إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الدستور هو آمال، وتطلعات، وأحلام، كافة أفراد الشعب، معبر عنها بصياغة قانونية.. وهو المبادئ العامة، التي ترسم صورة العلاقة بين المواطن والدولة، وبين مؤسسات الحكومة المختلفة مع بعضها البعض، حين تحدد القوانين، المتنزلة عن الدستور، على هدى قيمه، اسس المعاملة بين المواطن والمواطن. والدستور هو القانون الأساسي، الذي يوفر لكل مواطن الحق الأساسي، وهو حق الحياة وحق الحرية.. والقوانين الدستورية، هي التي تفصل تشاريعها، في تمديد ما يتفرع من هذه الحقوق، دون معارضتها، أو التناقض معها. وكل قانون يصادر حياة المواطن، أو حريته، قانون غير دستوري. وكل دستور لا ينص على رعاية حق الحياة، وحق الحرية، ليس بدستور!!
ولقد قامت كليات القانون، في بلداننا عموماً، على خطأ شائع، اسس له كبار القانونيين، من أمثال د. السنهوري العالم المصري الشهير، حيث تحدث في كتبه، عن أنواع الدساتير، وذكر منها: الدستور الملكي، والدستور الدكتاتوري، والدستور الثيوقراطي!! وليست هذه دساتير، لأنها لا توفر الحقوق الأساسية، وإنما هي نظم حكم جائرة، لا علاقة لها بالدستور.. فالدستور إذن لازمة من لوازم الحكم الديمقراطي، فلا يقوم إلا في نظام ديمقراطي، تعتمد فلسفته على حرية المواطنين، والمساواة بينهم أمام القانون، رغم إختلافهم في العرق، واللون، والدين، ووالوضع الإجتماعي، والجنس من رجل وامرأة. وإذا كانت المساواة التامة في الحقوق والواجبات، بين جميع المواطنين، من أبرز سمات الدستور، فإن عناية خاصة تنصرف في الدستور، للمساوة التامة بين الرجال والنساء، وذلك من ناحية، لطول ما عانت المرأة عبر التاريخ من الظلم والإضطهاد، في سائر الاعراف، ومختلف المجتمعات، ومن ناحية اخرى، للدور الاساسي الذي تقوم به المرأة في المجتمع الحديث.
والدستور لا تضعه جماعة، ولا تصنعه جمعية تأسيسية أو برلمان، وإنما قصاراها أن تقره، وتؤكد عليه.. وإنما تضع تلك المؤسسات التشاريع، المتنزلة عن الدستور، وذلك لأن حق الحياة، وحق الحرية، حقان طبيعيان، لا تسطيع الجماعة ان تمنحهما، ولا يجوز لها ان تسلبهما.. والدستور، لا يوضع ليحقق مصلحة الأغلبية، أو يعبر عن مصالحها.. وإنما يجب ان يضمن مصالح، وحقوق الأغلبية والأقلية معاً، فلا يستثني أحداً.. لهذا فإن العبارة الشائعة (أن غالبية الشعب مسلم ولهذا يجب ان نحكم بدستور إسلامي) عبارة سطحية، وممعنة في الخطأ. فالدستور لا يقوم على الأغلبية، ولكن السلطة تقوم عليها، لذلك عرفت الديمقراطية، بأنها حكم الأغلبية مع مراعاة حقوق الأقلية، وفي مقدمتها حق الحياة، وحق الحرية، وهذا ما يقوم عليه الدستور.. فكأن الأغلبية في ظل النظام الديمقراطي، تباشر السلطة، وتحقق من خلالها اهدافها، ومصالحها، ولكنها لا تملك أن تقيم الدستور على معتقداتها، أو مصالحها، لو كانت هذه المعتقدات، أو المصالح، تحرم الاقلية من حياتها، أو حريتها، وما يتفرع منهما من حقوق.
