إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
انتهينا في الحلقة السابقة، إلى تقرير حقيقة أساسية يعتبرها الإسلام قاعدة أصولية في التشريع، وهي أن الأعراف الناتجة من الصراع في الحياة لا يمكن تجاوزها في التعامل مع قضايا المجتمع البشري، أكثر من ذلك، فهي الأساس الذي تنبني عليه جميع التشريعات.. وقلنا أن النبي المكلف إنما ينظر إلى تلك الأعراف، فيثبت ويدعم، العرف الصالح الذي يحقق كرامة الإنسان، وينميه، ويجتث غير الصالح من جذوره، ولذلك كان النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم يقول: " اتركوني ما تركتكم "، كأنه يريد بهذا الحديث، أن يوضح لأصحابه أن أي ممارسة اجتماعية، لم يصدر هو فيها أمرا يوقفها، أو تعديلا صريحا، فهو عرف صالح يجب عليهم تنميته والارتفاع به.. وقد شبهنا تطبيق هذه القاعدة، بتعامل المزارع مع الحشائش الضارة التي تنبت مع المحاصيل الزراعية، فيقوم المزارع باجتثاث تلك الحشائش من جذورها، ثم يعتني ويرعى المحصول ليواصل نموه حتى الإثمار.. إذن، دعونا نبحث في تاريخ تطور المجتمع البشري، لنقف على الأعراف التي نشأت بعد البعثة النبوية في القرن السابع الميلادي، ثم نزنها بميزان الدستور على الفهم الذي أسسناه من أصول القرآن، لنأخذ الصالح منها - أعني الأعراف- ونتبناه، وننميه ونجتث غير الصالح من جذوره..
لقد توفرت المعلومات التاريخية عن سعة، وغزارة التجربة الإنسانية في مجالات السياسة، والعمل العام، من اجل تامين حرية الإنسان، وكرامته، حتى أصبحت مبذولة لتلاميذ المدارس، ولرجل الشارع العادي.. ويمكن للقارئ أن يستعرض في ذهنه مراحل تطور هذه التجربة منذ بدايات التاريخ البشري المكتوب، وفي قيام، وتطور، الحضارات الإنسانية المختلفة، منذ قدماء المصريين، والإغريق، وحضارات الهند، والصين، القديمتين، والرومان، ثم مراحل الحضارة الإسلامية، وإلى النهضة الأوربية الحديثة.. ومن البداهات التي يعطيها ذلك المسح التاريخي السريع أن خلاصة التجربة البشرية، والتي نأخذها اليوم من المسلمات الأولية في حياتنا المعاصرة، إنما هي ثمرة جماع الجهد البشري الطويل، والمضني، وإنما هي ثمرة مشاعة ومبذولة، للإنسانية جمعاء، وليست ملكاً لأحد، ولا هي ممتنعة عن احد.. وهذه المسيرة الطويلة بحساب القيمة المطلوبة، وليس بحساب الزمن، إنما ارتكزت على العنف، كعامل أساسي في انتزاع الحقوق الدستورية.. وقد شهدت التجربة جراء ذلك العنف، الدماء والعرق والدموع، ولا يزال العنف يقوم بدوره في فض النزاعات المسلحة.. ولما وصلنا بصناعة السلاح، إلى السلاح الذري أثناء الحرب العالمية الثانية، فقد انتهي الأمر بالتجربة إلى اعتماد الحوار كآلية لفض النزاعات بدل الحرب، بل أصبحت الحرب حيث اشتعلت، لا تحل المشكلة، وإنما تعقدها، وفي النهاية ينتهي الأمر بالناس إلى طاولة المفاوضات.. وعندما أجيز ميثاق الأمم المتحدة، وأجمع الموقعون على تأسيس مواثيق حقوق الإنسان، في حق الحياة، وحق الحرية لكل إنسان على الأرض، فكأنما ارتفع المجتمع البشري نتيجة للصراع، إلى قامة في تحقيق التوحيد من الناحية العامة، في الانسجام مع الارادة الالهية، التي قلنا أنها وهبت تلك الحقوق للإنسان كحقوق أساسية، ولا يحق لفرد أن يسلبها آخر في شرعة العدل.. ويتجلى ذلك الارتفاع في تحقيق التوحيد، باعتماد الأمم المتحدة قانون الإنسان على حساب قانون الغابة، وباستمرار اتجهت الممارسة إلى إدانة العنف واستهجانه، واستبداله بالحوار.. إن التعثر، في الممارسة والاخفاق هنا وهناك، لن يلغي هذا الإنجاز الكبير للبشرية، وإنما يثريها ويدفعها إلى الأمام..
ولدى الفكر الديني السليم، فإن كل ذلك الجهد البشري أبرزته الإرادة الإلهية الهادية، وحفزته في مراقي التطور الطويل، وفق خطة حكيمة، ولطيفة، قال تعالى في هذا المعنى: " هو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم ".. وكل ذلك ابتغاء غاية كريمة وعظيمة، ألا وهي تنمية إنسانية الإنسان في البشر، أو قل: إخراج الإنسان الكامل، الإنسان الحر، وهو هو خليفة الله في الأرض.. وإلى ذلك تشير الآية الكريمة: (إن في خلق السموات، والأرض، واختلاف الليل، والنهار، لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً، وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السموات، والأرض * ربنا ما خلقت هذا باطلاً، سبحانك، فقنا عذاب النار..)..
