إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
لقد ركزنا في الحلقة السابقة على سند الدستور من القرآن، وقلنا إن المسئولية الفردية أمام الله المقررة يوم تنصب موازين الحساب هي أصل الأصول.. وقلنا إن الإسلام في أصوله، الآيات المكية، أسس الحقوق الأساسية فى حق الحياة وحق الحرية لجميع الناس، لا فرق بين مواطن وآخر بسبب العقيدة، أوالعرق أوالجنس، وما منع التطبيق في القرن السابع الميلادي إلا قصور المجتمع الجاهلي، وعدم أهليته لاحترام حقوق المواطنة المتساوية، فقد انتهكوا الحقوق الأساسية للنبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، نفسه كما هومعروف في حادثة الهجرة.. ولذلك نسخت آيات الدستور (الأصول المكية) بعد الهجرة، واستعيض عنها بآيات الوصاية (الفروع المدنية) وشرعت من ثم، التشريعات المعروفة بالشريعة السلفية، وهي أقرب إلى الواقع آنذاك، لتدفع المجتمع في التطور نحوالحكم الدستوري تدريجيا، إلى أن يحين الوقت مرة ثانية لبعث آيات الأصول وأوردنا النصوص المستفيضة فى كل ذلك..
الشريعة، إذن، وكما هو واضح، ليست الكلمة الأخيرة في الإسلام، فالقصور ليس فيها هي، وإنما هو في العقول التي تحاول إقحامها في مشاكل مجتمع لم تفصل له أصلا.. فهي_ أعني الشريعة السلفية_ قد كانت حكيمة في غاية الحكمة حين فرضت الوصاية على أناس قصر، واستخدمت السيف في معالجة مشاكلهم، وذلك لأنها استعملت السيف كمبضع الطبيب لا كمدية الجزار، فاستأصلت أمراض ما كان ممكنا، من الناحلية العملية، استئصالها إلا بهذا الأسلوب ..
الدستور يمكن القول أن مصدره إجمالا هو روح القرآن، في آيات الأصول، وقد أشرنا إلى طائفة منها كمصدر للحقوق الأساسية، حق الحياة وحق الحرية.. ولكي نرسخ اتجاهنا، لتوضيح كيف أن القرآن مصدر الدستور، نسوق مثالا الآية: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر أو أنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير".. هذه الآية مكية لأنها تخاطب كل الناس وليس المؤمنين وحدهم، فهي آية تعتبر الناس مسئولين، وهي تدعوهم إلى أن ينصهروا في بوتقة المجتمع في وحدة، لا تمييز بينهم على أساس العقيدة أو الجنس أو اللون أو العرق، وهذا هو معنى "شعوبا وقبائل لتعارفوا" وتدعوهم أيضا إلى أن يعتمدوا حسن الخلق، أي الكفاءة ميزانا للمفاضلة بينهم، وهذا هو معنى " أتقاكم" وقد قال النبي الكريم التقوى ها هنا وأشار بيده إلى قلبه، ليوضح أن صفاء السريرة في داخل النفس هو المقصود وليس مجرد الاعتقاد بلا عمل..
إذن روح القرآن في هذه الآية، تؤسس للتواصل بين الناس من أجل نبذ التعصب القبلي، والعنصرية وتدعو إلى ترسيخ دعائم الوحدة الجغرافية، خاصة بين أطراف البلد الواحد، ثم الاجتهاد على الدوام، لخلق وسائل للتواصل مع المجتمعات حيث وجد البشر.. فإذا نظرت إلى النص الدستوري المنبثق من هذا المصدر، وهو الوحدة والعمل على جعلها جاذبة على الدوام، تجد أن عملية انفصال الجنوب التي تمت مؤخرا، مخالفة تماما لروح القرآن، ولنص الدستور.. وتقع المسئولية فيها- أي هذه المخالفة- في المقام الأول على السيد رئيس الجمهورية، ثم على معاونيه من حركة الأخوان المسلمين والسلفيين عموما.. والسبب الأساسي لهذه النتيجة المأساوية تحت تجربة الدستور الانتقالي، هو غياب الفهم الاسلامي المستنير، فقد ظل المسؤولون في السلطة يخالفون الدستور الذي وقعوه بأيديهم، بصورة مستمرة، في مواد الحقوق الأساسية بخاصة، حتى افتقد المراقبون، والمواطنون عامة، أي أمل في الوحدة، وصار الانفصال واقعا معاشا قبل إجراء الاستفتاء، والوحدة تحولت إلى هيكل بلا محتوى !!
