إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
مِهنيةُّ "الجُّزَليِّ" وَمركزيةُ "أم درمان"..
في نقد حكم "الإعلام" على الأستاذ محمود محمد طه بـ"الرِّدة"
عادل حسون
"أنا" الجزلي.. "أنا" أم درمان
بعد منتصف ليلة 4-5 نوفمبر الجاري بث التلفزيون القومي حلقة من برنامج (أسماء في حياتنا) الذي يقدمه الإعلامي الكبير الأستاذ عمر الجزلي، استضاف خلالها القيادي المعروف في الحركة الإسلامية السودانية، الشيخ علي عبد الله يعقوب. وبطبيعة حال البرنامج، فقد كان الحديث منساباً كيفما اتفق، ذكريات وحكاوي وطرف، عرض صور فوتوغرافية وبعض شهادات من مجيلي ضيف البرنامج ومعارفه وأصدقاءه بحقه، فكان مساره وكأنه محاولة للحديث الجاد الموحي بدور ما لضيف البرنامج في تاريخنا السياسي والاجتماعي. متعرضاً للمحات من حياة الضيف المحاوَّر وروايته هو لتاريخ بلادنا في العقود الماضية دون أن يستوقفه المحاوِّر مصححاً وطارحاً للروايات الأخرى لذات التاريخ بالمضاهاة والمقارنة والتثبت، بقصد الوصول إلى الرواية المرجحة حال تباين قراءات واقعات السنين والحقب الماضية، وما أكثرها في واقعنا التاريخي، وذلك في المحصلة لفائدة المشاهد والمستمع أولاً وأخيراً. فيتحول البرنامج الإعلامي دون أن يشعر المتحدثين إلى جلسة (ناصية) لضيوف، محاوَّر وشهود، يجلس معهم (ود) أم درمان، الأستاذ الجزلي، في استوديوهات التليفزيون، الذي أيضاً محله أم درمان بأمر الواقع، فيجري طق الحنك متسلسلاً دونما رادع من ضمير وأخلاق ومسئولية المهنة الصحفية والإعلامية التي يقع عاتقها على أستاذنا عمر الجزلي، أولاً وأخيراً. وبعيداً عن (الأنا) الذاتية، إن كانت (أنا) عمر الجزلي أو (أنا) أم درمان، (الأنا) التي عكفنا على صنمها عابدون طيلة عقود طويلة، إلا أن الحديث في برنامج (أسماء في حياتنا) لا يأتي من فهم السائل والمجيب لمصلحة المتلقي المشاهد والمستمع- تلفزيون السودان يبث منتشرا في ذات الآن على إحدى موجات الراديو الاف. أم- حيث أن نمط هذا البرنامج الإعلامي لم يتغير طيلة سنوات مديدة من عمره، فالحقيقة في هذا البرنامج على ما أحصيت طيلة عشر سنوات، تصب دائماً من مجرىً واحد وإلى وجهة معينة بذاتها تنح لتمجيد المحاوَّر المستضاف في غالب الأحيان بعلة أساسية هي عدم مواجهته بالروايات المتباينة عن ذات الوقائع التاريخية. ففي الفرض العلمي لعمل البرنامج الإعلامي (أسماء في حياتنا)، بوصفه محاولة جادة للتأريخ السياسي والاجتماعي لوطننا السودان، أن يأتي شخص ما، من المستضافين (الأسماء)، أي (الأعلام)، ليروي على مدى حلقات، فصول تاريخنا التي أثر وتأثر بها شخصه. ومن الرواية، نعرف الجديد الحقيق- إذ أن من يكتم الشهادة آثمٌ قلبه كما جاء في القرآن الحكيم- من خلفيات الوقائع أو المعلومات التي يمكن أن تقدم تفسيراً جديداً للتاريخ، يزيل ما غمض من أحداث أو يسلِّط الضوء على أخر أبقيت طي الكتمان. بيد أن ذلك وحده لا يكفي، إذ ومع ذلك فلا ملجأ من تداخل المحاوِّر للعب دوره الذي يتقاضى عليه أجر عرقه في تبيان تلك الحقيقة المكتومة أو التفسير الجديد. هكذا هي الصورة المفترضة للبرنامج التليفزيوني الذي يسِّمه المشاغبين من أولاد أم درمان بـ(أسماك في حياتنا)، ككناية رفض مستعارة مكنياً في وصفها لـ(النخبة) التي اصطفت ضيفة على البرنامج على مدى الأيام والسنين. وكأنها (أسماء) فرضت جبراً على الذاكرة الجماعية للناس، من حلفا لنمولي ومن طوكر للجنينة فيما سبق، من خلال برنامج الجزلي. إذ من خلال البرنامج يستعرض كلٌ عضلات كسبه وإدعاءات مجده، بينما قلما يتداخل المحاوِّر، كما في مثال هذه الحلقة محل نقدنا هذا، للتوصل إلى الحقيقة التاريخية المطوية المطموسة، من خلال مضاهاة رواية الضيف بالوقائع المجردة، وكذا مقارنتها بروايات أعلام آخرين أو مراقبين متابعين. والأهم هنا، لهو تصحيح الأخطاء المعلومة بالضرورة للكافة،كما في مثالنا الذي سنتناوله بالتفصيل تاليا. ولهذا رأيت، الأستاذ الجزلي- وربما سواه من منشدي نشيد مجد أم درمان الفردانِ في رأيي- وقد حرف حوار التحقيق التليفزيوني المفضي للحقيقة وسط أمواج الروايات المتباينة عن ذات الوقائع، إلى مجارٍ فرعية، تخدم الـ(أنا) الخاصة بعمر الجزلي، وهي (أنا) أم درمان بالتطابق في تقديري أيضاً، (أنا) المركزية الفردية التي تنفي الحقائق وتطمس الوقائع وتحصد الخطأ والخطيئة معاً. لنخلص بالنهاية إلى محض قهقهات و (ونسات ساي)، لا قيمة تاريخية علمية لها في خاتمة المطاف، سوى أثرها الإيجابي في نفخ ذات أم درمان وتعبيرات نخبتها المتمركزة المهيمنة على وجدان وتعبير (سودان) المليون ميل مربع الذي ألفناه، إن قصد الأستاذ عمر الجزلي أو لم يقصد. ولئن كان حكمنا هنا للوهلة الأولى معمماً، إلا أنه التفسير الأصح فيما يبدو على وجه الظن، كما أنه يتبدى على وجه الشك، فيما إذا سقنا المثال بالتطبيق على الحلقة المشار إليها على ما سنرى بعد قليل. وكذا حال دفعنا بالتساؤل، أن كيف سوغ لأبناء أم درمان، هم ذاتهم، أن أطلقوا تلك التسمية المكنية الساخرة (أسماك في حياتنا) على احد برامج (مركزوية) أم درمان وتعميد نخبتها التي سبق ووصمها أحد أبناء أم درمان ذاتها، د. منصور خالد، بـ(إدمان الفشل)، كأسماءً في حياتنا.