إن من المسائل الواقعية، التي يمكن ان توضح هذا الأمر في تاريخنا السياسي، معركة حل الحزب الشيوعي السوداني، وطرد نوابه المنتخبين، من الجمعية التأسيسية، في ظل نظام ديمقراطي، في عام 1965م. فعلى إثر حديث طالب يدعى شوقي في معهد المعلمين العالي، معرضاً بالبيت النبوي الكريم، قادت جبهة الميثاق الإسلامي، حملة من داخل المساجد، نادت بحل الحزب الشيوعي، بدعوى ان ذلك الشاب شيوعي. ورغم أن الحزب نفى ان يكون الشاب شيوعياً، إلا ان الحملة استمرت، واصبحت موجة عارمة، لم يستطع المثقفون الوقوف في وجهها.. فحين ناقشت الجمعية هذا الأمر، لم يعترض أحد على هذا العمل المشين، بل ان رجلاً مثل محمد أحمد محجوب، كاتب كتاب "الديمقراطية في الميزان" الشهير، تحدث عن ضرورة حل الحزب الشيوعي لحماية المجتمع. ورجل مثل بروفسير محمد ابراهيم خليل، ذكر ان كون الشاب شيوعي او غير شيوعي لا يهم، ويجب ان نتخذ الحادث مناسبة، ونطهر مجتمعنا من الشيوعية أو عبارات في هذا المعنى. وحين خرجت المظاهرات، التي حركها الأخوان المسلمون، وطافت بمدينة أمدرمان، مرت بقرب منزل الزعيم الأزهري، فخطب فيهم الأزهري، رئيس مجلس السيادة آنذاك، من أعلى منزله، قائلاً أنه سينزل الشارع، ويقود المظاهرات، إذا لم يتم طرد الشيوعيين من الجمعية التأسيسية. ولقد أجازت الجمعية التأسيسية بالإجماع قراراً بتعديل المادة 5 (2) من الدستور، التي كانت تقرأ (لجميع الأشخاص الحق في حرية التعبير عن آرائهم والحق في تأليف الجمعيات والإتحادات في حدود القانون) بما يستثني الشيوعيين، باعتبارهم من الأفكار الضالة، ويجيز مصادرة حقهم في التعبير عن فكرهم، وتم بناء على ذلك، طردهم من الجمعية التأسيسة والأمر بإغلاق دورهم ومصادرة صحفهم. ولقد رفع الحزب الشيوعي شكوى تقوم على عدم دستورية حله، وطرد نوابه الذين انتخبهم الشعب. وحكمت المحكمة العليا ببطلان تعديل الدستور، وحل الحزب الشيوعي.. وذكر السيد بابكر عوض الله، رئيس القضاء آنذاك، في كلمة ضافية، أن ما تم في الجمعية التاسيسية، مؤامرة ضد الديمقراطية، وان الغالبية العظمى، إذا أجمعت على مصادرة حقوق أي مجموعة فإن إجماعها باطل وغير دستوري، في ظل النظام الديمقراطي، وأن جوهر الدستور، وهو الحرية، لا يمكن تعديله أو إلغاؤه. ومع ذلك تمت مؤامرة حل الحزب الشيوعي إذ لم تلتزم الحكومة بقرار المحكمة العليا بل ان السيد الصادق المهدي الذي كان رئيساً للوزراء آنذاك قال (إن الحكومة غير ملزمة بأن تأخذ بالحكم القضائي الخاص بالقضية الدستورية). ونتيجة لعدم إلتزام السلطة التنفيذية بقرار المحكمة العليا، إستقال السيد بابكر عوض الله رئيس القضاء، ومما جاء في استقالته قوله (إنني لم اشهد في حياتي القضائية اتجاهاً نحو التحقير من شأن القضاء، والنيل من استقلاله كما أرى اليوم... إنني أعلم بكل اسف تلك الاتجاهات الخطيرة عند قادة الحكم اليوم، لا للحد من سلطات القضاء في الدستور فحسب بل لوضعه تحت إشراف السلطة التنفيذية).
قام الأستاذ محمود محمد طه، والحزب الجمهوري، بمقاومة حل الحزب الشيوعي، واقام أسبوعاً من المحاضرات بدار الحزب الجمهوري بأمدرمان، تحت عنوان "أسبوع مناهضة حل الحزب الشيوعي السوداني".. ولقد كان الأستاذ، في تلك المحاضرات، يقدم مقدمة قصيرة، ثم يفتح الفرصة للحوار الواسع. ولقد كان الحديث، يدور حول محورين اساسيين: أولهما ان الشيوعية فكرة، وأن الأفكار لا تحارب بمنعها، والتضييق عليها، وإنما تحارب بمواجهتها بالفكر المستنير.. والمنع، انما يكسب الافكار بريقاً، ويغري بها، ويدلل على ان مانعييها اضعف منها.. وثانيهما أن حادثة حل الحزب الشيوعي مؤامرة سياسية، للتخلص من الخصوم، عدّل فيها الدستور، بما يلغي حقيقة وجوده، لأن مادة حرية الرأي هي روح الدستور، وتعديلها يقوض الدستور من أساسه، ويحول الحكم الديمقراطي الى دكتاتورية مدنية، تصادر فيها الحريات.. وأن الأحزاب الطائفية قامت بهذه المؤامرة، لعجزها عن مواجهة الشيوعية فكرياً، وهي بهذا العجز، وبسعيها لتقويض الديمقراطية، واستغلالها الكثرة العددية، لمصادرة حقوق الآخرين، تمثل الخطر الماثل الأضر على الشعب من الشيوعية.
