إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الأستاذ محمود محمد طه والمثقفون (١٩)

عبدالله الفكي البشير


الأستاذ محمود محمد طه والمثقفون (19)


الأستاذ محمود في التراجم والمعاجم وموسوعات الاعلام السودانية


عبدالله الفكي البشير

في عام 1968م أهدى الأستاذ محمود محمد طه (1909م-1985م) كتابه: زعيم جبهة الميثاق الإسلامي في ميزان: 1. الثقافة الغربية 2. الإسلام، إلى الشعب السوداني، قائلاً: (إلى الشعب السوداني: الذي لا تنقصه الأصالة، وإنما تنقصه المعلومات الوافية.. وقد تضافرت شتى العوامل لتحجبه عنها).


التراجم والمعاجم وموسوعات الاعلام


كُتب التراجم والمعاجم وموسوعات الاعلام هي كُتب تعرف حياة عدد كبير من الأفراد اللامعين والبارزين في المجتمع من العلماء والمؤرخين والأدباء والمهنيين ورواد الفكر والمشاهير من الساسة والأعيان ...إلخ، وترتب بطريقة محددة هجائية/ تاريخ الوفاة أو الميلاد...إلخ. كان الاهتمام في البدء ينصب في الترجمة للأموات، ثم شمل الترجمة للأحياء والمعاصرين. ومن التراجم ما هو عام مثل: (الأعلام: قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين) لخير الدين الزركلي (10 مجلدات). ومنها المتخصص الذي يترجم للأعلام حسب الحقبة التاريخية أو حسب الموضوعات أو الجغرافية/ المكانية أو حسب تخصص معين، ومن نماذج ذلك (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) لابن حجر العسقلاني، و)تاريخ قضاة الأندلس) للنبهاني، و(معجم أدباء مصر)، لمسعود شومان، 2004م. ومن نماذج الموسوعات العامة، موسوعة دائرة المعارف الإسلامية، ومن نماذج موسوعات الاعلام الحديثة موسوعة أعلام المغرب. ومن نماذج التراجم العالمية السلسلة الشهيرة "Who’s who" وسلسلة Who’s was Who . هذه فكرة مجملة ومختصرة حول كتب التراجم والمعاجم وموسوعات الاعلام، تعطي صورة تقريبية وتعريف مبسط دون خوض في التفاصيل.

صناعة التراجم والمعاجم وموسوعات الاعلام في السودان


يُعد كتاب (كتاب الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان)، لمحمد بن ضيف الله (1728م-1810م)، أول معاجم الشخصيات في السودان. ويرى البروفسير يوسف فضل حسن، وهو الذي عكف على تحقيق (كتاب الطبقات): أن تقليد تأليف التراجم والطبقات امتد إلى سودان وادي النيل بعد أن غلبة عليه الثقافة العربية الإسلامية في عهد سلطنة الفونج (1504م-1821م). فالتجربة العربية الإسلامية ثرة ولها أرث خاص في إعداد التراجم البيوغرافية وكتب الطبقات من سير العلماء خاصة علماء الحديث النبوي الشريف. فكان (كتاب الطبقات) أول معاجم الشخصيات، بل لعله الوحيد الذي كتب في ذلك العهد. (يوسف فضل حسن، حواشٍ على متون: علماء ومؤرخين ومفكرين في تاريخ أفريقيا والسودان، سوداتك المحدودة، الخرطوم، ط1، 2007م، ص 114، 117). وأشار البروفسير يوسف إلى أن بعض الكتب في السودان ترسمت نمط ابن ضيف الله في الطبقات وركزت على شخصيات دينية، منها كتاب (إرشاد الساري لتراجم آل عيسى الأنصاري)، الخرطوم، 1955م، تأليف محمد عبدالمجيد السرَّاج. ثم امتد النشاط ليشمل شخصيات أخرى، وأشار البروفسير يوسف إلى كتاب: (شخصيات عامة من الموردة) لميرغني حسن علي (جامعة أم درمان الإسلامية، أم درمان، د. ت.) وترجم فيه المؤلف لأثنى عشر شخصية من حي الموردة. وكذلك كتاب: (صحيح المخبر عن أعلام بربر: تاريخ وتراجم)، لمؤلفه باشري عبدالرحمن الذي ترجم فيه لأعيان بربر. ثم امتد النشاط ليشمل الترجمة للسياسيين خاصة رجال الحركة الوطنية، والأدباء والفنانين والعلماء والمهنيين. ومن ذلك: معجم سير (أوشخصيات) السودان لرتشارد هِلّ، Richard Hill, A Biographical Dictionary from Sudan الذي صدر في طبعته الأولى عام 1951م والثانية عام 1967م. وأشار البروفسير يوسف إلى أن هذا المعجم يهتم بالأعلام من السودانيين وغيرهم ممن عملوا في السودان، كالأتراك والمصريين والبريطانيين وروّاد الفكر السوداني.