فإذا تلمسنا مرحل تطور الفكر السياسي الإنساني لوجدنا أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم كانت تقوم دائماً على أساس الواقع الاقتصادي، والاجتماعي المعين.. وهي إنما كانت تعبر عن تبادل المصالح والخدمات، كما كانت تتفاوت دائماً في درجات التعقيد أو البساطة حسب مستوى تطور المجتمع المعين.. فما يقدمه زعيم القبيلة، أو شيخ القرية، من خدمات في القيادة، والإدارة، والحرب، وما يجده من رفاهية، وولاء، واعتبار عند أفراد القبيلة، أو مواطني القرية، إنما هو صورة مبسطة لما يقدمه الملوك، والأباطرة، وما يجدونه من رعاياهم.. و القول بتقديم الخدمات، وقبول الولاء، في هذا الإطار، إنما هو تبسيط شديد لصورة معقدة، ودائمة، التغيير والتطور.. وبما أن ممارسة سلطات الزعامة كانت في العادة، تعني الرفاهية، والجاه للحاكم، ولأن ذلك يكون عادة على حساب حرية، وكرامة عامة الناس من الرعايا، فقد كان الصراع على السلطة، والتنافس عليها من أبرز معالم التاريخ على طول المدى.. ولقد أخذ ذلك الصراع صورتين أساسيتين:
فالأولى هي تنافس طلاب الزعامة والنفوذ على السلطة المتمركزة في أيد محدودة..
والثانية هي منازعة عامة الناس لذلك التركيز، ومحاولتهم إشاعة السلطة بين أعداد أكبر من الأفراد والمؤسسات، وتقييد ممارستها من أجل توسيع حريات المواطنين، وزيادة تأمين كرامتهم..
والذي يهمنا في هذا المجال هو النوع الثاني من النزاع حول السلطة، وذلك لأنه يشكل رأس السهم في تطور الفكر السياسي الإنساني المعاصر، وإن كان النوع الأول من النزاع مكملاً له لأنه كان يحفز التطور، ويبرز أفضل العناصر للقيادة في صورة من الاختيار الطبيعي.. ونحن نجد أن كل مرحلة من مراحل التطور، إنما كانت تبنى على خلاصة المرحلة السابقة بتجميع فضائلها، وإعادة صياغتها على أساس الواقع دائم التغيير.. وهكذا فقد كانت مرحلة الحكم الملكي المطلق، والقائم على ما كان يسمى بالحق المقدس، ضرورية لمرحلة الحكم الملكي المقيد، أو ما يسمى بالملكية الدستورية - وقد أشرنا إلى خطأ هذه التسمية، والتي كانت أيضاً، بدورها، ضرورية لمراحل الحكم الديمقراطي المعاصر.. وعلى المراقب الذكي أن يلاحظ أن التطور السريع الذي لحق بالفكر السياسي الإنساني في تجربة النهضة الأوربية، وأحداث القرن التاسع عشر، والذي نمارسه اليوم في شئون الحكم والإدارة، إنما هو ثمرة جماع الجهد البشري على مدى التاريخ.. وهو لذلك ملك مشاع لكل الجماعات الإنسانية في العالم أجمع، فما هي، إذن، السمات الأساسية لذلك الفكر السياسي؟؟
مبدأ الدستورية و الحكم الدستوري:
لعل خلاصة الفكر السياسي المعاصر هو مبدأ الدستورية، والحكم الدستوري، وهو اصطلاح ذو دلالات علمية محددة.. ويشكل هذا المبدأ أساس الحكم، والإدارة، في جميع بلاد العالم، وعلى اختلاف أيديولوجياتها، وظروفها الاقتصادية، والاجتماعية.. فهو شرط القبول الشعبي، والاحترام والتعاون الدولي، بحيث لا يملك أي نظام سياسي إلا ادعاءه أو إدعاء أكبر قدر منه، مع تبرير غياب أي عنصر من عناصره، والوعد بإكمال العنصر، أو العناصر الناقصة في أول فرصة.. ويتضمن مبدأ الدستورية هذا عدداً من القواعد الأساسية، مثل سيادة القانون، المساواة أمام القانون، فصل السلطات، استقلال القضاء، ودستورية القوانين.. وتعمل كل هذه القواعد في تقييد، وتنظيم، عمل السلطة التنفيذية ومراقبتها، والاحتراز من تسلطها، وتعسفها فالسلطة التنفيذية ضرورية لتنفيذ السياسة العامة في أي مجتمع إنساني، ولتنظيم العلائق بين الأفراد، ورعاية حقوقهم.. ولكنها أيضاً قابلة للانحراف، ولسوء الاستغلال بصورة كبيرة، فكما ترد العبارة الشائعة فإن السلطة تفسد، والسلطة المطلقة تفسد تماماً، وقال أرسطو في ذلك: " السلطة تفسد عقول الحكام حتى لو كانوا أفضل الناس !! ".. وذلك لأنها هي التي تملك القدرة على تغيير الواقع، والتأثير عليه، وهذا يقتضي ضرورة الحد منها، ومراقبتها.. وذلك لأن فسادها، أو صلاحها، إنما يأتي من أسباب، وأغراض ممارستها.. وبعبارة أخرى، فالمهم أن نعلم لمصلحة من يجري تغيير الواقع، وكيف يتم ذلك ؟؟
