إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
أشرنا في الحلقة الأولى إلى تبرير السيد رئيس الجمهورية، للضائقة الاقتصادية بأن السبب فيها هو انفصال الجنوب، وخلصنا إلى أن السبب الجوهري وراء انفصال الجنوب إنما يتركز في تبنى السيد الرئيس لأفكار الأخوان المسلمين، التي ترفض الحكم الدستوري الذي يساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات، وبالتالي فهو المسئول الأول عن كل الفشل الماثل في إدارة البلاد، خاصة الأزمة الاقتصادية.. والسيد الرئيس يشاركنا القناعة بأن الضائقة الاقتصادية، تعتبر مبررا كافيا لتغيير السلطة تغييرا جذريا بأي سبيل، فهو قد دبر انقلابا كاملا على النظام الديمقراطي انطلاقا من هذه القناعة الراسخة!!
هل من دليل على هذا القول !!؟؟
إذن فلنستمع إلى خطابه الأول في 30 يونيو 1989م، وهو يحدثنا عن أسباب الاستيلاء على السلطة بالانقلاب العسكري:
(مواطني الشرفاء :-
لقد تدهور الوضع الاقتصادي بصورة مزرية !! وفشلت كل السياسات الرعناء في إيقاف هذا التدهور ناهيك عن تحقيق أي قدر من التنمية !! فازدادت حدة التضخم !! وارتفعت الأسعار بصورة لم يسبق لها مثيل !! واستحال على المواطنين الحصول على ضرورياتهم، إما لانعدامها أو لارتفاع أسعارها، مما جعل كثيرا من أبناء الوطن يعيشون على حافة المجاعة !! وقد أدي هذا التدهور الاقتصادي إلى خراب المؤسسات العامة وانهيار الخدمات الصحية والتعليمية وتعطل الإنتاج !!
وبعد أن كنا نطمح أن تكون بلادنا سلة غذاء العالم، أصبحنا أمة متسولة تستجدى غذائها وضرورياتها من خارج الحدود!! وانشغل المسئولون بجمع المال الحرام!! حتى عم الفساد كل مرافق الدولة!! وكل هذا مع استشراء الفساد، والتهريب، والسوق الأسود مما جعل الطبقات الاجتماعية من الطفيليين تزداد ثراء يوما بعد يوم بسبب فساد المسئولين وتهاونهم في ضبط الحياة والنظام !!
أيها المواطنين الشرفاء :
قد امتدت يد الحزبية والفساد السياسي إلى الشرفاء فشردتهم تحت مظلة الصالح العام !! مما أدى إلى انهيار الخدمة المدنية وقد أصبح الولاء الحزبي والمحسوبية والفساد سببا في تقدم الفاشلين في قيادة الخدمة المدنية!! فأفسدوا العمل الإداري وضاعت على أيديهم هيبة الحكم وسلطات الدولة ومصالح القطاع العام!!)..انتهى..
إن هذه المرافعة، في جانب الاقتصاد تعبر عن واقعنا اليوم بأكثر مما تعبر عن الأوضاع إبان فترة الديمقراطية الثالثة!! فلماذا يرفض السيد الرئيس أن يعبر المواطنون عن معاناتهم بالتظاهر المشروع إذا كانت هذه قناعاته !! ؟؟
أما كان الأفضل له أن يكون صادقا مع نفسه ويعترف بالفشل، ومن ثم يعمل على إعادة السلطة إلى الشعب في ديمقراطية رابعة بدل القمع !!؟؟
إن الوضع الاقتصادي، اليوم، متأزم من جميع النواحي، بصورة لم تحدث في تاريخ السودان.. فالعجز في الموازنة بلغ أكثر من 60%، وارتفعت أسعار الضروريات بدرجة لم تحدث قط، لا في فترة الديمقراطية ولا في فترة الانقلابات العسكرية!! فأردب الذرة الفتريتة على سبيل المثال بلغ ولأول مرة، حوالي 400 جنيه !!
يضاف إلى هذا، أن النظام مقاطع من غالبية المجتمع الدولي، ورئيسه مطارد دوليا ولذلك فإن فرصة تدارك الوضع الاقتصادي بالإصلاح العاجل تكاد تكون معدومة، والسبيل المتاح الذي اتجهت إليه الدولة، هو رفع الدعم عن السلع الأساسية كالمحروقات، وزيادة الضرائب ورسوم الجمارك مما يؤزم الوضع أكثر بإضعاف الحركة التجارية، وتعطيل عجلة الإنتاج، ومردود كل ذلك مزيدا من المعاناة لدى عامة الشعب.. هذا إلى جملة تدابير أخرى ترمي إلى خفض الإنفاق الحكومي..
هناك تساؤل موضوعي، بارز أمامنا ولا يمكننا تجاوزه وهو ما هو البديل عن الإنقاذ !!؟؟
نحن نعلم أن أحزابنا التقليدية، الأمة والاتحادي إنما هي أحزاب طائفية لم تطرح مذهبية للحكم في يوم من الأيام، وعندما تكون البلاد في تجربة الديمقراطية، فإن برنامج كل حزب هو ألا ينتصر الحزب الآخر، في دوامة صراع على السلطة لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد.. وهي عبر تاريخها، كانت تتحدث عن تطبيق الشريعة من غير تطوير، كما تفعل حركة الأخوان المسلمين، ولا فرق بين جميع الأحزاب التقليدية، الطائفية منها والعقائدية السلفية من هذه الناحية، فالجمهورية الإسلامية عند الاتحاديين، وإعادة المهدية عند الأمة، والشريعة عند البقية !!
