم الاجتماعية، والأخلاقية، ومتناسية آمال الشعوب وتطلعاتها نحو الحرية، والمساواة، والعدل.
تلك الزمرة من المثقفين التي شاركت نميري في صياغة قوانينه المقيدة للحريات، زمرة خانت أمانة العلم، وأهدرت كل قيم الثقافة، وهي بقعة سوداء في جبين هذا الشعب.

د. عبد الله بولا:


حقيقة، هناك الكثير من المثقفين الذين شاركوا نميري في اغتيال محمود محمد طه.. نـَظـَّروا وشاركوا في وضع القوانين المقيدة للحريات.. و وضعوا لإمامهم الأسس النظرية التي ساعدته في مصادرة فكر الشعب وحقوقه.. ومهدوا الطريق للدكتاتورية، وسنوا له القوانين التي قننت وأد الفكر، ومصادرة الرأى الآخر.. منهم علماء وحملة شهادات عليا رفيعة.. وبالمقابل هناك مثقفون ناهضوا نظام نميري، وقاوموه بمختلف الوسائل من النقد وحتي حبل المشنقة، أرقوا مضجعه بالمعارضة السرية والعلنية، والفرق بين هؤلاء وأولئك، هو في مدى إلتزام كل مجموعة منهما بقضايا الشعب، ومدى إنشغالها بهمومه الحقيقية.

د. كرسني:


أختلف مع د. عبدالله بولا و د. مالك في وصف من شاركوا نميري سلطته وفي سن قوانينه والدفاع عنها بأنهم من المثقفين، فالمثقف هو قبل كل شئ موقف واضح من قضايا مجتمعه، وهو الأمر الذي يحدد فيما إذا كان الرجل مثقفاً أم غير مثقف. أولئك الذين ساندوا نميري في قوانينه، ما هم إلا جهلة مسلحين بأرفع الشهادات، حولهم إنفصالهم عن الحركة الشعبية وابتعادهم عن قضاياها، إلي (مسوخ) مشوهة، أساءت إلي نضال الشعب السوداني ولتاريخه الطويل. وهم ألد أعداء الحرية، وأقصى أعدائها شراسة، لا يعرفون للإنسان قيمة، ولا للفكر معنى.. وكل حركتهم في هذه الحياة لا تستهدف غير تحقيق مصالحهم الذاتية الضيقة، حتى ولو كان تحقيق تلك المصالح علي حساب كل القيم والأخلاق والمثل. ويأتي اغتيال الأستاذ محمود أكبر دليل علي ذلك، فهل يمكن لمثقف أن يشترك في اغتيال كهل (76 عاماً) لأنه أصدر منشوراً سلمياً قال فيه رأيه.
لهذه الأسباب أتحفظ في إطلاق كلمة مثقف علي تلك المجموعة التي شاركت في اغتيال محمود وسنت لنميري قوانينه ومهدت الطريق لديكتاتوريته وبايعته عليها.

د. عبدالله بولا:


نميري لم يغتال وحده محمود محمد طه، وإنما شاركه في جريمته آخرون (يمشون اليوم في الأرض مرحاً) ظلوا لسنوات طويلة يتحينون الفرصة لكي يتخلصوا منه، بعد أن شعروا بأن نفوذه وصيحاته الشعبية الحارة ستكون هي الثورة التي ستعصف بهم وبمصالحهم ومطامعهم، فحاكوا له المؤامرات والدسائس.. و وجدوا في نميري ضالتهم التي كانوا يبحثون عنها سنيناً عددا، فقدموا الشيخ للمحاكمة عندما إلتقي هواهم بهوى إمامهم، ثم أعدموه.. وخالوا أن الساحة قد خلت لهم من بعده..
وأنا أعترض علي من يقولون أن تلك الجماعة، تنطلق من مرتكزات الهوس الديني.. والحقيقة أنها جماعة سياسية ذات أيدولوجية منظمة تقف وراءها بيوتات مالية ومصالح إقتصادية، وهي تتستر بالدين لنيل مآربها وتحقيق أغراضها. وعندما أحست تلك الفئة بأن الأستاذ محمود يهدد مصالحها لبست ثوب الهوس الديني لاستدرار عطف البسطاء والتأثير علي عقولهم.
أما بالنسبة لمسألة التمييز بين المثقف والمتعلم فأرى أنها مسألة في غاية التعقيد.. وهذا ليس مجال البحث فيها والجدل حولها.. وإن كان التاريخ يشهد بأن هناك الكثير من المثقفين الذين شوهوا حركة التاريخ، وزوروا في قضية الديمقراطية.. هيجل وهيدجر رمزان خطيران من رموز الفلسفة الحديثة.. أولهما نظر للدولة البروسية باعتبارها الدولة التي تـتشكل فيها إرادة الله.. وهيدجر فعل نفس الشئ بالنسبة للحكم النازي، والإثنان متعلمان ومن أكبر الرموز الفلسفية التي شهدها التاريخ..
ولهذا فأنا علي يقين بأن مهمة حماية الديمقراطية، ليست هي واجب المثقفين وحدهم، ولا يجب أن ننتظر منهم ذلك، فهي قبل كل شئ، واجب القطاعات ذات المصلحة الحقيقية في بقاء الديمقراطية وأستمرار الحريات، وهي الطبقات الشعبية.

[الصحافة]:


في النهاية نقول للقراء:
إن المجموعة التي أُجريت معها الندوة هي لجنة التسيير، المنبثقة من اللجنة القومية للإحتفاء بالأستاذ محمود محمد طه ؛ وهي لجنة قومية لا تمثل حزباً واحداً ولا فكراً واحداً.. وهم متجانسون رغم اختلافهم لأنهم يؤمنون بأن الحرية لنا ولسوانا، وأنه لا توجد محكمة في التاريخ يمكن أن تحاكم فكراً أو تشنق مفكراً.. فالفكر ملك للبشرية، هي تـُقيـِّمَه وتفـْصِل فيه وتصدر أحكامها عليه.