إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
إذا كان الروائي العالمي أناتول فرانس قد إختصر في قصته المشهورة كل تاريخ البشرية في ثلاث كلمات : ولدوا ، و تعذبوا ، ثم ماتوا .. فنحن بنفس القدر و بنفس المنطق ، نختصر تاريخنا المعاصر في أربعة كلمات قرآنيات من سورة النور " ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ " منذ أن بدأ التاريخ ومقدرات الإبداع والفطرة والخلود تقع من الفرد البشري ، بتناسب منسجم مع الزمان ، ومتطورة معه من الأفضل إلي الأفضل.
ولكن الشئ الذي كان بالكاد ثابتاً ولا يزال ، هو أن القلائل هم القادرون علي تحقيق هذه الحالة الفريـدة من حالات الفرد البشري.
ومع تطور الزمان في قيمه وفضائله ، أصبحت إمكانية التحقيق تقع من الذين يملكون مقدرة توحيد القوى في بنيتهم البشرية ، بفضل الله ، وبفضل كفاحهم ، فلا ينالهم التشويش ولا يزعزعهم إيقاع الزمن البطئ ، (زمن الإستتابة) فيصبحون غير قادرين علي الرؤية المستقبلية الواضحة المطمئنة .
كان من أكبر دلائل الجهالة أن يؤتى بالرجل ليوضع في مأزق إيقاع الزمن البطئ ، ليرجع عن مبادئه ، فهذا والحق جهل بحقيقة الرجل.
قد يقول قائل بأن هذا الحديث عن الموت إنما هو كلمات تقال ، وضرب من ضروب الفلسفة في تعريف المجهول .. فلنفترض صحة هذا ، إذن ماذا نقول عندما يتحول هذا الحديث من كلام يقال إلي سلوك محقق في مواجهة الموت والمخوِّفين به .. هنا إستطاع الأستاذ محمود أن يحقق الوحدة في بنيته ، لقد فكر كما أراد ، وقال كما فكر ، وعمل كما قال ، وكانت نتيجة عمله خيراً وبراً بالأحياء والأشياء .
( و بالموت تكون فرحتنا، حين نعلم أن به نهاية كربنا، وشرنا، وألمنا .. قال تعالى عنه: " لقد كنت في غفلة من هذا، فكشفنا عنك غطاءك، فبصرك اليوم حديد " .. وإنما بالبصر الحديد ترى المشاكل بوضوح، وتواجه بتصميم .. ).
والرجل قدم لقضيته وفكرته قوة الدفع ، التي تؤهلها لأن تتحرك في زمن يقظة الضمير ، واستنارة الفكر ، زمن الخروج من الجمود الفكري والعقم العاطفي ، قدم لها أكثر مما لو كان قضى ضعف عمره في محاضرات يلقيها علي الناس الذين لا يقنعهم إلا المثال الحي .
ولذلك كان علي الذين نفذوا هذا الجهل وهذه المكيدة أن يعرفوا بأن التصفية الجسدية لا تحل قضية فكرية ، إنما تزيد من دعائم وجودها .. هذا إذا كانت قضيتهم فكراً ، وأما إذا كانت قضيتهم تصفية ، وأحقاد ، ومحاولة تخويف الآخرين ، فهذه قضية أخرى .. فليطمئنوا بأن الرجل كان أكبر داعية للاعنف والسلام في زمن الكراهية والأحقاد.
من الطرائف التي لها دلالات علي الجهالة ، أنه وقبيل تنفيذ الإعدام علي الشيخ الكبير ، صعد أحد القضاة لينطقه بكلمة التوحيد لا إله إلا الله .. لو كان لهذا القاضي أقل إلمام بكتابات الأستاذ الأستاذ محمود ، ولو من باب الأمانة العلمية لوفر علي نفسه عناء هذا الأمر .. لقد جاء في كتاب للأستاذ محمود بأن السيد المسيح كان يتعبد في الجبل فجاءه الشيطان ، وقال له : قل لا إله إلا الله . فعلم المسيح بأنه سيقع في إحدى السؤين ، إما أن يقولها فيكون قد أطاع الشيطان ، وإما ألا يقولها فيكون قد أنكر كلمة التوحيد ، فأجابه بفطرته السليمة : كلمة حق ، ولا أقول بقولك .
قد يكون الأستاذ محمود قد حققها علي هذا النحو ولا ندري ، لأنها لفظ بين إثنين ... ولكن في إعتقادي بأن الشيخ الفاضل قد حققها علي مستوى آخر ، وهو صاحب كتاب لا إله إلا الله ، وقد قال فيه : لا إله إلا الله آصل أصول الدين، فما هي بنافلة من القول ، ولا هي بترف ذهني ، ولا هي مثل أعلى ، إنما هي حقيقة أولية تعاش ، وخلق بسيط يمارس في واقع الحياة اليومية ، بدايتها بسيطة ونهايتها في الإطلاق .
وبعد لو لم يقدم الأستاذ في كل حياته سوى موقفه هذا ، لكفاه ذلك عظمةً ، وخلوداً ، ومجداً ، ورحمةً عند رب العالمين .