"عَلم" مِن رفاعةَ.. "أسم" في حياتنا
كان طرفا الحوار في تلك الحلقة التليفزيونية المتجاوزة للمعقول جانيين والأستاذ المفكر الراحل محمود محمد طه، هو الضحية. ضحية اغتياله مادياً، بإعادة محاكمته بتهمة الردة عن دين الإسلام الخاتم في برنامج الأستاذ عمر الجزلي بعدما سبق وبرأه القضاء السوداني الموقر في حكم شهير له منتصف الثمانينات الماضية. وضحية اغتياله معنوياً، حين اكتفى المتحدثان بترديد بلاغات سلطة مايو الأمنية التي كانت تنشرها وسط عوام السودانيين في مجتمع الثمانينات المثقل بالإحباط والمجاعات والدهشة والعنفوان الذي غدا ثورة شعبية عارمة أطاحت بالنظام ورأسه فيما بعد. كان منطلق تلك الأباطيل بحق الأستاذ محمود محمد طه، وهي التي أبطلها قضاءنا العتيق، أن المجني عليه الأستاذ محمود، كافرٌ زنديق ولا يصلي وجاء بأمور كفرية تخرجه عن الملة المسلمة. وهذا بالتوازي مع إغفال الإشارة إلى دوره الوطني المشهود في مناهضة الاستعمار الثنائي ودوره التنويري المسبوق في العهد الوطني. حسناً لنحاول هنا، سوية، تفكيك معادلة الإدانة الجديدة وأطرافها الجناة الأستاذ الجزلي وضيفه، واحدهم فاعلٌ رئيس- كما سنرى- وآخر متشارك بالمعاونة والاتفاق والتستر معاً. وأما الثالث فهو المجني عليه، وأما المحل بمقتضى ما جرى، فهو برنامج (أسماء في حياتنا) الذي خالف نواميس العدالة المهنية ومقتضيات الرسالة الصحفية، ويا لأسف بمدى سنين عمره في ذاكرتنا الجماعية كسودانيين. الأستاذ عمر الجزلي، فمعروف كإذاعي وتليفزيوني من الجيل الرابع والثالث على التوالي. وأما الشيخ علي عبد الله يعقوب، فيعرف كأحد أبكار رموز الحركة الإسلامية من النخبة التقليدية، إذ تلقى تعليمه دون العالي في الخلوة بمسقط رأسه نواحي شرق النيل، ثم معهد أم درمان الديني، ومنه تلقى تعليمه العالي في كلية علوم الدين بجامعة القاهرة بمصر. وفي حين لم يبرز الشيخ يعقوب في صفوف معارضة الإسلاميين لنظام مايو في النصف الأول من السبعينات، نشط الشيخ علي يعقوب بعد المصالحة الوطنية في 7/ 7/ 1977م، التي عمَّدت تحالف الإخوان المسلمين وحزب الأمة وجزءا من الاتحاديين، مع الرئيس جعفر نميري ونظامه، كأحد أبرز نتائجها. عرفت أبرز أعمال الشيخ علي عبد الله، وكانت محورا للحلقة التلفزيونية المشار إليها محل مقالنا، استقطابه لسمو الأمير الملكي السعودي محمد الفيصل آل سعود، في النصف الأخير من السبعينات، لإنشاء بنك فيصل الإسلامي السوداني، كأول بنك إسلامي في السودان بالتناغم مع تحول الرئيس نميري والنظام المايوي إلى المعسكر الغربي والدول العربية المعتدلة، وفي مقدمها المملكة العربية السعودية، في المرحلة التي أرخت بحقبة، هجرة الأموال (البترودولارية)، من دول الخليج العربية لإنشاء استثمارات زراعية ومصرفية وصناعية في السودان في تلك السنوات. لكن الأستاذ محمود محمد طه، الذي طمست سيرته (النورانية) بفعل فاعلٍ لا ريب، ليس هو الأستاذ عمر الجزلي وحده الفاعل- حيث أن المؤامرة ضده كانت أكبر وأكثر خبثاً حال محاصرته في حريته ومحاكمته ومعاقبته بالإدانة وتنفيذ حكمها في أقل من ستة أشهر، إذ ضمت أنظمة عربية مجاورة وأحزاباً سياسية وأفرادا من المبرزين-، وعلى كلٍ، يعرف الأستاذ محمود، ضمن المروي المحايد، كمفكر غير تقليدي وسط نخبة أم درمان، جاز أن يطلق عليه وصف المفكر المجدد في فقه الأحوال الشخصية، في الزواج مثلاً، وفي علوم الصلاة والزكاة وسواها من أس العبادات الإسلامية التي أفنى عمره المديد في التبشير بها وسط غمار السودانيين ونخبهم. وهو (الجهاد) الذي أطره في كتابه "الرسالة الثانية في الإسلام"، وكتاب "الصلاة" إضافة إلى عشرات الكتيبات الصغيرة. فأضحى المدرك عن سيرته لدى عموم الناس، أنه رجل دين مشعوذ، كافر لا يصلي، أنكر على الناس إسلامهم الذي ألفوه- أو بعبارة الشيخ علي عبد الله يعقوب، التي قالها في برنامج الجزلي (جاب إسلام براه)- حوكم قضائياً بالردة وأعدم من على مشنقة سجن كوبر ونقل جثمانه بهليوكوبتر عسكرية وألقي في البحر الأحمر، وما إلى ذلك من روايات وترهات بثتها سلطات أمن الدولة البائد في عهد الرئيس النميري، بالتزامن مع التوجه الرسمي لتنظيم الاتحاد الاشتراكي وزعيمه الرئيس القائد وحلفاءه الإسلاميين الحركيين محلياً، وإقليمياً من الجوار النفطي وكذا الشقيقة الكبرى جارتنا الشمالية التي تواطأت على الكبر، للقضاء عليه وعلى فكره (الخطير) بالنسبة للنظام ومن يقف من خلفه مسانداً، من خصوم الأستاذ محمود محمد طه في كل مكان محلياً وخارجياً. وإذ انتمى الأستاذ محمود "ثقافياً" إلى نخبة أم درمان- وأدفع هنا بتلقيه التعليم العالي بمدرسة الهندسة بكلية غوردون التذكارية كغيره من مجيليه أبناء النخبة ورموزها- وهو المولود في مدينة رفاعة حاضرة البطانة شرق وسط السودان، إلا أن بعض فكره السياسي والديني، كان مناقضاً لمركزية أم درمان، المدينة التي قضى فيها جل حياته و"أكرمته" أخيراً، بأن حكمت عليه في خريف عمره، إحدى محاكمها للطوارئ بالرقم (4) "جنايات أم درمان" بتجاوز المألوف، فقضت عليه التي تليها "محكمة الاستئناف" من ثم بعقوبة الإعدام شنقاً حتى الموت. أم درمان المدينة التي كان فكر الأستاذ محمود محمد طه، الذي دعا به تحت سماءها وحلقت حروف كلمه المنار بين ثنايا هواءها، أضحى هو وفكره ودعواه مهدداً لها ولمركزيتها المدمرة للاتحاد القومي السوداني المتنزه عن أية روح شمولية، ذلك الذي يحفظ السودان مليوناً من الأميال المربعة. أدلل هنا بطرحه المثير للاهتمام وموقفه السياسي الراشد مما كان يعرف بمشكلة جنوب السودان، وكذا رأيه المدون في الطائفية وجبهتي الشيوعيين السودانيين والإخوان المسلمين، ومعارضته القديمة، من قبل نيل السودان لاستقلاله عن الحكم الثنائي الانجليزي- المصري، لتياري الاتحاديين والاستقلاليين. إذ كان الأستاذ محمود محمد طه، في فكره ودعوته، نسيج وحده، عجيبٌ فريد، فهو الداعي على خلاف كل الفرق والمذاهب، إلى وجهة نهائية- أظنها- محببةٌ لكل من نطق بشهادة التوحيد -لا اله إلا الله- إذ وضع هدفاً غائياً لفكره عنونه في إتباع النهج المحمدي، واقتداء منهاج رسول الله، محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. أفلا يستحق محمود، بعد كل هذا، أن يغدو أسماً في حياتنا؟.