توسع النشاط في كتب التراجم والمعاجم وموسوعات الأعلام في السودان في الربع الأخير من القرن العشرين. فقد ظهر على سبيل كتاب الأستاذ يحيى محمد عبدالقادر (1914م-؟؟؟)، (شخصيات من السودان: أسرار وراء الرجال، (ثلاثة أجزاء)، الخرطوم، المطبوعات العربية للتأليف والترجمة، ط2، 1987م). لم أتمكن من معرفة تاريخ صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب، ولكني أحسب أن مذكرات الأستاذ يحيى: "على هامش الأحداث في السودان" كانت تمثل النواة لهذا الكتاب. فقد تضمنت المذكرات فصلاً بعنوان: شخصيات، تناول فيه نحو أربعين شخصية جُلُّهم من طلائع المتعلمين. وكان الأستاذ يحيى قد نشر مذكراته أول مرة في صحيفته صحيفة "أنباء السودان" التي صدرت خلال الفترة من 1953م إلى 1969م، ثم نشر مذكراته لاحقاً في كتاب وقد أشار لذلك في مقدمته. أيضاً، ظهر في نهاية ثمانينات القرن الماضي (معجم الشخصيات السودانية المعاصرة) لأحمد محمد شاموق، بيت الثقافة، الخرطوم، 1988م. ويرى البروفسير يوسف أن هذا المعجم ركز على الأحياء، وهو أقرب إلى المعاجم الحديثة، ويحذو نهج معاجم Who’s Who. ثم ظهر كتاب محجوب عمر باشري، رواد الفكر السوداني، دار الجيل، بيروت، ط1، 1991م، الذي ترجم لنحو مائة وسبعة عشر شخصية جُلُّهم من طلائع المتعلمين. ثم كان كتاب البروفسير محمد إبراهيم أبو سليم (1927م-2004م) (أدباء وعلماء ومؤرخون في السودان، دار الجيل، بيروت، لبنان، ط1، 1991م). ثم ظهرت أضخم موسوعة للقبائل وأشهر الأعلام في السودان لمؤلفها البروفسير عون الشريف قاسم (1933م-2006م) وهي (موسوعة القبائل والأنساب في السودان وأشهر أسماء الأعلام والاماكن)، شركة آفروقراف للطباعة والتغليف، الخرطوم، ط1، 1996م. ثم جاء كتاب البروفسير يوسف فضل حسن آنف الذكر (حواشٍ على متون: علماء ومؤرخين ومفكرين في تاريخ أفريقيا والسودان)، وغير ذلك من كتب التراجم والمعاجم وموسوعات الأعلام التي صدرت في السودان. تجدر الإشارة إلى أنني لا أسعى في هذا المقال إلى رصد هذه الكتب وتتبع تسلسل صدورها في السودان، بقدر ما أنني أسعى لتقديم إضاءات حولها ومن ثم التركيز على الترجمة للأستاذ محمود في أهمها.