إن القاعدة الأساسية التي انطلقنا منها لتأسيس مفهوم الدستور، كما أسلفنا، إنما ترتكز على الإنتقال من الشريعة التي طبقت في المدينة في القرن السابع الميلادي إلى شريعة جديدة قائمة على السنة النبوية، وخطتها بعث آيات الأصول المكية التي نسخت في ذلك الوقت لأنها أكبر من طاقة المجتمع، ونسخ الآيات المدنية المحكمة في الشريعة السلفية، أي هجرة عكسية من المدينة إلى مكة من جديد !!
إن مثل هذا التحول الكبير بكل المقاييس،كان يقوم به في الماضي الأنبياء الرسل، فكيف يتسني لإنسان أن يدعو لمثل هذا التحول الأساسي الجوهري في الدين وهو ليس نبياً ؟؟
الجواب هو: إن الله فتح طريق المعرفة أمام الناس، ودعاهم لتطبيق المنهاج النبوي بتجويد واتقان، ليعلمهم أسرار دينه، وليس لهذا التعليم حدود، فكلما زاد الإنسان في التقوى زاده الله في العلم.. ولذلك قال النبي الكريم: (علماء أمتي كأنبياءِ بني إسرائيل) وقال أيضاً: (إن من أمتي لأناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء ويغبطهم الأنبياء والشهداء لمكانتهم من الله)..
ما هي وسيلة الدعوة إلى الناس؟ هي الحجة بالمنطق والإقناع وبحسن السيرة والإستقامة..
إن الرسالات السماوية مربوطة إرتباطاً وثيقاً بحركة تطور المجتمع وبالأعراف التي يتواضع عليها الناس.. ويمكن أن نلخص مسيرة البشرية من خلال دورتين: الأولى دورة الحقيقة والثانية دورة الشريعة، والدورتان محكومتان بالآية: (هو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم)..
أولا: دورة الحقيقة: الحقيقة في معناها العام، هي ما عليه الخلق من خير وشر.. وهي الفترة التي ليس فيها رسالة نبوة، وإنما تتحرك البشرية من خلال الصراع في الحياة بوسيلة العقل حسب ما تعطيه التجربة في الوقت المعين.. فتنبت أعراف من هذا الواقع، وتصبح قواعد ثابتة ينبني عليها العمل في تنظيم المجتمع..
ثانيا: دورة الشريعة: تبدأ دورة الشريعة، بظهور نبي مكلف برسالة، فيقوم هذا النبي المرسل الممدود بواسطة الوحي الملائكي بتنقية تلك الأعراف، فيبقي على الصالح منها ويزيل غير الصالح.. وبهذا تكون شمس الشريعة قد سطعت في كبد السماء.. ثم يمضي الزمن ويطول، وتتغير أوضاع الناس، فتضيق تلك الشريعة أمام المستجدات، خلال حركة المجتمع الصاعدة، فيخرج المجتمع عنها شيئا فشيئا، حتى يدخل الناس في دورة الحقيقة مرة ثانية وقد تتبقى صور شكلية من الشريعة السابقة لا وزن لها في ميزان القيمة الإنسانية.. فتنبت أيضاً أعراف جديدة لا تنضبط إلا إذا جاء نبي مرسل جديد بشريعة جديدة، وهكذا تستمر حركة التطور.. إن مثل الأنبياء في التعامل مع الأعراف الاجتماعية، كمثل المزارع الذي يزرع القمح فتنبت الحشائش الضارة، فيقوم المزارع بإزالة الحشائش ويترك القمح لينمو.. وإعتماد التشريع على أعراف المجتمع وارد في القرآن بكلمات العرف والمعروف في حوالي تسعة وثلاثين موضعاً، وكمثال: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)..