هادم اللذات.. هل أخاف محمودا؟
قد لا يغب عن فطنة كل من شاهد تلك الحلقة التليفزيونية العجيبة التقرير والأحكام، أن المتحدثين، المحاوَّر والمحاوِّر، لم يواريا مظهر التشفي لجريمة إعدام ذلك الشيخ الطاعن في السن، بقوانين طوارئ عيبت مشروعيتها بحكم قضاءٍ أعلى، وحددت إجراءاتها بالفاسدة بداية، وبطلت أحكامها فسبب البطلان بطلاناً مطلقاً لا ينتج أثراً أو يبنى عليه حقٌ. هذه الرغبة الآثمة في التشفي، تبدت بوضوح في التأويل المنحرف والتزيد الخاطئ في قول الأستاذ عمر الجزلي، لمحاوره الشيخ علي عبد الله يعقوب، الذي قدم بقوله أن "محمود مثل أمام القضاء بجريرة مسئوليته عن الفكر المرتد.. فمحمود جاء بإسلام جديد غير الذي نعرفه"،.. قوله -أي الجزلي-.. "أيوا.. تعرض لمحاكمة وحوكم من خمسة قضاة". أقول رغبة تشفي يرجح إثمها، لأن منطلق السيدين الجزلي ويعقوب، هي قناعة أن إعدام محمود بالشنق على مقصلة سجن كوبر حتى الموت، إنما كان العقوبة العادلة بحقه وقد جاء بإسلام غير الذي نعرفه. وأن الموت، هادم اللذات كما في بعض قول مجالس أم درمان، لهو النهاية المستحقة لمن تجرأ واجتهد وجاء بغير الذي عرفناه وأدمنا عادته. ومع أن العقوبة المؤلمة- توصف عقوبة الإعدام بالشنق في فقه الإجرام والعقاب بذلك، إذ يخنق حبل المشنقة الغليظ رقبة الإنسان حتى تتحطم السلسلة الفقارية في أعلاها عند مبتدأ الرقبة من ناحية الظهر فينقطع مجرى التنفس ودخول النفس للمحكوم المدان في برهة من الزمن يعايش فيها العذاب الشديد حتى يقضي- وكما أرادها ناقمين على الأستاذ محمود محمد طه، أبطل خطأهم وعاب قصدهم، القضاء الوطني العادل، إلا أن المتحدثين في البرنامج التليفزيوني بعد نحو ربع قرن من بطلان الإدانة والعقوبة والمحاكمة بأثر رجعي، ظنا أيضاً بأنها العقوبة المناسبة العادلة، فتبدت نغمة التشفي تنساب فحيحاً من محاورتهما. ومن عجبٍ، فما كان ينظر لنتيجتها المرجحة- أي الموت- المجني عليه نفسه، الأستاذ محمود محمد طه، من هذه الزاوية الضحلة، بل من أخرى عميقة الوصف، مشعة بالنور وتختلف بالكلية عن الذي ألفناه في ثقافة أم درمان المركزية عن الموت بوصفه "هادم اللذات". هذه الزاوية الإيمانية الموحِّدة غير المألوفة، تجعل مَن حاكموه وأدانوه ونفذوا العقوبة لفي عجبٍ من أمرهم شديد، من فشل النتيجة التي اتجهت إليها إرادتهم وانعقد إليها سابق قصدهم وتدبيرهم. ففي قولٌ مثبتٌ عن الأستاذ محمود محمد طه، ورد في إحدى محاضراته الدعوية بمدينة رفاعة منتصف سنوات السبعينيات، قوله "أنه لا ينبغي على المؤمن أن يخاف الموت.. إذ أن الموت في حقيقته هو ميلادٌ في حيزٌ جديد.. تكون فيه حياتنا أكمل وأتم.. وذلك لقربنا من ربَّنا.. وبالموتِ تكون فرحتنا.. حين نعلم أن به نهاية كربنا وشرنا وألمنا.. يقول الله تعالى (وكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) صدق الله العظيم.. فبهذا اليقين وحده لا نخاف من الموت فحسب، بل يكون الموتُ أحب غائبٌ إلينا". ولعلَّ كل من حاكموا محمودا، وأرادوا قتله وإخفاءه عن الحياة الدنيا من قضاة الطوارئ والاستئناف والرئيس السابق جعفر نميري الذي أيد الحكم الباطل، لم يسمعوا منه أو قرءوا عنه، هذا القول النوراني في أمر الموت هادم اللذات. وإن كنا قد فهمنا أن من حاكموا الأستاذ محمود محمد طه في أيام (مايو) مرةً، ومن وقفوا خلف الإدانة الباطلة محرضين، للوصول إليها وسرعة تنفيذ عقوبتها الظالمة، جائزةً لإذلال المجني عليه بحصد رأسه شنقاً، رغم أنف صحيح القانون السوداني والإجراءات المستقرة عرفاً وقضاء، مدانين بحكم القضاء الناسخ فيما بعد، فما بال الأستاذ عمر الجزلي وضيفه الكريم، ليأتيا بعد كل هذه السنوات الطوال لتكرار ذات الإثم الكبير، إدانة المجني عليه ومحاكمته مرةً أخرى بتهمة الردة. وبخاصة إذا ما تفكرنا في فهم أن اغتيال المجني عليه الأستاذ محمود بالشنق حتى الموت كان عن 76 سنة في يوم 18 من شهر يناير لسنة 1985م، وكان أن سقط الرئيس نميري وأركان حكمه في يوم 6 من شهر أبريل من ذات السنة، وهي 76 يوماً بحساب الأيام كبرهانٌ مبرئٌ منير من لدن ملك الملوك وأعدل العادلين.
