إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
إن الإسلام سلاح ذو حدين، إن استخدمته بفهم علمي ممدود من التوحيد، فإنه يحل جميع مشاكل الفرد والمجتمع، أما إذا استخدمته بفهم خاطئ، مقطوع الصلة بالله، فإنه يرتد عليك ويفرز من التعقيدات، وألوان الفساد ما يعجز عنه الوصف!! والشعب السوداني شعب محب للدين، ولذلك فهو يمكن أن يتعرض للتضليل بالدين، بالتلويح بالشريعة من قادة بعيدون عن التدين الحقيقي، فهم يمكنهم أن يستغلوا الدين كمطية للسلطة وللبقاء فيها لأطول فترة.. ومن هنا تبرز أهمية ترسيخ الفهم الديني الصحيح ليتسلح الشعب بالوعي الذي يمكنه من كشف أدعياء الدين، وإقصائهم من القيادة.. ومن أجل ذلك، ركزنا في هذه الحلقات على تسليط الضوء على فكرة تطوير التشريع الإسلامي، التي ننتظر أن يتم على هداها، بعث الإسلام من جديد، وقلنا إن تلك الفكرة هي البديل الإسلامي الصحيح الوحيد الجاهز، في مواجهة الهوس الديني، ولا ينقصها إلا التفاف الشعب حولها، وإلا، فلن نرى إلا الفتنة الدينية، وإدمان الفشل إذ أن الدين لا يمكن تجاوزه في السودان!!
وفي الحقيقة، لم يغب تأثير الدين عن الساحة السياسية، منذ أن بدأت البلاد تخطو نحو الاستقلال، ففي فترة الحكم الذاتي 1953م، طرحت لجنة الدستور نصا يؤسس لدستور يستند على مبادئ الشريعة الإسلامية.. ولقد اتخذ تأثير الدين أشكالا مختلفة، فيما بعد، ففي الحكم العسكري الأول 58-1964م، اتجه قادته إلى الحسم العسكري لمشكلة الجنوب باعتباره جهادا دينيا، حتى طالب بعض الجنوبيين في الخارج بحق تقرير المصير، ثم اتجهوا إلى فتح الخلاوى بالجنوب، وتأسيس المساجد، لنشر الإسلام، وقاموا بطرد بعثات التبشير المسيحي لإخلاء الساحة من المنافسة..
وفي الديمقراطية الثانية 64-1969م، بعد ثورة أكتوبر، اتفقت الأحزاب الطائفية والأخوان المسلمون والسلفيون عموما، على حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه المنتخبين من البرلمان، بحجة أنه يدعو للإلحاد، ومواقفه ضد الدين.. ثم شرعت في طرح الدستور الإسلامي حسب فهمها السلفي للشريعة، مما فاقم من مشكلة الجنوب، وقد كثف الحزب الجمهوري نشاطه لكشف مفارقة ذلك الدستور للإسلام، وأسماه الدستور الإسلامي المزيف، لأن ذلك الدستور لا يعترف بالمساواة بين الناس كقاعدة أساسية له، فأقامت تلك الأحزاب، في إطار الرد على الأستاذ محمود، محكمة الردة عام 1968م لمصادرة حقه الأساسي حرية التعبير.. وقد وصلت محاولة إجازة الدستور الإسلامي المزيف، مرحلة القراءة الثالثة، في الجمعية التأسيسية إلا أن قيام انقلاب مايو، أوقف هذه المحاولة ودخلت البلاد في مرحلة حكم عسكري..
وفي الربع الأخير من فترة مايو، لجأ نميري إلى تبني طرح الشريعة، في الدستور الإسلامي المزيف الذي أوضحنا أنه انقلب عليه، وأوقفه عام 1969م، في مسابقة لجماعة لأخوان المسلمين التي كانت تضغط لاحتواء نظامه، من الداخل بحجة تعديل القوانين لتنسجم مع الشريعة.. فأعلن نميري قوانين سبتمبر عام 1983م، ليفوت الفرصة عليهم، حتى لا ينجحوا في خطتهم المكشوفة، فيستغلوا الدين لإضعاف النظام، ثم ليطيل بقاءه هو في السلطة، مما أدى إلى تصعيد الحرب في الجنوب وتأسيس الحركة الشعبية لتحرير السودان..