بما أننا مكلفون ديناً بالإقبال على جميع التجارب البشرية لنأخذ منها ما يتمشى مع أغراض الدين، ويحقق حكمته، ونطرح منها ما يتعارض مع ذلك، فنحن وبهذا المنطق الأصولي، نقبل مبدأ الدستورية في الحكم لأنه يحقق المزيد من الكرامة، والعزة للإنسان، فالإنسان هو الغاية وكل ما عداه وسيلة إليه ليكمل ويحقق إنسانيته.. وبذلك فنحن نقبل القواعد التي يتضمنها هذا المبدأ، ونمدد فيها، ونضيف إليها، بما يحقق الغاية العليا، ألا وهي إنجاب الفرد الحر، كما ورد التفصيل في كتب الأستاذ محمود محمد طه، مثل كتاب (أسس دستور السودان)، وكتاب (الرسالة الثانية من الإسلام)، وكتاب (تطوير شريعة الأحوال الشخصية)..
فنحن مثلاً نقول بأن الدستور ليس هو أي وثيقة، أو قانون، يحاول تنظيم أجهزة الدولة، وعلاقتها ببعضها البعض، من ناحية، وعلاقتها بالمواطنين من ناحية أخرى، وإنما هو القانون الذي يفعل ذلك على أساس ضمان، وحماية الحقوق الأساسية للمواطنين، وهي حق الحياة، وحق الحرية.. فإذا أهدرت أي وثيقة، أي صورة من صور حق الحرية، أو حق الحياة، لجميع المواطنين، من غير تمييز على أساس الدين، أو الجنس، أو العنصر، أو اللون الخ، فإن تلك الوثيقة لا يمكن أن تكون دستوراً وقد أشرنا إلى إخفاق أساتذة الفقه الدستوري في فهم هذه النقطة والتركيز عليها.. وبالتالي، فإن دستورية القوانين، والتصرفات التنفيذية تعني عندنا أكثر من مجرد عدم المفارقة، أو التعارض، مع نص وثيقة (الدستور) المعين.. بل تعني عدم مفارقة جوهر الدستورية في الدستور نفسه، وهي الحقوق الأساسية، وهذه النقطة نحب لها أن تكون مركزة في الأذهان لأنها تضيف البعد الروحي، الذي على الدوام يصحح التجربة ولا يتجاوزها.. ومصدر هذا الفهم هو التوحيد، فالحقوق الأساسية، حق الحياة وحق الحرية، هي منحة من الخالق لخلقه، ولا يحق لأحد ان يسلب آخر هذه الحقوق في شرعة العدل وقد أسهبنا في الحلقة الأولي في توضيح ذلك..
وأمر آخر نقول به، وهو ضرورة علنية الحكم، وتفتيت السلطة، وإشاعتها بين الناس.. فلا بد من أن تكون ممارسة السلطة شعبية، وعلنية، بقدر الإمكان حتى تنكسر الحواجز النفسية بين الحاكم والمحكوم، بل نحن نطلب في الحقيقة ألا يكون هنالك حاكم متميز ولا محكوم مهضوم.. وهذا ما تعنيه عبارة أن الديمقراطية هي حكم الشعب، بواسطة الشعب، لمصلحة الشعب.. فإذا كان من الضروري للشعب، (وهو في المرحلة ضروري) اتخاذ وكلاء عنه في بعض المجالات، فإن علنية عملهم، واستمرار مراقبتهم، ومحاسبتهم، بواسطة الشعب، هي الصورة الممكنة و العملية لحكم الشعب لنفسه بنفسه..
وهكذا، فجميع أمرنا في العمل السياسي إنما هو السعي لتحقيق أكبر تأمين ممكن لحق الحياة، وحق الحرية، في نصوص الدستور، التي تترجمها الأجهزة التشريعية، والرأي العام المستنير.. ولضمان حفظ هذه الحقوق، تكون ممارسة السلطة بواسطة الشعب مباشرة، هذا في الحالة المثلى، وفيما دون ذلك بواسطة وكلائه، على أن يتم ذلك في علانية، ووضوح، وتحت المراقبة، والمحاسبة المستمرة.. وتسعى الممارسة السياسية، وباستمرار لزيادة المشاركة الشعبية، ولزيادة علانية الحكم، والإدارة.. ولتأمين استقلال القضاء، وإلزام الأجهزة التشريعية، والتنفيذية، بتحقيق قدر أكبر من الحرية، والكرامة للمواطن..