قول الجزلي وقول يعقوب.. وما قالوا إلا ضلالا
وإذ قد يجد المتلقي، مشاهد ومستمع، لتلك الحلقة من برنامج (أسماء في حياتنا)، بتفهمٍ معقولٍ قول الشيخ علي يعقوب المار ذكره آنفا، في حق الأستاذ محمود- فقد حكا الشيخ علي في الحلقة التليفزيونية عن واقعة مناظرة بينه والمجني عليه الأستاذ محمود، بدار الأخير احتوت نقاشا فقهياً محتدما بالمقارعة الموضوعية بدأ وتتابع إلى أن انقسم جمهور النظارة إلى فريقين وفقاً لرواية يعقوب، واحدهم مآله مؤيدا حجته وعبّر عن ذلك بالتصفيق، فيما الآخر بقي على قناعته بحجة فهم محمود الصحيح للشريعة الإسلامية. وكذا في قوله الآخر في ذات الحلقة أن محموداً، كان "كافرا بلا شك"- فذلك كله لأن السيد علي يعقوب، لهو أخٌ مسلمٌ معروف، كان الأستاذ محمود وتلاميذه الإخوان الجمهوريين خصوماً ألداء له من جميع الأوجه. ولكن المتلقي سيتقبل بكثير عناء أن يكون الأستاذ عمر الجزلي، وهو إعلامي من المعلومين بالضرورة من كل مشاهد ومستمع في السودان العريض، على أسسٍ من عطاءه الثر وخبرته الطويلة التي تفوق الثلاثين عاماً على الأقل، قد انحرف عن واجب المهنية في الحياد وأساس النزاهة والصدق والأمانة المتطلبة في أي صحفي وإعلامي مبتدئ. ليأتي وينحاز بسهولة مهينة- لا بحق ذوي المجني عليه وتلاميذه وعارفي فضله، إذ هي تطال كل من نطق بشهادة أن لا إله إلا الحكم اللهُ وأن محمداً عبده ورسوله- وغير أمينة بحال، بل ومبالغٌ متزيدٌ فيها، إلى وجهة تكفير المجني عليه وإلباسه بالباطل، عصابة الردة عن دين الإسلام، رغم الحكم الأعلى اللاحق والقاضي بتبرئته. وبطبيعة الحال فذلك الحكم العلني العادل المبرئ لذمة المجني عليه الأستاذ محمود محمد طه، يفترض أن يكون معلوماً بالبداهة لدى أستاذٌ بقامة عمر الجزلي. من ذلك الانحراف الظالم، التمادي في التضليل المعبّر عنه في قول الأستاذ عمر الجزلي متداخلاً في الحلقة، "لقد استتيب محمود ورفض العودة للإسلام".. وفي قوله "أستغفر الله.. أستغفر الله" معقباً في محاورته للشيخ علي يعقوب أو توثيقه له وتأريخ الجزلي- أو أم درمان سيان عندي- للصراع الاجتماعي والسياسي في بلادنا. وعلى كلٍ، فالأستاذ عمر الجزلي وضع مشاهد التلفزيون القومي، من أم درمان، في الخيار بين أن يصدق بردة الأستاذ محمود عن دين الإسلام، الإدعاء الذي أبطله حكم القضاء الموقر، أو أن يؤمن بأن المجني عليه الأستاذ محمود، قد كفر بالدين الخاتم. إذ لا ملجأ في ذلك اليوم التعيس من شهر نوفمبر الجاري، سوى لهذين الوجهين من المرآة الواحدة، ألا وهي أن الأستاذ الجزلي، قد أنكر حكماً مقضياً به، وأعاد علناً محاكمة وإدانة المجني عليه بذات التهمة والعقوبة معاً. وقد نتوهم أن الأستاذ الجزلي ربما لم يتصل بعلمه أن هناك ثمة حكم صدر ببراءة المجني عليه المحكوم الراحل المسالم الأستاذ محمود محمد طه- وفي ذا وصفه المفكر الكبير د. منصور خالد، بالإنسان الذي من فرط مسالمته للكون والكائنات من حوله لم يحمل عصاً ليتوكأ عليها- من الإتهام والعقاب سوية. ولكن الجهل بالقانون، حسبما هو معلوماً بالبداهة، لا يمنع المسئولية المدنية والجنائية والأدبية على الجاني، على ما أستقر عليه عرفاً وقانوناً لدينا. بينما الجهل بأساسيات الإعلام في قيم النزاهة والحياد والدقة والموضوعية والأمانة والجدية، وإليه أيضاً أس توقير مؤسسات الدولة الثلاث وأعلاها القضاء، من شخصٍ يطل على الناس ويشنف آذانهم مذ نحو قارب الأربعين عاماً، كالأستاذ عمر الجزلي، لا يستفاد منه سوى بنتيجة واحدة وهي، أن العَلمَ الإعلاميُ المعروف، قتل المهنية على مذبح التلفزيون القومي بسابق قصد وكامل تربص، وارتد بحيادية ونزاهة الإعلام العام، إلى عصورٍ سحيقة من الجهل والغرض والمرض. إذ لا يفيد مما أتي به الأستاذ عمر الجزلي، من فعلٍ يعد مخالفةٌ جسيمةٌ للمهنية الأساس، من على الشاشة القومية التي لكل مواطنٍ حقٌ معلومٌ في ملكيتها، ومنهم بالدرجة الأولى ذوي المجني عليه وابنته الناشطة الحقوقية الأستاذة أسماء محمود محمد طه، سوى أنه مرض (الأنا)، والجهل بواقع ما جرى حقيقةً في صراعنا السياسي والاجتماعي في السودان. وأما الغرض فربما جوابه عند مشاهد تلفزيون السودان ومستمعيه على الأف. أم، في تلك الليلة السوداء في عمر الإعلام السوداني، وكذلك قارئ صحيفة (ألوان) الغرَّاء الذي يقرأ هذه المقالة النقدية. وحسبنا أن يدرك المتلقي مشاهدا كان أم مستمعاً أم قارئاً جرم ما جرى في حق إنسانٍ مؤمنٍ متفرد بنوره أبرأه القضاء العالي الموقر فيقرأ على روحه الطاهر الفاتحة كحقٌ للمؤمنين علينا.