أما المؤتمر الشعبي، فإنما يسعي إلى إسقاط النظام، بأي سبيل لينفس قادته الحقد الدفين الذي يعتمل في دخيلة أنفسهم، تجاه زملائهم الذين طردوهم من السلطة، حتى إن د. الترابي قال إنه لم يعد يؤمن بنظرية عدم التدخل في شئون الدول، في محاولة لإنهاء الإنقاذ ومحوها من الوجود، بالتدخل الدولي!! فهم مسئولون بنفس القدر إن لم يكن أكثر، عن كل ما جرى خلال عهد الإنقاذ!! ولذلك تجدهم يطرحون كل ما تطلبه المعارضة، ويتحدثون عن الحكم الدستوري والحريات..الخ.. وهم لا يملكون سندا من الإسلام، لهذه المبادئ الراقية، فكأن معارضة النظام صارت عندهم، هي السند لكل فكرة يطرحونها، يظن بها إمكانية أن تجمع الناس للثورة على النظام !!
إن الخروج من هذه الدائرة المغلقة، لن يتحقق ما لم نؤسس الحكم الدستوري، استنادا على أصول القرآن، على النحو المطروح في مؤلفات الأستاذ محمود محمد طه، فالشريعة الإسلامية قد كانت مرحلية خدمت غرضها حتى استنفدته، ولم تعد صالحة لمعالجة قضايا المجتمع المعاصر، لا في السياسة ولا في الاقتصاد.. وتطوير الشريعة في الفكرة الجمهورية ليس قفزا عبر الفضاء، ولا هو قول بالرأي الفج وإنما هو انتقال من نص "مدني" قامت عليه الشريعة، وخدم غرضه تماما، إلى نص "مكي" مدخر إلى المستقبل حيث يرتفع المجتمع من الوصاية إلى المسئولية.. فالآيات المكية هي الأصول والآيات المدنية هي الفروع المرحلية.. والتطوير إنما يقوم في الأمور المتعلقة بتحولات المجتمع البشري مع الزمن، كالسياسة والاقتصاد والاجتماع.. أما العبادات والتشريعات الأساسية كالحدود والقصاص فقائمة كما هي إذ أنها مأخوذة من المعرفة بحقيقة النفس البشرية وحاجتها إلى الترقية، وليس من العقيدة.. فالسياسة في الشريعة المطورة، إنما تقوم على المساواة التامة بين الناس، في الديمقراطية، أما الاقتصاد فينظم على الاشتراكية، وهي في بداية الطريق اتجاه لإعطاء الناس حقوق تكفل لهم الحياة الكريمة، وتعفهم عن ذل السؤال، وتتطور باستمرار نحو المساواة التامة في الدخول..
إن الاتجاه الذي أشار إليه، السيد والي الخرطوم من أنه سيعمل على، مساعدة الفقراء وتوجيهه بدفع نصيب الولاية، مثلا، من أبراج واحة الخرطوم ومساعدة الفقراء بدعم 750 ألف أسرة بدلا عن 500 ألف أسرة ، فإن هذا العمل يدخل في نطاق الصدقة ولا يعطي الفقراء حق، وإنما صدقة وأيضا يتم عن طريق شهادة فقر من اللجنة الشعبية!! وهي ذلة للفقير وكشف حال، فقد جاء في الحديث: "الصدقة أوساخ الناس وهي لا تجوز لمحمد ولا لآل محمد" والنبي الكريم كان يجد التمرة على الأرض فلا يأكلها ويقول: "لولا أني خشيت أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها"!! فنظام الصدقات المشرع في الشريعة السلفية ليس أصلا في الإسلام وإنما هو فرع، أملته ظروف مرحلية، والتشريع المطلوب اليوم هو بعث السنة، المتمثلة في عمل النبي في خاصة نفسه، لتكون شريعة عامة للمجتمع، ونسخ الشريعة السلفية، وهذا في جانب تنظيم الاقتصاد..
لقد وظف الأستاذ محمود محمد طه حياته، للتبشير بفكرة البعث الإسلامي الجديدة، تحت اسم الدعوة الإسلامية الجديدة، وبذل جهدا مدهشا، في نشرها وتوصيلها إلى السودانيين، وكان يرسل الوفد تلو الوفد من تلاميذه الجمهوريين، إلى جميع أنحاء السودان الموحد، ولم يستثن مدينة أو قرية من هذا البرنامج .. وكان يحذر باستمرار، من مغبة إقحام الشريعة السلفية في الواقع المعاصر، ويقول أن ذلك الاتجاه مخالف لأصول الإسلام، وسيسوقنا إلى ضياع حقيقي.. وقال في محاضرة بعنوان "ضرورة الحقوق الأساسية وكيفية حمايتها في الدستور الدائم للبلاد" بتاريخ 26/2/1969م بدار الحزب الجمهوري بأمدرمان، قال ما معناه: قد يحتاج الشعب السوداني إلى تجربتين، تجربة شائهة في تطبيق الشريعة، ويحدث فساد لا حد له، فينفر منها ويتجه إلى رفض الدين فيدخل في تجربة أخرى منفرة أيضا، لكن إذا برزوا دعاة وضحوا فكرة البعث الإسلامي الصحيحة، فإن هذه الفكرة ستقطع الطريق على هذه التجارب الفاشلة..
وختاما نهديكم عبارة الأستاذ محمود من كتابه "تطوير شريعة الأحوال الشخصية":
هل تريدون الحق !؟ إذن فاسمعوا !!
لا كرامة لمطلق حي على هذا الكوكب إلا ببعث أصول الإسلام.. إلا ببعث آيات الأصول التي كانت منسوخة، ونسخ آيات الفروع التي كانت ناسخة في القرن السابع.. فليستيقن هذا رجال المسلمين ونساؤهم..