إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

بصيرة إنسان (سوداني) نادر.. مرّة أخرى

عوض محمد الحسن قدورة


في بداية خمسينيات القرن الماضي، كان السودان لا يزال ريفًا كله إلاّ بضع بقع حضريّة متناثرة (تُسمى، مجازًا، مدنًا لكنها في حقيقة الأمر مجموعة قرى تعكس التكوين القبلي لساكنيها)، تتوسّطها بعض مظاهر الحداثة المتمثلة في مباني الحكومة وأحياء الإداريين البريطانيين وأحياء موظفي الحكومة، والبداية الجنينيّة لطبقة وسطى قوامها بعض المهنيّين والتجّار. ولم تكن أوضاع بقيّة الدول العربية (وسائر بلاد المسلمين ومعظم بلدان العالم الثالث) أحسن حالاً من السودان: أميّة متفشيّة، وفقر مادي، وأمراض ترتبط بفقر البيئة، وإقطاع يمتصّ دم الفلاحين، وحكم استعماري يقتات على مقدّرات هذه البلدان، وتواصل محدود بما يدور في العالم من حولها.

في عام 1953، ورغم الخلفيّة القاتمة تلك، كتب شهيد الفكر في السودان، الأستاذ محمود محمد طه خطابًا عجيبًا لمدير عام اليونيسكو آنذاك، يُناقشه مناقشة الندّ للندّ على تقريره المقدّم إلى المؤتمر العام للمنظمة التي لم تبلغ عامها السابع منذ إنشائها في عام 1946 لتبني "حصون السلام في عقول البشر" بالتعليم الجيّد والثقافة والعلوم منعًا للحروب. قال الأستاذ محمود مُعلقًا لما ورد في التقرير:

"فأنت تُريد أن تُنجب الإنسان الحُرّ، الذي يعيش في مجتمع عالمي. وأنت، لكي تُحقق ذلك، تُريد نظامًا دوليًّا، مشتركًا، وإن شئت فسمّها حكومة عالميّة. وتُريد، إلى ذلك، نوعًا جديدًا من التعليم. هذا ما تُريد، ولا عبرة عندي بهذا الحذر الذي تُبديه عند الحديث عن الحكومة العالميّة، بقولك"دون أن تنال من سيادة أمّة"، فإنه حذّر من دوافعه التي يُمكن أن نتلمّس فيها الحرص الشديد الذي يُطالعك في تمسّك كل أمّة بسيادتها الداخليّة، وإلاّ فأنت تعلم، كما أعلم، أن الحكومة العالميّة لا تقوم إلا على الحدّ من سيادات الأمم!" فتأمل هذا الاستشراف لتطوّر القانون الدولي بعد عقود من هذه الإشارة الذكيّة.

ثم تحدّث الأستاذ عن التقدّم العلمي والصناعي الذي أحدث ثورة في الفكر الاجتماعي والصناعي تعتمل في الصدور والعقول، تنتهي، في رأيه، إلى نتيجة محتومة هي أنه لا مندوحة للأمم التي تُعمر هذا الكوكب الصغير الذي نعيش فيه من أن تدور في فلك واحد كما تفعل الكواكب السيّارة في النظام الشمسي.

"وهذا الكوكب الصغير الذي تعيش فيه الإنسانيّة وحدة جغرافية، قد ربط تقدّم المواصلات الحديثة الوسيعة بين أطرافه ربطًا ألغى الزمان والمكان إلغاء يكاد يكون تامًّا". ثم تحدّث الأستاذ محمود عن البون الشاسع الذي يفصل بين الحكومات الوطنيّة والحكومة العالميّة التي تنشدها البشريّة، وإنه إذا تُركت الإنسانيّة لتقطع هذا البون الشاسع بأسلوبها المعهود، نشبت بينها نواشب التغالب، وتضوّرت بالمجاعات، وولغت في الدماء، وأفسدت في الأرض. لذلك "ليس على طلائع البشريّة، فيما أعلم، واجب يُشرّفهم أداؤه أكبر من أن يُعينوا الإنسانية على اجتياز هذا البون، ولا يكون التطوّر يسيرًا هيّنًا سريعًا إلا إذا سار على حداء عقلٍ مستهدٍ جريء!"