"براءة" محمود
محاكمة المفكر الوطني الكبير الأستاذ محمود محمد طه بالردة مرة أخرى من خلال شاشة تلفزيون السودان وأثير الأف. أم بتوقيع الإعلامي الكبير عمر الجزلي، بعدما حوكم بالردة وأعدم شنقاً عقابا لها منتصف الثمانينات، انطوى على نقض علني لحكم المحكمة العليا المؤقرة الذي أبطل المحاكمة والحكم الصادر بحق الأستاذ محمود محمد طه وتلاميذه الأربعة، بطلاناً كاملاً، واعتبره كأن لم يكن، مع تصويبه لما حدث وتبيينه عمن هو الجاني الحقيقي ومن كان الضحية. فمن بعض نظر لما قد جاء في منطوق الحكم المبرئ وأسبابه وحيثياته وآراء القضاة الأجلاء الذين مهروه نصرةً للحق والعدالة، وهو الحكم الذي صدر عن المحكمة العليا الدائرة الدستورية، في القضية بالنمرة (م ع / ق د/ 2/ 1406هـ- 1986م) بتوقيع القضاة سعادة السيد محمد ميرغني مبروك، رئيس القضاء رئيساً للدائرة، وقضاة المحكمة العليا الذين شكلوا عضوية الدائرة، السادة، هنري رياض سكلا، فاروق أحمد إبراهيم، حنفي إبراهيم أحمد، زكي عبد الرحمن، محمد حمزة الصديق، ومحمد عبد الرحيم، في خصومة أطراف القضية وهم، أسماء محمود محمد طه، عبد اللطيف عمر حسب الله -مدعيان- /ضد/ حكومة جمهورية السودان - مدعى عليها- لنقرر مطمئنين أن القضاء السوداني المفخرة قد أجلى براءة الأستاذ محمود محمد طه بشكل ناصع لا تخدشه شائبة، فقد قرر في حكمه عن الأخطاء الموضوعية والإجرائية التي ابتلى بها اللهُ عبده محمود محمد طه حال حاكمته وإدانته وتنفيذ العقوبة بحقه أن-:،"محاكمة المواطن محمود محمد طه بجريمة سميت بجريمة الردة تعد انتهاكاً لحق المتهم الدستوري المكفول له بموجب المادة (70) من دستور عام 1973م والتي تنص على عدم جواز معاقبة أي شخص عن جريمة ما لم يكن هنالك قانون يعاقب عليها وقت ارتكابها، وهو حق أكدته المادة (7) من الدستور الانتقالي لسنة 1985م/ وأن سماع المتهم قبل إدانته وإن كان يرد في صيغة سلطة تقديرية في المادة 242 من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983م إلا أنها تأخذ شكل الإلزام عندما يكون ذلك السماع ضرورياً، ومهما كان من أمر النصوص القانونية فإن سماع المتهم قبل إدانته مبدأ أزلي لم يعد في حاجة إلى نص صريح بل تأخذ به كافة المجتمعات الإنسانية على اختلاف عناصرها وأديانها باعتبارها قاعدة مقدسة من قواعد العدالة الطبيعية/ وأن إضافة تهمة جديدة لم يتم توجيهها في مرحلة المحاكمة هو اشتطاط من المحكمة لا يكون قد وقف عند حد إغفال التقاليد القضائية التي سادت هذه البلاد عبر السنين الطويلة فحسب، وإنما يكون قد امتد إلى مخالفة النصوص الصريحة لقانون الإجراءات الجنائية الذي يحكم إجراءات التأييد المادة 238 من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983م/ وأن تعيين قاضي الموضوع كان باطلاً لعدم استيفائه لشروط المواد 20 إلى 29 شاملة من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405هـ بما يترتب عليه بطلان الحكم الصادر منه وذلك أن المادة 16 (أ) من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405هـ وإن كانت تجيز لرئيس الجمهورية السابق سلطة تكوين محاكم جنائية، إلا أنها حجبت عنه سلطة تعيين القضاة الجالسين بها/ وأن قاضي الموضوع وإن كان قد وضع المادة (3) من قانون أصول الأحكام القضائية لسنة 1983م كتهمة، إلا أنه لم يوجه صراحة تهمة الردة إلى المتهمين أمامه وإنما استخلصها انصياعاً لرغبة الرئيس السابق وذلك بأنه رغم استناده إلى نصوص قانون العقوبات وقانون أمن الدولة، فقد منح المتهمين مهلة للتوبة (الاستتابة) إلى ما قبل تنفيذ الحكم/ وأن قاضي الموضوع قد نصب من نفسه مشرعاً حينما أشار إلى تهمة تحت المادة (3) من قانون أصول الأحكام القضائية لسنة 1983م رغم أن ذلك القانون ليس بقانون عقابي ويخلو من أية نصوص تجرم أفعالاً أو تضع لها عقوبات/ وأن محكمة الموضوع رغم عدم إشارتها في الحكم الابتدائي إلى أية مستندات مرفقة بمحضر الدعوى الجنائية إلا أنه يتضح من بيان رئيس الجمهورية السابق أن محكمة الاستئناف قد قامت بدس مستندات بذلك المحضر لم تكن معروضة أمام محكمة الموضوع مما يشكل تزويراً للمحضر، وبمراجعة المستند المشار إليه وأقوال المتهمين التي أدلوا بها أمام المحكمة الجنائية لا نجد سنداً لهذه النتيجة الخطيرة التي نفذت إليها محكمة الاستئناف مما يكشف عن حقيقة واضحة هي أن المحكمة قد قررت منذ البداية أن تتصدى بحكمها لفكر المتهمين (الأستاذ محمود وتلاميذه الأربعة) وليس لما يطرح أمامها من إجراءات قامت على مواد محددة في قانوني العقوبات وأمن الدولة وأدى إلى تحريكها صدور منشور محرر في عبارات واضحة لا تقبل كثيراً من التأويل/ وأن المحكمة تكون قد أضفت على نفسها صفة تشريعية لم تكن تتمتع بها بطبيعة الحال، كما أن المحكمة وفيما انتهى إليه حكمها باستتابة المحكوم عليهم، تكون قد أوحت بأن المحكوم عليهم أدينوا بتهمة الردة بينما لم توجه إليهم تهمة كهذه في واقع الأمر/ وأن تكوين محكمة الاستئناف الجنائية بواسطة رئيس الجمهورية السابق كان إجراء غير قانوني وباطلاً إذ قصرت المادة 16 (أ) من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405هـ سلطاته في تكوين المحاكم الجنائية دون محكمة الاستئناف التي تستمد صحة تكوينها من المادة 18 من ذلك القانون/ وأن تشكيل محكمة الاستئناف الجنائية من ثلاثة قضاة كان يتعارض وصريح المادة 11 (هـ) من قانون الهيئة القضائية قاضي فرد. وأنه يترتب على تكوين وتشكيل محكمة الاستئناف على النحو السالف بيانه بطلان الحكم الصادر منها/ وأن محكمة الاستئناف التي كونها رئيس الجمهورية السابق وعين قضاتها بقرار جمهوري لم تكن مختصة بسلطة تأييد أحكام الإعدام وإنما كان الاختصاص بذلك ينعقد للمحكمة العليا وحدها عملاً بنص المادة (234) من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983م وعليه فإن