وبجانب الإثارة، والتضليل، والشغب، إتجهت الحركة الإسلامية، الى نشر دعم فكري، وقانوني لحل الحزب الشيوعي، تمثل في كتيب أصدره د. حسن الترابي، بعنوان"أضواء على المشكلة الدستورية"، قام الأستاذ محمود بالرد عليه، بكتيب صغير بعنوان "زعيم جبهة الميثاق الإسلامي في ميزان: 1- الثقافة الغربية 2- الإسلام".. ولعل أهم ما ورد في ذلك الكتاب، مما يحتاجه الناس اليوم، وهم يناقشون أمر الدستور، هو خطأ فهم د. الترابي لمسألة جوهرية في أمر الدستور، فقد كان يظن ان الجمعية التأسيسية من حقها تغيير الدستور، بما في ذلك فصل الحقوق الاساسية، وأن فصول الدستور كلها متساوية في قيمتها، ولا يصح التفضيل بينها، ولو صح التفضيل فإن فصل الحريات من أضعفها، لأنه يخضع للتشريع!! جاء عن هذا الامر (ومفتاح عقلية الترابي ومفتاح ثقافته، في هذا الباب، يمكن ان يلتمس في فقرات كثيرات من كتابه هذا الغريب، ولكننا نرشح هنا لهذا الغرض قوله في صفحة 16 "وليس في متن الدستور ولا في مبادئ التفسير بالطبع ما يعول عليه للتفريق بين نص ونص على أساس ان هذا قابل للتعديل، والآخر غير قابل، ولا ما يسند الزعم بأن لفصل الحقوق الأساسية خاصية تميزه في هذا الصدد عن سائر الفصول، فكلها تستوي في قوة مفعولها، وايما قانوني تعلل بمجرد الاهمية النسبية لهذا الفصل أو ذاك في تقديره الشخصي، فإنما هو متكلف لا شاهد له من الدستور، ومغالط لا حجة له من القانون، ومتعبط يتجنى على القانون. ولو صحت المفاضلة بين فصول الدستور لكان فصل الحريات من أضعفها لأنه يخضع للتشريع" هذا ما قاله الدكتور الترابي في ذلك الموضع من كتابه، والتماس فتون الدكتور بثقافته الغربية في هذه الفقرة لا يعيي أحداً من القراء، ولذلك فإنا سنمضي في تبين ضحالة الثقافة وسطحية التفكير).... (والدستور الذي هو لازمة من لوازم الحكم الديمقراطي: هو القانون الأساسي، وهو إنما سمي قانونا أساسيا لأنه ينصص على هذه الحقوق الأساسية، وإنما سميت الهيئة التي تضع الدستور جمعية تأسيسية لأنها تضع القانون الأساسي، وواضح أن الحقوق الأساسية إنما سميت حقوقا أساسية لأنها تولد مع الإنسان.. الحياة والحرية، هي حقوق لأنها لا تمنح ولا تسلب في شرعة العدل.. وهي أساسية لأنها كالغذاء وكالهواء والماء..
ويمكن إذن أن يقال أن الدستور هو ((حق حرية الرأي))، وأن كل مواد الدستور الأخرى، بل وكل مواد القانون، موجودة في هذه العبارة الموجزة كما توجد الشجرة في البذرة.. فإن النخلة، بكل عروقها، وفروعها، وساقها، موجودة في ((الحصاية)) تراها عين العقل فإذا وجدت ((الحصاية)) الظرف المناسب: من التربة والماء، خرجت منها النخلة بكل مقوماتها، وأصبحت ماثلة تراها عين الرأس أيضاً بعد أن كانت معدومة في حقها.. وكذلك الدستور هو موجود بالجرثومة في الحق الأساسي - ((حق حرية الرأي))، وما الجمعية التأسيسية إلا الظرف المناسب الذي يجعل شجرة الدستور، بفروعها، وعروقها، وساقها تنطلق من تلك البذرة الصغيرة، كما انطلقت النخلة من ((الحصاية)).
