إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
قبل اكثر من ربع قرن وزع الجمهوريون منشورهم الشهير هذا او الطوفان والذي نبه فيه الأستاذ محمود من أن طريق القوانين التي أشتهرت بقوانين سبتمبر ستؤدي إلى تهديد وحدة البلاد، وقد كان. ونحن لا زلنا نعبر في حقبة ذلك الطوفان الذي بدأ بإنفصال الجنوب ثم طوفان تونس ومصر. ولم يهدأ الطوفان بعد، ونحن لا زلنا نعيش تداعيات نبوءة الأستاذ وكأنها قد كتبت بالأمس. ونرجوا ان يكون ما بعد الإنفصال خاتمة ذلك الطوفان وبداية عهد جديد فيه يشرق أرض السودان نور جديد عبر فجر جديد.
قامت فكرة المنشور على نقد لتقنين الشريعة الذي قام به نظام جعفر نميري. لذلك سأركز في هذه الخواطر على مسألة الفهم الخاطيء للنص الديني وغياب النظرة الكلية للدين كأحد أسباب أزمة الإنسان المسلم اليوم ومن ضمنهم مسلمي السودان. من إشكاليات العقل الديني بصورة عامة هي عدم القدرة على بسط احتمال النجاة لكل الناس، والفشل في تحقيق قيمة المواطنة لكل الناس على قدم المساواة بغض النظر عن الدين او العرق. وبسط قبول المساواة مع كل الأعراق ومحو ذلك الشعور البغيض المتخفي الذي به نستعلي على الآخر الثقافي والآخر العرقي. ونصيب العقل المسلم والعربي وافر من هذه الإشكالية. كذلك هي ظاهرة اكثر وضوحا لدى العقل السوداني الشمالي. جاء في منشور هذا اوالطوفان ذكر الآية في مقدمة المنشور "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة..." وهي تعبر عن حقيقة تاريخية من أنه وبصورة عامة الخير يخص بسبب انتشار الشر بينما الشر يعم بسبب قلة فاعلي الخير. وهكذ قد هدد المسيح شعب إسرائيل الأولى بعد أن يئس من إقناعهم ببسط الدين والخلاص لكل الناس بسببب تشديدهم على خصوصية شعب إسرائيل وخصوصية الشريعة الموسوية بقولهم "ليس علينا في الأميين سبيل". او كما قال عنهم المسيح (أن تحب قريبك وتبغض عدوك" حين رفض شعب إسرائيل القديم رسالة السيد المسيح يقول الإنجيل إن المسيح ندب حظ إسرائيل وأنذر بسوء مستقبل أيامها بقوله "إنك لو علمت أنت ايضاً حتى في يومك هذا ما هو لسلامك ولكن الآن قد أخفي عن عينيك. فإنه سوف تأتي أيام ويحيط بك أعداؤك... ويحاصرونك من كل جهة ويهدمونك وبنيك فيك ولا يتركون حجراً على حجر لأنك لم تعرفي زمان إفتقادك" بعد أربعين سنة من قوله هذا هدم الرومان إسرائيل القديمة وهدموا الهيكل واحرقوه. لقد رفضت إسرائيل سلام المسيح ثم رفضت سلام روما فاستبدلوا بحرب روما. واليوم نلاحظ أن العرب المسلمين رفضوا سلام مصلحيهم من مثل الأستاذ محمود وغيره ثم رفضوا سلام روما الحديثة (امريكا) إذا رفضوا المبادرات ولم ينقذهم إلا كامب ديفيد. لذلك استبدل سلام بعضهم بحرب امريكا (العراق ودول الرفض). الذين صلبوا المسيح (حسب رواية الإنجيل) هم عدد محدود من فقهاء اليهود وشيوخهم ولكن العقاب حين نزل لم يفرق بل شمل كل شعب إسرائيل. نورد هذه المقارنة مع فارق الوضع والظروف. فما هي الأسباب التي أدت لعصبية يهود ذلك الزمان للدرجة التي قرروا بها قتل السيد المسيح؟ اعتبر اليهود بأن السيد المسيح جاء لينقض الشريعة الموسوية. فكيف نوفق بين قول السيد المسيح وبين افعاله؟ فهو قد قال "ماجئت لأنقض بل لأكمل" واقواله وافعاله الأخرى بحسب نص الإنجيل مناقضة للشريعة! قال المسيح ما جئت لأنقض بل لأكمل. لا يمكننا إستيعاب هذه المفارقة وحل لغزها إلا بالفهم العميق لمفهوم الشريعة (يسميها اليهود بالناموس). فاليهود كانوا يتحدثون عن ظاهر الشريعة (احكامها) بينما السيد المسيح كان يتحدث عن جوهر الشريعة (حكمتها). والقرءان يقول أن يحيى جاء بالكتاب بينما المسيح جاء بالحكمة. نجد في الإسلام نفس تلك الثنائية بين الأحكام والحكمة. فالإمام الشافعي في بحثه عن قاعدة عريضة من النصوص يقيس عليها قال إن الحكمة هي السنة بينما لاحظ نصر حامد ابو زيد بأن الحكمة ليست هي السنة بهذه البساطة. وقد حاول بعض الفقهاء المجددون الإلتفاف على هذه الإشكالية عبر فكرة المقاصد والتي هي إكتشاف خطير في فهم الشريعة بقولهم بأن للشريعة مقاصد. وبالتأكيد هذه المقاصد تحمل معنى الحكمة من الشريعة بوجه من الوجوه. هذه المقاصد نجد فيها معنىً من معاني الحكمة التي اراد السيد المسيح ان يكمل بها الشريعة الموسوية، وعلى أساس التوسع في مفهوم المقاصد يمكننا ان نبني جسر بين الشريعة والحقيقة، وبين الإسلام والحداثة، وبين الإسلام والمسيحية. فالحكمة هي تمام الشريعة وكمالها، فالمسيح كان يتحدث عن إكمال الشريعة بالحكمة. عندما فشل رجال الدين اليهود في الماضي والمفكرون في التوفيق بين الأحكام والحكمة وضعوا كل المشروع اليهودي في مهب الريح. وضعوه في المحك بين الإنفتاح او الإنغلاق والموت. وبذا تم إستبدالهم بقوم آخرين. هنا نلاحظ النزعة المسيحوية (الخلاصية) في فكر الأستاذ محمود محمد طه حين أعلن بأن القرءان المكي هو الأصل. وهذه الأصولية التي وصف بها القرءان المكي يمكننا ان نفهم منها معنى الحكمة ومعنى المقاصد للدين. لاحظ الأستاذ محمود مفارقة المجتمعات الإسلامية لحكمة الدين ثم لاحظ إهتمامها وتشوقها لأحكام الدين (جانب تقنين الشريعة عبر الشعار الشهير "القرءان دستور الأمة". فخاف عليهم من الوقوع تحت طائلة قانون المعاوضة والإستبدال فقال "هذا أو الطوفان". إشكالية المسألة الإسلامية هي أن الحكمة قدمت أولاً ثم بعد ذلك جاءت الأحكام. فمكة هي تمام المدينة وليس العكس. بينما نجد الوضع مختلف في المشروع اليهودي المسيحي. حيث كانت الشريعة والكتاب اولاً ثم جاء المسيح بالحكمة والبيان والعلم. بصورة عامة نلاحظ ان الوحي فيه الحسن والأحسن. فالكتاب باحكامه حسن في زمانه بينما الحكمة هي الأحسن في زمانها. وقد أمر موسى (ع). قيل لموسى (وأمر قومك يأخذوا بأحسنها). وقيل للمسلمين (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم...) وقيمة الحسن والأحسن يحكمها الزمان وحاجة الناس. هذه الحقيقة هي الغائبة عن الكثير من علماء اليوم. ضرورة الوضع اليوم تقتضي النظرة التجديدية الكاملة بسبب أن النظرة التقليدية قد استوفت مقاصدها ووصلت بالمشروع لنهاياته ونحن الآن على اعتاب حقبة جديدة لم يستوعب حقيقتها رجال الدين اليوم وهو وضع يطابق النص الذي قاله المسيح (لم