تأييد رئيس الجمهورية لحكمها كان باطلاً/ وأن تنفيذ حكم الإعدام قبل تأييده من جانب المحكمة العليا يتطابق وجريمة القتل العمد لما يشكله ذلك من إهدار واضح وصريح لنص المادة (246) من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983م/ وأن تنفيذ حكم الإعدام على والد المدعية الأولى، رغم تجاوز عمره للسبعين عاماً، كان فعلاً مخالفاً لنص المادة (247) من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983م وأنه لا مجال للتجاوز عن الالتزام بتطبيق هذا النص بحجة الاستناد إلى قانون أصول الأحكام القضائية لسنة 1983م حيث أنه نص صريح لا يحتمل أي تفسير مغاير أو تأويل/ وأنه وبالرغم من أن قانون العقوبات لسنة 1983م لا يتضمن في نصوصه ما يسمى بجريمة الردة وهي جريمة إن صحت لم توجهها محكمة الموضوع إلى المواطن محمود محمد طه وإنما استحدثتها محكمة الاستئناف بالاستناد أولاً إلى قانون أصول الأحكام القضائية لسنة 1983م، وثانياً إلى أقوال المتهم الأول في يومية التحري وأفكاره المعروفة وإلى حكم غيابي صدر ضده عام 1968م من محكمة شرعية غير مختصة بإصداره وإلى أقوال من أسمتهم محكمة الاستئناف بعلماء الإسلام في السودان وغيره من البلاد العربية، وكان على محكمة الاستئناف في هذه الحالة أما أن تعيد الأوراق إلى محكمة الموضوع لإعادة المحاكمة في ضوء هذه التهمة أو أن تمارس بنفسها إجراءات إعادة المحاكمة. وأنه وبفرض أن الحكم الغيابي الصادر من المحكمة الشرعية في 1968م كان صحيحاً، فإن محاكمة المواطن محمود محمد طه للمرة الثانية تشكل مخالفة صريحة لنص المادة 218 (1) من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983م والتي لا تجوز محاكمة المتهم للمرة الثانية عن جريمة أدين فيها أو برئ منها، كما وأن ذلك ينطوي على إهدار كامل لنص المادة (71) من دستور عام 1973م (الذي كان سارياً وقتها) وهي المادة التي لا تجيز محاكمة شخص مرتين عن فعل جنائي واحد/ وأن جميع الأوامر التي أصدرتها محكمة الاستئناف كعدم الصلاة على جثمان المواطن محمود محمد طه وعدم دفنه بمقابر المسلمين ومصادرة كل كتبه ومطبوعاته واعتبار أمواله فيئاً للمسلمين. بحيث صودر منزله لصالح الدولة كلها تنطوي على عقوبات ليس لها مكان في قانون العقوبات كما وأنها تتعارض مع حقوقه الشرعية. وأن محكمة الاستئناف بقيامها بدور الاتهام تكون قد فقدت حيدتها ونزاهتها واستقلاليتها مهدرة بذلك أحكام المادتين 61 و 185 من دستور عام 1973م/ وأنه لما كان من الجائز قانوناً لرئيس الجمهورية (الرئيس السابق) أن يصدر قراره في تأييد حكم الإعدام دون إبداء أسباب، فإن ما صدر عنه عند التصديق على الأحكام من استرسال لا يعدو أن يكون تزايداً لا أثر له، ويكفي لوصفه أن نقرر أنه مجرد من أي سند في القوانين والأعراف. وفيه تغول على السلطات القضائية. وأن رئيس الجمهورية السابق قد نصب نفسه كجزء من السلطة القضائية وأجرى محاكمة جديدة للمواطن محمود محمد طه وذلك لما اشتمل عليه بيانه الصادر بتأييد الحكم من وقائع تشير إلى أنه كان يمارس سلطات قضائية وليس عملاً من أعمال السيادة، إذ نص البيان صراحة على أن قرار التأييد قد بني بعد دراسة لمحضر القضية وبيناتها ومستنداتها مستعيناً بالله وكتب الفقه والقانون وهو ما يشكل تغولاً صارخاً على اختصاصات السلطة القضائية والتي قرر لها الدستور استقلالاً كاملاً عن بقية السلطات/ وأن ما كان يقوم به المواطن محمود محمد طه من نشاط لم يكن إلا ممارسة لحقه الدستوري في التعبير عن عقيدته وفكره ورأيه بالطرق السلمية دون أن يشهر سلاحاً في وجه أحد أو يقهر إنساناً على قبول عقيدته وأن محاكمته على ذلك النشاط يشكل إهداراً لأهم حقوقه الأساسية والدستورية ومن ثم تكون محاكمته مع غيره من المتهمين باطلة وغير دستورية لمخالفتها لأحكام المادتين 47 و 48 من دستور عام 1973م والتي تكفل الأولي منها للمواطن حرية العقيدة والتعبير وأداء الشعائر الدينية دون إخلال بالنظام العام أو الآداب في حين تكفل الثانية حرية الرأي والحق في التعبير عنه ونشره بالكتابة والخطابة/ فإن هذه الدائرة تقرر وتأسيساً على ما تقدم بيانه أن الحكم الصادر من محكمة الاستئناف الجنائية بالخرطوم في حق محمود محمد طه ورفاقه بتاريخ 15/1/1985م صدر بإهدار لحقوقهم التي كانت تكفلها لهم المواد 64 و 70 و71 من دستور السودان لسنة 1973م:-.
"رِّدة" الجزلي
ليس بيني والأستاذ عمر الجزلي أي خلاف شخصي بل أني ولدت في منزل مستأجر بحي العرضة شمال بمدينة أم درمان يملكه قريب من الدرجة الأولى للأستاذ عمر الجزلي، وقد قابلته- أي الأستاذ عمر- مرة ومرتان بل وصليت معه الظهر خلف الدكتور محمد مندور المهدي القيادي المعروف بالمؤتمر الوطني في مصلىً صغير ملحق بمركز (الشهيد الزبير) للمؤتمرات قبل أشهر قلائل، على هامش لقاء دعا له حزب المؤتمر الوطني ولاية الخرطوم مع الإعلاميين حول (شكل وملامح الدستور الدائم) للبلاد عقب الانفصال بحضور أستاذنا حسين خوجلي رئيس تحرير صحيفة (ألوان) وصاحب امتياز قناة (أم درمان) الفضائية الذي التجأنا إليه بتعقيبنا الناقد هذا بحثاً عن العدل وعن حق الأستاذ الراحل محمود محمد طه في سيرة عدل وهو بين يدي الخالق العدل. وإذ ذهبت إلى ذلك اللقاء لتغطيته لحساب صحيفة (الأخبار)، تحدث الأستاذ عمر الجزلي وكأنه جاء ليتحدث فحسب، فتقرير الخبر عن اللقاء الذي بث في التلفزيون في ذلك اليوم لم يكن بتوقيع الأستاذ عمر الجزلي وإنما زميلة أخرى. وعلى أيٍ، لفت انتباهي أن الأستاذ الجزلي قدم لحديثه بقوله أن "البعض يهاجمني بدعوى أني أحب الأنظمة الشمولية، وهي تهمة لا أنكرها وشرف لا أدعيه"، ليمضي منها مقترحاً حفظ (دور سياسي للجيش السوداني) في الدستور الدائم. وهو خيار ربما نجح في تركيا لأسباب واقعها هي وقصة كمال أتاتورك والعلمانية وما يعرف بالحقيقة الأوربية جغرافياً وما إلى ذلك، ولكنه في