وعندما انتهت مايو، بالانتفاضة الشعبية فشلت الحكومة الانتقالية عام 1985م، وجميع حكومات فترة الديمقراطية الثالثة، في إلغاء قوانين سبتمبر 1983م، والسبب هو الحساسية الدينية المتعلقة بتلك القوانين.. فالأحزاب الطائفية "الأمة والاتحادي" وأمثالها، لا يملكون فهما للإسلام يجنبهم الوقوع في نفس الفتنة التي وقعت فيها مايو، ولذلك عجزوا عن إلغاء قوانين سبتمبر إلى أن قام انقلاب الجبهة الإسلامية القومية عام 1989م، ليفوت فرصة حل مشكلة الجنوب بتوحيد السودان تحت دستور علماني، حسب ما كان متوقعا من اتفاقية الميرغني – قرنق 1988م.. فتصعدت مشكلة الجنوب وتحولت الحرب إلى جهاد ديني حسب زعم السلطة ضد المتمردين.. وكانت المحصلة النهائية لكل ذلك، انفصال الجنوب، والسبب الأساسي لهذا الكم الهائل من التداعيات المؤسفة هو غياب الفهم الإسلامي المستنير..
إن تحليل الأزمة بأنها محاولات لاستغلال الدين للسلطة فقط، لا يكفي، لأنه غير علمي، فالمعتقدات الدينية متعمقة في النفوس، ولا يمكن تجاوزها عند البحث عن حلول لمشاكل الفرد والمجتمع..
فإذا كان الدين مؤثرا في سير الأحداث لهذه الدرجة، وحاضرا على الدوام، بهذه القوة في جميع مراحل الحكم الوطني، فمن البديهي أن أي بديل للهوس الديني لا ينبثق من الدين نفسه، لن يجد قبولا عند الشعب.. ولذلك فإن من يتبنون العلمانية كفلسفة بديلة للدين أو يطرحون الدستور العلماني في مواجهة الشريعة، إنما اختاروا أن يتركوا ميدان الدين خاليا للهوس، فالشعب لن يترك معتقداته التي ينتظر منها صلاح دنياه وأخراه، ويستبدلها بالعلمانية الواضحة البطلان، ولذلك فإن في اتجاههم العلماني هذا، خيانة للشعب وهروب من الميدان..
إن من يدعون إلى الرجوع إلى الأوضاع التي كانت سائدة بعد الاستعمار، كدستور 56 المعدل 64 أو حتى دستور 1973م، في عهد مايو باعتبارها دساتير علمانية، نجحت في الحفاظ على وحدة البلاد، إنما يهربون من مواجهة قضية الدين، التي باتت تلح، وتصعد إلى السطح في كل الدول الإسلامية، وليس أدل على ذلك من الثورات التي حدثت في المنطقة العربية طيلة العام المنصرم 2011م، ثم لم تنجب عبر الانتخاب سوى السلفيين الذين يظن بهم التدين.. وعندما سئل الأستاذ محمود، ومعركة الدستور الإسلامي المزيف في قمتها عام 1969م، سئل: هل أنت مع إعادة العمل بدستور 56 المعدل 64 ؟؟ أجاب: لا، ثم ذهب يفصل في ضرورة العمل بالدستور الإنساني المسنود من أصول القرآن..
يضاف إلى ذلك، نحن نعلم أن المستقبل لا يمكن التنبؤ به من رصد الماضي كما فعل ماركس، والتطور لا يرجع إلى الخلف لإيجاد الحلول، وإنما تنبثق الحلول الجديدة من الصراع، ولو كان الرجوع إلى الخلف هو المنهج، لما برزت الأمم المتحدة ومواثيق حقوق الإنسان ولما ظهرت الدساتير العلمانية نفسها..