تعرفي وقت افتقادك) هم يريدون أن يسيروا بنا سيرة السلف (ربما عن حسن نية) بدون أي تجديد ولم يعرفوا علامات الزمان. لقد إصطدمت العناية الإلهية بالواقع في اليهودية والمسيحية والإسلام. فقال المسيح جئت لأكمل. وقال الأستاذ محمود – مكة لم تحتمل قرءان مكة فنسخ بقرءان المدينة وهذا معناه ان تطبيقات المدينة لم تكن غاية ما ترجوه عناية السماء ويكملها قرءان مكة. يقول الدكتور مون مؤسس حركة التوحيد العالمية بأن المسيح لم يأت ليموت على الصليب (حسب الفهم المسيحي التقليدي). وهذا معناه أن الخلاص عبر الصليب ليس غاية ما ترجوه عناية السماء وإنما هو البديل المتاح. وهذا يحمل معنى أن الكمال الذي كان يرجوه السيد المسيح للمشروع اليهودي لم يتحقق في ذلك الزمان، الأمر الذي إستدعى مجيء الإسلام ومجيء المسيح مرة اخرى. وهذا يحمل معنى مقاصد العناية الإلهية في المشروع الإسلامي حين كان مركز العناية والتدبير الإلهي في قريش ومكة ثم إستبدلتا بالأنصار والمدينة. مشكلة الواقع والظروف القاهرة الحاكمة التي يواجهها الأمر الإلهي مشكلة قديم نوه لها القرءان في الكثير من القصص. وهذا داء قديم من عهد آدم، فالدين هو البديل المتاح لجنة الله في الأرض وليس أصل في الوجود بنص القرءان. هذا يقودنا لخطورة الوضع الذي تعيشه المجتمعات الإسلامية (بما فيها المجتمع السوداني الشمالي) اليوم التي لم تستوعب درس التاريخ من أن غاية الدين ليس في أشكاله ومظاهره وإنما في جوهر ممارساته ومقاصده والغاية التي يحققها والتي هي مراعاة حقوق الناس وحرياتهم والعدل بينهم والمساواة بينهم في الحقوق والواجبات. هذه الجواهر والمقاصد يلاحظ ان الغالبية العظمى من المجتمعات الإسلامية والدول الإسلامية والحكومات الإسلامية مفارقة لها . وهذا وضع مهدد لبقائها بسبب ان قانون الوجود لا يتغير فنفس القانون الذي تحدث عنه السيد المسيح في تهديده لإسرائل القديمة ينطبق اليوم على العالم الإسلامي وهذا هو السر في فشل المسلمين والعرب اليوم في التغلب على إسرائيل بسبب أنه بالرغم من ظلم إسرائيل الحديثة واخطائها الكبيرة في حق العرب إلا ان ظلم الحكومات العربية والإسلامية لشعوبها وظلم الشعوب نفسها لنفسها اخطر وأجل من الظلم الواقع من إسرائيل. من هنا نفهم بأن نبوءة الطوفان المحمودي هي إنذار للمسلمين بضرورة التجديد والإنفتاح خصوصاً مسلمي السودان، وإنفصال الجنوب هو بداية ذلك الطوفان الذي بدأ بالسودان وعبر إلى تونس ومصر وليبيا وموريتانيا. في هذا الزمان يكون في رفض التجديد والإنفتاح وبسط الحريات والعدل بين الناس (منحهم حقوقهم) وفي رفض الشفافية والصدقية رفض لواقع الدهر الذي فرضته السماء بأيديها على الأرض. لأن في رفض هذه المبادي تقصير عن المعيار الذي يحدد تقدم الأمم ويمنع تدهورها. إنها نبوءة طوفان الحق والحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدل بين الناس، والتي جاءت مثل زلزال التسونامي لتجتاح كل منطقة شمال إفريقيا لتعمها كلها بما في ذلك عموم إفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط.
*المركز العالمي لثقافة السلام