السودان سينتهي إلى نتائج غير دستورية تهدر مبدأ توازن السلطات إذ من شأن هذا الاقتراح أن يجعل لمؤسسة الجيش وضعاً خاصاً يمتاز بها عن الأخريات، وفي ظني أنه غير مرغوب ينعكس آجلاً أم عاجلاً على مناخ الاستقرار السياسي في المجتمع والدولة. ويبدو أن الأستاذ عمر الجزلي متيمٌ في حبه للأنظمة الشمولية، العسكرية بخاصة، إذ يظهر دائماً بمناسبة أو بدونها إعجابه الشغوف بالرئيس السابق المشير جعفر نميري أو سلفه الرئيس الفريق إبراهيم عبود ثم والرئيس الحالي المشير عمر البشير. هذين الحب والوله مضران في مهنية الصحفي وصدق كلمته، فمن جهة تحجبه عن رؤية زوايا العيوب والسوالب التي يتوجب عليه طرقها في العمل الإعلامي حال تناول العمل علماً من الأعلام ولو بدرجة رئيس جمهورية. ومن جهة تجعله ينحاز بدون أن يشعر إلى جوقة كتبة وصحافيي السلطان في حال التطبيق على المثال الأخير الحال، ليعمل عندها، ليس من صفته الإعلامية الحرة بأي حال، وإنما كأحد المجندين في الحملات الدعائية والانتخابية أو واحداً في فرق المستشارين والخبراء لدى الرئيس المعني. وفي كل هذه الأحوال يقع المشاهد أو المستمع ضحية لنزوة حب شغوف أعمى من صحفي وإعلامي اصطبغ بحبر غياب المسئولية وطلاء افتقار الأمانة والحيدة، يستغل أداة الدولة للنيل من شرفاء الناس بعدما سبقت تبرئتهم كحالة الأستاذ محمود محمد طه، ليضحى هو نفسه المرتد عن كل الحدود التي تحكم وظيفته بيننا. ولذلك رأيت الأستاذ عمر الجزلي دائماً صريع هواه الشخصي ومدمن شغفه الوله دونما اجتهاد منه لعمل نزيه يشرح للمتلقي ما جرى من أحداث شكلت أحد أهم حقب تاريخنا السياسي والاجتماعي المعاصر إن كان في عهد المشير النميري أو سنوات المشير البشير التي نحن فيها. فهو طوال مئات الساعات من الحلقات الأسبوعية لبرنامجه الشهير (أسماء في حياتنا) التي قرأ فيها معلقات الغزل وأتي بكل إشارات العشق لشخص الرئيس نميري طوال ثلاثين عاماً والرئيسين عبود والبشير، لم يلتفت ليفسر لنا كيف سقط نميري (أبونا) في ستة أيام؟. وكيف تحول من بطل إقليمي في شرق إفريقية مناصر للقضية الفلسطينية قضية العرب المركزية وحاقناً لدماء ياسر عرفات وصحبه من نيران مدفعية الملك حسين في أيلول الأسود، إلى مجرد مستخدم من قبل الصهيونية العالمية لترحيل اليهود الفلاشا إلى إسرائيل وتقوية عمادها العسكري. لماذا قام الرئيس نميري بمذبحة الجنرالات في يناير 1982م حين واجهه كبار قادة القوات المسلحة السودانية في اجتماع شهير بقاعة الصداقة بالخرطوم، بفساد حزبه الحاكم الاتحاد الاشتراكي، فما كان منه سوى الإدعاء بالغضب والتهديد بالاستقالة ثم الانسحاب من الاجتماع إلى غرفة أخرى والتصنت على كبار ضباط الجيش عبر دائرة تلفزيونية زرعت بمقر الاجتماع العسكري الشهير. لما قام الرئيس السابق بما عرف بمذبحة القضاء حينما أقال عشرات القضاة العدول في بداية 1984م بعد أن أعلن ما سماه بالثورة القضائية في خطابه من الفاشر لدى افتتاحه مبنىً لمحكمة في المدينة. وهل كان الرئيس، إمام المسلمين كما أطلق عليه الإعلام الرسمي يومئذٍ، كان يؤمن حقاً بالقوانين التي أسميت بالشريعة الإسلامية التي أعلنها في سبتمبر 1983م، أم كانت مجرد خيار سياسي لثورة مايو الظافرة أبداً ورئيسها القائد؟. دعك من كل تلك القصص التي تصلح لحلقات تليفزيونية ساخنة، لما لم يهتم الجزلي بأن يورد لنا حقيقة مرض الرئيس السابق الذي حمله للذهاب إلى أميركا كل فترة وأخرى حتى المرة الأخيرة التي لم يعد منها رئيساً؟. بأي مرض عل الرئيس؟، وكيف كانت تسير الدولة في تلك الأيام؟، ومن هم رجاله؟، وهل تصرفوا وفقاً للقانون أم لإرادة الرئيس المريض في الخارج؟، وهل كان الذهاب لأمريكا بموافقة الأجهزة الأمنية السودانية، أم كان تصرفاً منفرداً من الرئيس الراحل؟. فماذا يعني كل ذلك وغيره كثير قصص تصلح لعشرات الحلقات التلفزيونية المفيدة في ضيافة معاصرين لتلك الأحداث والوقائع يكون من محصلها خدمة الوطن في إنارة طريقه المستقبلي متعظاً مما مضى؟، خدمة لمهنة الإعلام وقيم وحدود وأخلاقيات هذا العمل المقدس بداية ونهاية، ثم وإرضاء للذات بتفاعل المتلقين مع ما يثيره مثل هذا العمل الجاد والفاعل، وليس الاكتفاء بتلمظ الشفاه تحسراً على ذهاب الرئيس نميري بهّبة شعبية غنى لها الحادون، أو القعود منها للقنوع بترديد الضحكات الماسخات مع اجترار نوادر النميري العديدة، التي يجيد روايتها (أولاد أم درمان)، والمروي عنها بطريق واسعة الانتشار سواء أن كانت من باب الحقيقة أم من مدخل الكذب. أولم يكن الرئيس الراحل هو نفسه (أحد) أولاد أم درمان؟.
مدينة التراب وإعادة كتابة التاريخ
منشدي أم درمان ومدوني أسطورة مجدها المدعى به كثر وجميعهم، في القلب والوجدان العمومي ثمة حيزٌ مهم محددٌ لهم بحكم فنونهم وبأثر رسوخها فيما جرى، فمن خليل فرح الذي قال في إنشاده (قدلة يا مولاي حافي حالق بالطريق الشاقيه الترام) إلى البروف علي المك ومدينته الترابية بأزقتها المحتشدة بالدراما إلى الأستاذ كمال الجزولي الذي تقصَّد قبس رحمان في (قطارها الذي يأتي عند العاشرة) وإلى الراوي كمال سينا الذي روى عنها ومنها وفيها ما لم يروى، وإلى نجوم بعيدة في ضروب الاجتماع وسماوات المدينة التي تقمصت الوطن، وإلى الأستاذ حسين خوجلي الذي حلق بإسمها في أعالي الفضاء وقتما ركز (لأم درمان) في مدارا آخرا جديد في أقمار الفضاء، ومن بين هؤلاء، كان أحد حداة أم درمان وشاعرها المجيد أنشد لها (أنا أم درمان.. أنا السودان.. أنا الدرة البزين بلدي) الأستاذ الراحل عبد الله محمد زين، الذي من رأيه أن من ليس له أهلٌ في أم درمان فليس بسوداني أساساً، وإذ يثير هذا القول العجب من المركزية المفرطة لدى نخبة أم درمان، إذ كيف تختصر قيمة الوطنية السودانية والانتماء الوطني من ولشعب مليون ميل من الأرض في أم درمان بحدودها القديمة قبل امتداداتها في أم بدة وكرري