دعونا، ننظر في تقييم الدعوة الإسلامية الجديدة، للعلمانية كفلسفة للحياة، فقد جاء في ديباجة الدستور بقلم الأستاذ محمود محمد طه ما يلي:
(يسمي كارل ماركس اشتراكيته: الاشتراكية العلمية.. في حين يسمي اشتراكية روبرت أوين: الاشتراكية المثالية.. والناس يتحدثون، في الوقت الحاضر، عن العلمية بتأثر كبير برأي كارل ماركس عن اشتراكيته، ولكنهم غير دقيقين في هذه التسمية.. اشتراكية ماركس علمانية، وليست علمية.. وكذلك كل ما يتحدث عنه الناس الآن، إنما هو علماني، وليس علميا..
الفرق بين العلمية، والعلمانية، أن العلمانية علم ناقص.. وتجيء العبارة عنه في القرآن: "وعد الله ، لا يخلف الله وعده، ولكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، وهم، عن الآخرة، هم غافلون!!".. سماه، ونفي عنه، أنه علم.. قال "لا يعلمون" ثم قال "يعلمون ظاهرا ".. وهذا الظاهر إنما هو المادة كما تتبادر إلى حواسنا.. العلمانية تتعلق بالحياة الدنيا - الحياة السفلى - حياة الحيوان، وتغفل عن الحياة الأخرى.. الحياة العليا، وهي حياة الإنسان..
كارل ماركس ينكر الغيب، وينكر الحياة الأخرى، وتتعلق اشتراكيته بالسعي في الحياة الدنيا، وفي، ظاهرها، ومن ثم فهو علماني، وليس عالما..
العالم هو الذي ينسق بين الحياة الدنيا، والحياة الأخرى، على غرار العبارة النبوية: "الدنيا مطية الآخرة".. العالم ذكي، والعلماني شاطر.. والفرق بين الذكي والشاطر أن الذكي يملك ميزان القيمة، ويقيم الوزن بالقسط.. والشاطر لا يملك هذا الميزان، فهو يخبط كحاطب ليل.. الذكي يعرف الوسائل والغايات، وينسق بينها، فلا يصرف، في سبيل الوسيلة، من الجهد، ما ينبغي أن يصرف في تحصيل الغاية.. والشاطر قد يفني حياته في سبيل الوسيلة، لأنه لا يملك التمييز الدقيق بين الوسائل، والغايات.. الدنيا وسيلة الآخرة، فيجب أن تنظم بذكاء، وبعلمية لتتأدّى إلى الغاية المرجوة منها.. ولا يستطيع ذلك العلمانيون وإنما يستطيعه العلماء..).. انتهى..
الشاهد في الأمر، إن المواثيق التي تكتب هذه الأيام، لتضع برنامج ما بعد الإنقاذ، بكل أسف ليس في ذهن موقعيها، خلاف العلمانية !! وهذا الاتجاه حتما، سيضيع على الشعب ثورته ويدخل البلاد في تجربة حكم فاشلة، ما لم يتفطن الناس إلى ضرورة الانطلاق من الدين وتوفير السند الروحي لبرامجهم المرتقبة..
لقد كان الأستاذ محمود يبشر بأن السودان، بما يملك من فكرة البعث الإسلامي المرتقب، سيقوم بتصحيح الفهم الذي يحاول إقحام الشريعة السلفية، في الواقع المعاصر، وذلك بتوضيح أن الدين إنما يبعث بالسنة وليس بالشريعة.. وكان يقول إذا حلت البلدان الأخرى مشاكلها بغير الدين، فلن تنحل مشاكل السودان إلا بالدين، فكل شعب له دور مرسوم لا يمكنه تخطيه من ناحية التوحيد.. فإذا كان الأمر بهذا الوضوح، أليس من واجبنا أن نلتزم هذه الدعوة في أنفسنا، وأن نتصدى بشجاعة لنشرها كما كان العهد إبان الوجود الحسي لمؤسسها !!؟؟