هذا فهم للديمقراطية وللدستور وللحقوق الأساسية يفهمه كل مثقف استطاع أن ينفذ من قشور الثقافة الغربية إلى اللباب، ولكن الدكتور الترابي وقف مع القشور حين ظن أن ((ليس في متن الدستور ولا في مبادئ التفسير بالطبع ما يعول عليه في التفريق بين نص ونص على أساس إن هذا قابل للتعديل والآخر غير قابل))
ولو كان الدكتور الترابي قد نفذ إلى لباب الثقافة الغربية لعلم أن المادة 5 (2) من دستور السودان المؤقت غير قابلة للتعديل. وهذه المادة تقول ((لجميع الأشخاص الحق في حرية التعبير عن آرائهم والحق في تأليف الجمعيات والاتحادات في حدود القانون)) وهي غير قابلة للتعديل لأنها هي جرثومة الدستور، التي إنما يكون عليها التفريع.. وهي الدستور، فإذا عدلت تعديلا يمكن من قيام تشريعات تصادر حرية التعبير عن الرأي فإن الدستور قد تقوض تقوضا تاما.. ولا يستقيم بعد ذلك الحديث عن الحكم الديمقراطي إلا على أساس الديمقراطية المزيفة.. وهي ما يبدو أن الدكتور الترابي قد تورط في تضليلها.
المادة 5 (2) هي دستور السودان المؤقت، وهي دستور السودان المستديم، وهي دستور كل حكم ديمقراطي، حيث وجد هذا الحكم الديمقراطي، وعمل الجمعية التأسيسية في وضع الدستور إنما هو تفريع عليها، ليجعل تحقيقها اكمل وأتم. وهناك قولة قالها الدكتور الترابي هي إحدى الكبر في شرعة العقل المفكر، والثقافة الصحيحة، وتلك هي قوله ((ولو صحت المفاضلة القانونية بين فصول الدستور لكان فصل الحريات من أضعفها لأنه يخضع للتشريع)) فعبارة ((لأنه يخضع للتشريع)) تدل دلالة قوية على أن الدكتور يجهل أموراً ما ينبغي أن تجهل في أمر الحرية، وفي أمر التشريع.. وأول هذه الأمور أن الحرية لا تضار بالتشريع، وإنما تزدهر بالتشريع، اللهم إلا إن كان هذا التشريع يقوم على نزوات الحكم المطلق، الذي يسمي نفسه ديمقراطية، زوراً وبهتاناً.. وهذا ما يبدو أن الدكتور يعنيه.. وهذه إحدى مشاكل تفكير الدكتور.. وعبارة ((في حدود القانون)) التي وردت في عجز المادة 5 (2) هي روح المادة.. لأن القانون هو الذي يعطي الحرية معناها، ويميزها عن الفوضى.. فالتشريع صديق الحرية وليس عدوها، وكل تشريع غير ذلك لا يسمى تشريعا، إلا من قبيل تضليل الناس.. فالتشريع في النظام الديمقراطي طرف من الدستور وهذا هو المعنى بدستورية القوانين.. فكل تشريع يعارض الحرية ليس تشريعا دستوريا.).
لقد وضح من هذه السابقة القانونية والسياسية، أن أغلبية النواب، لا يمكنها أن تغير جوهر الدستور، وهي مادة حرية الرأي، بما يصادر ذلك الحق، من أي فرد أو جماعة في المجتمع. وإن إجماع النواب، وإن كان الآلية المناسبة لتعديل مواد الدستور، وإجازة القوانين، فإنه غير مناسب إذا كان التعديل موضوع الجدل، يصادر حق الحياة أو حق الحرية، وهو ما يقوم عليه الدستور.
فإذا وضح أن الدستور كما وصفنا أعلاه، فهل يمكن، أو يصح، أن يستمد الدستور الذي ننشده من الشريعة الإسلامية؟! قبل الإجابة على هذا السؤال لا بد لنا من النظر الى الشريعة ماهي؟! وكيف طبقت؟! وما نوع النظام الذي حكمت فيه؟!