إن هذه المسيرة لم تتوقف إلى الآن.. وعندما جاء الإسلام في مكة نظر في الأعراف التي تواضع عليها الناس، فأقر ودعم إكرام الضيف وإغاثة الملهوف، وأزال وأد البنات وعبادة الصنم.. ثم أقام شريعته في المدينة من وحي ذلك الواقع، فنسخ القيم الرفيعة، التي ثبت بالتجربة العملية أنها أكبر من طاقة المجتمع في ذلك الوقت، ولكنه ترك الآيات الداعية إليها في المصحف، بالرغم من أنها معطلة في الحكم لاتاحة الفرصة أمام الناس، للعودة إليها متى ما توفرت الظروف.. وبمرور الزمن ضاقت تلك الشريعة عن أن تواكب حركة التطور السريعة، فأستجدت الآن في الحياة الحديثة مفاهيم وأفكار جديدة انطلقت من التطور في العلم المادي.. نحن إذن، في فترة حقيقة، ونحتاج إلى دورة شريعة تعيد شمس الشريعة إلى كبد السماء، فتوجه البشرية التوجيه الروحي المطلوب بنفس القدر الذي كان يقوم به الأنبياء السابقون من حيث المحتوى الرسالي.. فإذا نهض عارف بالله قوي الحجة مستقيم السيرة فتصدى لهذا التحدي وأخرج من القرآن معالم الشريعة الجديدة، فليس للناس حجة في رفض هذه الدعوة لمجرد أنه ليس نبياً.. وإنما يجب أن ينظروا في الاستقامة، وقوة الاستدلال بالقرآن والسنة النبوية.. إن الدور الذي كان يقوم به النبي المرسل في الماضي لم يتوقف، وإنما توقفت النبوة الممدودة بالوحي الملائكي لحكمة أن الناس يمكن أن يأخذوا المعرفة من القرآن.. إن ملخص ما يدعو إليه الأستاذ محمود محمد طه، وهو بعث آيات الأصول المنسوخة لتكون هي هادية التشريع في وقتنا الحاضر، فانظروا بدقة في محتوى هذه الدعوة ..
كيف نشأت مباديء الحكم الدستوري، كأعراف جديدة عبر الصراع الاجتماعي الطويل، بين البشر ؟؟ وما هي الاضافة أو التصحيح الذي يمكن أن يقدمه الإسلام في مستواه العلمي، ليدفع المسيرة نحو تحقيق إنسانية الإنسان ؟؟ الإجابة على هذين السؤالين، ستكون موضوع الحلقة الثالثة من هذا البحث..
لقد حذر الأستاذ محمود كثيرا، ومنذ عقود من الزمن، من خطورة الأفكار الخاطئة في الدعوة إلى الإسلام، ففي كلمة نشرت بجريدة ( أنباء السودان ) يوم 6 / 12 / 1958م جاء ما يلي:
( دعاة الفكرة الإسلامية في هذا البلد كثيرون، ولكنهم غير جادين، فهم لا يعكفون على الدرس والفكر، وإنما ينصرفون إلى الجماهير، يلهبون حماسهم، ويستغلون عواطفهم، ويجمعونهم حولهم بغية السير بهم، إلى ما يظنونه جهلا دستورا إسلاميا.. وهم إنما ينصرفون عن الدرس والفكر، ظنا منهم أن الفكرة الإسلامية موجودة ومبوبة ومفصلة، لا تحتاج إلى عمل مستأنف، ولا إلى رأي جديد.. فلست أريد أن أشق على أحد من دعاة الفكرة الإسلامية، فإن أكثرهم أصدقائي، ولكن لا بد أقرر أن في عملهم خطرا عظيما على الإسلام وعلى سلامة هذا البلد.. ثم يجب أن نعرف جيدا أن الإسلام بقدر ما هو قوة خلاقة خيرة إذا ما انبعث من معينه الصافي، واتصل بالعقول الحرة وأشعل فيها ثورته وانطلاقه، بقدر ما هو قوة هدامة اذا ما انبعث من كدورة النفوس الغثة، وأثار فيها سخائم التعصب والهوس.. فإذا ما قدر لدعاة الإسلام الذين أعرفهم جيدا، أن يطبقوا الدستور الاسلامى الذى يعرفونه هم، ويظنونه إسلاميا، لرجعوا بهذه البلاد خطوات عديدات إلى الوراء، ولأفقدوها حتى هذا التقدم البسيط، الذي حصلت عليه في عهود الاستعمار، ولبدا الإسلام على يديهم، كأنه حدود، وعقوبات، على نحو ما هو مطبق فى بعض البلاد الاسلامية ، ولكانوا بذلك نكبة على هذه البلاد، وعلى الدعوة الاسلامية أيضا ) .. انتهى..
أما بعد، أليس من حقنا نحن_ السودانيين_ أن نرفع رأسنا عاليا ونشكر الله بأن بعث من أبناء هذا البلد، من يقدم فكرة متماسكة، من الإسلام، ينتظر منها أن تريح الناس من الشرور التي يمكن أن تنشأ من الأفكار السطحية الهدامة، التي لن يسلم من ويلاتها إنسان على هذا الكوكب !!؟؟..