يمضي الأستاذ محمود ليُبيّن كيفيّة بناء مثل هذا العقل المستهدئ عن طريق التعليم، فيقول، مشيرًا إلى ما ذكره تقرير اليونيسكو:" إن (التعليم الجديد) يجب أن يُستمدّ من النظرة الجديدة إلى الغاية من الحياة الاجتماعيّة، وهي إعداد إنسان حُرٍّ يعيش في مجتمع عالمي. إنسان حُرّ؟ من هو؟ هو من تحرّر عقله وقلبه من رواسب الخوف فنبّه جميع القوى الكامنة في بنيته، فاستمتع بحياة الفكر وحياة الشعور. هذا هو الإنسان الحُرّ. والتعليم المتوجّه إلى إعداده يُعنى، في المقام الأوّل، بتحرير المواهب الطبيعية.. فالتعليم، في حقيقته مجهود فردي، يقوم به كل رجل وكل امرأة"، ما أسمته اليونيسكو بعد نحو نصف قرن (التعليم للجميع).

ثم يتحدّث الأستاذ محمود عن السبيل إلى هذا التعليم، فيتحدّث إلى مدير عام اليونيسكوعن القرآن:" إنك، لا بدّ، قد سمعت بالقرآن، وما يُقال عنه أنه كتاب المسلمين، وهذا غير الحق، فإن القرآن كتاب الإنسانية جمعاء، لأنه سيرة الحياة جمعاء. هذا الكتاب هو سيرة النفس البشريّة الخالدة في الجوهر، المتقلّبة في الصور المختلفة، في الأزمنة المختلفة، والأمكنة المختلفة".

ماذا دهى السودان وغيره حتى حدث هذا الانحدارالمريع من قمّة هذا الفكر المستنير، إلى فتاوى إرضاع الكبير، وحرمة دخول المرأة في البحر، وزواج القاصرات وحرمة إهداء الورود- وقمع الفكر الحُرّ وإلهاء الشباب بالتجهيل المنظّم الذي يُقعده عن النظرة الناقدة والتبصّر والرشد؟ كيف ننحدر من هذه الدعوة المُبكرة لمجتمع عالمي إلى التشتت القبلي والجهوي والطائفي الذي نراه الآن؟

حين اغتيل الرئيس جون كنيدي في عام 1963، حزنت الولايات المتحدة كلها، بل حزن العالم بأسره على الرئيس الشاب الوسيم، وتعاطف مع زوجته الحسناء جاكلين وأطفاله اليفع. وفي السودان البعيد، شاعت أغنية شعبية تقول :" يا جاكلين الشعب كله حزين، كنيدي من كتلو (قتله) اسألوا جونسون المسك بدلو". وحين سُئل مالكوم إكس، الزعيم المسلم الأمريكي الأسود عن فاجعة مقتل كنيدي، كان الوحيد الذي قرأ الحادثة في إطارها الصحيح. قال: "طال عنف المجتمع الأبيض أحد أفضل أبنائه!" وكان جزاء ثاقب بصيرته وذكائه الوقّاد أن فُصل من أمّة الإسلام: ثم اغتالته الأصوليّة البيضاء المتمثلة في إدجار هوفر رئيس مكتب التحقيقات الفدرالي (إف. بي. آي) عن طريق منافسيه في "أمّة الإسلام".

وفي السودان، أعدمت نفس الأصولية العمياء محمود محمد طه لنفاذ بصيرته، وأصالة فكره، وسعة اطلاعه في أمور الدنيا والدين، وليقظته والآخرين نيام، ولقراءته للتاريخ والحاضر والمستقبل قراءة مستنيرة مستبصرة. قتلوه بتهمة الردّة في الخمس الأخير من القرن العشرين وهو ابن العقد الثامن . كيف تقتل من كتب لمدير عام اليونيسكو في بداية خمسينيات القرن الماضي مثل هذا الخطاب المدهش؟

سفير سوداني سابق
المصدر: جريدة الراية القطرية

http://www.raya.com