والصالحة؟. فمن عجبٍ أيضاً أن القصيد تتار في ما تغنينا به، ومنه أن أم درمان نعيم الجنان، (أنا أم درمان.. أنا ابن الشمال سكنت قلبي على ابن الجنوب ضميت ضلوعي)، (وأشوف نعيم دنيتي وسعودا.. امتى أرجع لأم در واعودا)، وفي المنتهى تقزم نعيم السودان إلى جحيم قطرين ما جداهم خيلاء أم درمان وهالتها المعبّر بها من أبناءها فتيلا، فهابيل وقابيل هاهنا، لا يشك الناس في اقتتالهما القادم بل يختلفون فقط في موعد بدءه. وفي ذات المقابلة الصحفية لي مع شاعر أم درمان الراحل وقد أربد محتجاً وواثقا في آن بخلود هذه المدينة المنتفخة الذات مدللاً بما قصد به الشاعر والأديب عبد الله حمدنا الله في قصيدته (أم درمان تحتضر) الذي جر عليه تعقيباً سريعاً من (النخبة الأم درمانية) فألقى عليه واحدهم د. الواثق عبد الله قصيدته (أم درمان تنتصر). وإذ أبديت تعجباً من حظوة هذه المدينة المتمركزة بطبيعة الحال في وجداننا القومي المدعى به، وقت أن كان سوداناً واحدا وليس سودانيْن، من انكفاء أم درمان متغزلة في عظمتها دونما إجراء مقارنة قريبة لأول وهلة مع (خرطوم) التركية الأسبق وجودا من أم درمان والأكثر مدنية كمقر للإدارة، أو مع الخرطوم بحري الأحدث وجودا وفاعلية ونظاماً كمدينة صناعية وقاعدة للاقتصاد الناشئ. لكن أم درمان وكما في خيلاء طاؤوس إفريقي جميل عكفت على ترديد نشيدها المركزي الفردانِ دون أن تقدم شيئاً أو تمتاز بكسبٍ سوى (الأنا) والـ(نحن) وكثير أساطير وحيثيات لعظمة الذات المكانية، لتأخذنا بعيدا من صورة كونها مجرد ضلع من بين أضلاعٍ ثلاثة تكوِّن عاصمة السودان، إلى فيلم روائي طويل محتشد المشاهد التي رسالتها واحدة مكررة وهي احتكار قيمة الأرض ومعنى الوطنية، وهنا فمن الواجب تقبل أنها جامعة الأدب والسياسة والمغنى والكورة والراديو والتليفزيون والجلد والرأس، ويعد مارقاً كل من خالف الرأي. ومن الأساطير قول شاعر أم درمان أن الإمام محمد أحمد المهدي عليه السلام وقد انتصر وفتح الخرطوم بعدما أسقط عزيز بريطانيا غوردون باشا على مدرج قصر الحكمدارية (القصر الجمهوري الحالي) خالف رأي قيادات جيش الأنصار الذين جاءوا بالمهدي وصعدوا به إلى سطح القصر وأطلعوه على عزمهم السكنى في المنازل الجميلة بحي الخرطوم الشرقي وقد كانت تحيط بها الحدائق الغناء على أن يسكن هو في هذا القصر الكبير، إلا أن الإمام المهدي أخبر رجاله بأن السكن ليس في بلد دنسها (الكفار)، وبقوله: نحن ما بننزر بين بحرين، مشيرا بيديه إلى النهرين الأزرق والأبيض الذين يحوطان الخرطوم ويصنعان منها شبه جزيرة قاعدتها إلى الجنوب، ومؤشراً إلى أم درمان قائلاً: نحن سنذهب إلى البلد ديك، فاستعجبت قيادات المهدي أن يتركوا الخرطوم بتطورها العمراني إلى وعورة أم درمان وبؤسها، إذ كان ما يعرف بأم درمان القديمة- أي المسافة من السلاح الطبي الحالي إلى مشرع أبو روف-، عبارة عن جروف وخيران صغيرة ملآ بالهوام والضواري والأعشاب الفقيرة، إلا أن الإمام المهدي أشر على أنصاره بقول تفاؤلي متشجع أن: أمشوا أكبروا شدرا وأكتلوا دبيبها وأحرتوا أرضها وختوا زرعا وأحلبوا ضرعا.. دي البقعة المباركة إنشاء الله، والله يجئ يوم الناس تصلي في ضل الجبل داك، مشيرا بيده اليمنى إلى جبال كرري أقصى أم درمان شمالاً. رؤية المهدي رغم ثراءها بغدِ الخير والرفاه والتعاضد المدلل به بصورة الصلاة الجامعة تحت الجبل، كانت كسراب البقيعة، فإذ تحققت رؤيته النورانية وصلى بالفعل في غضون مائة عام ونيف الناس تحت سفح الجبل مع امتداد أم درمان شمالا إلى ما بعد كرري، لكن ثورته القومية التي قاتل فيها الدينكا الجنوبيين إلى جانب العرب الشماليين، اضمحلت إلى دولتين شمالية وجنوبية في هذه الأيام، وهي معكوس الرؤية التي تفاءلت بالوحدة السودانية على أرض أم درمان، فجاءت أم درمان بأنانيتها المفرطة وتواطؤ نخبتها على استمرار تدليلها بحظوة المدينة الوطن الجامعة عاصمة القومية والوطنية وسواها من أطر الشعارات لا شواهد الحقائق. وهي المدينة المصنوعة من العدم فسادت الوجود السوداني كله، إذ أن مدينة التراب لم تكتف بأن احتكرت ولادة أنساق الحكام المتتابعين والسدنة الأوفياء في معبد مركزيتها المكافئين بتنسم المواقع وشغل الأحواز، فبزت جوبا ووادي حلفا وملكال وسواكن وبربر ودنقلا وكسلا والكاملين ومدني والأخريات بما فيهن الخرطوم، ليسوغ هنا وصمها بالمدينة الشمولية، بل لم تبدِ نخبتها أي ندمٍ من فشل رهانهم الأزلي مع علامات الإخفاق في كل ما أدعت الريادة فيه إن كان في السياسة أم الأدب أم الفن أم الرياضة الكروية، وذلك مبحث يلزم نخبتها العابدة إلى وقفة تأمل حكيم في جدوى إفراطها في (أنا) الذات قولاً وعملاً. وأخلص إلى ما استوقفني في خطاب السيد رئيس الجمهورية الأخير أمام مجلسي البرلمان، الذي محله أم درمان بطبيعة الحال، دعوته إلى إعادة كتابة التاريخ. وهي ليست دعوى قال بها والسلام، فالأعراف واللوائح والمعمول به، يفهم منها أنها دعوة ينتظر تنفيذها كجزء من برنامج حكومته وخطة عملها في المرحلة القادمة والتي طرحت على البرلمان. وإذ كثر الحديث عن الجمهورية الثانية والعهد الجديد هذه الأيام بعد تطور الانفصال، فمهمٌ أن يكتب التاريخ بعيدا عن هوى أم درمان الموغل في الأنا، وبدون أي تحيز لها أو من قبل أبناءها، يعيد إنتاج المركزية الفاشلة أو الشمولية الخاطئة، وكلتاهما ساهمتا بالسهم الأكبر في تغيير جغرافيا السودان وليس تاريخه فحسب. ومهمٌ بالتأكيد أن يكتب التاريخ بأمانة تجعل من الخطأ الكبير الذي أتت به أحدى قنوات رواية التاريخ، برنامج (أسماء في حياتنا)، بتزييف التاريخ على ما رأينا فيما سبق، ليس ممكن الاحتمال فحسب وإنما من المستبعد بالكلية. هذا إذا ما أردنا حقاً، كتابة جديدة لتاريخنا في بدايتنا الجديدة المرجو منها.
* صحفي وباحث في حقل القانون
عضو الاتحاد العام للصحفيين السودانيين
adilhassoun@hotmail.com