الأستاذ محمود في التراجم والمعاجم وموسوعات الاعلام


لم يكن الأستاذ محمود من ضمن الأعلام الذين تناولهم البروفسير محمد إبراهيم أبو سليم والبروفسير يوسف فضل حسن. لقد تناول البروفسير أبو سليم في كتابه: (أدباء وعلماء ومؤرخون في السودان)، تسعة من الأعلام، ، كان من بينهم محمد أحمد المحجوب ومكي شبيكة. وذكر أبو سليم في مقدمته أنه عزم على اعداد بحوثاً مماثلة لبعض الشخصيات، وعدَّد بعض الاسماء، وظلت الفكرة في باله لا تبارحه كما ذكر. وتناول البروفسير يوسف في كتابه: (حواشٍ على متون: علماء ومؤرخين ومفكرين في تاريخ أفريقيا والسودان)، ستة من الأعلام، كان من بينهم البروفسير محمد إبراهيم أبو سليم، والبروفسير عون الشريف قاسم، والسيد الأمام الصادق المهدي. وقد ذكر البروفسير يوسف في مقدمته قائلاً: إنه ليس بصدد كتاب عن السير الذاتية أو الشخصية، رغم أهمية هذه الكتب من الناحية التاريخية، إنما هو بصدد قراءة ودراسة وتحليل بعض انتاج هذه الشخصيات. ومن التراجم أيضاً، كتاب الأستاذ يحيى آنف الذكر: (شخصيات من السودان: أسرار وراء الرجال، (ثلاثة أجزاء)، سبق وأن تحدثت عن كتاب الأستاذ يحيى ومذكراته، وتناولت ما جاء فيهما عن الأستاذ محمود، كان ذلك في الحلقة الخامسة عشر من هذه السلسلة (2 ديسمبر 2010م)، فلا حاجة إذن للتكرار.
أما الكتب التي جاءت فيها ترجمة عن الأستاذ محمود، فقد انطوت الترجمة فيها على كثير من الأخطاء والتقليل من الشأن والوزن للأستاذ محمود والاهمال لدوره النضالي في مواجهة المستعمر. كما أنها أغفلت ذكر أهم الأحداث التي صنعها الأستاذ محمود وكان جُلُّها جديداً وغريباً في حركة المجتمع السوداني، وخارجاً عن التشابه سواء في انماط فكره أو طرق تفكير أعلامه. وهي أحداث في غاية الأهمية، تعني الأجيال الجديدة، وتعين كثيراً في دراسة حركة المجتمع السوداني؛ إلا أن تلك الأحداث لقيت الإهمال من المؤرخين، الذين كانوا يهتمون بدراسة وتوثيق المنسجم مع السائد والمألوف ويهملون الخارج عن التشابه. وفي تقديري، أن الخارج عن التشابه، هو الأهم والأجدى والأنفع. كان من هذه الكتب كتاب: محجوب عمر باشري (رواد الفكر السوداني)، الصفحات (361، 364). وموسوعة البروفسير عون الشريف قاسم: (موسوعة القبائل والأنساب في السودان وأشهر أسماء الأعلام والاماكن)، ج 6، ص (2244). اعتمد البروفسير عون الشريف قاسم في ترجمته عن الأستاذ محمود على كتاب محجوب عمر باشري، إلى جانب كتاب آخر أصدرته مجموعة من علماء الشئون الدينية بعنوان (الاسلام رسالة لا رسالتان). ونسبة لضيق المساحة المخصصة لهذا المقال سأقف عند الترجمة التي وردت عن الأستاذ محمود في موسوعة البروفسير عون الشريف قاسم، التي استند فيها كما ذكرت على كتاب باشري، وقد أشار عون إلى ذلك، وسأتوسع في هذا الأمر حينما أعد هذه الحلقات للنشر في كتاب. من المعروف، أن البروفسير عون الشريف قاسم أكاديمي له مكانة مرموقة وصاحب سهوم معرفية كبيرة. قال عنه البروفسير يوسف فضل حسن في كتابه آنف الذكر، صفحة (112): (ينتمي البروفسير عون الشريف قاسم لجيل الأعمال الكبيرة، وهو الجيل الذي تلقى تدريباً أكاديمياً رفيعاً وفق المنهج العلمي الأوروبي، مع تملكه لأدوات المعرفة العربية والإسلامية. فعمل بمعاول هذا التدريب وأدوات تلك المعرفة في حقل الدراسات السودانية البكر على تلك الأيام مستفيداً من غنى المادة وخصوبتها، وبراعة الأكاديمي وحرفيته، فحقق بذلك نجاحاً كبيراً، وأنجز دراسات ضخمة، أرست قواعد الدراسات السودانية).
ذكر البروفسير عون في موسوعته قائلاً: (محمود: واشتهر محمود محمد طه (1916م-1984م) من صادقاب رفاعة ينتسب إلى الشيخ محمد الهميم (م) خاله الشيخ لطفي عبدالله تلقى الهندسة بكلية غردون وكان مهتماً بقضايا الفلسفة والمنطق وله تعقيبات على هوايتهد وبراتراند رسل. اشتغل مهندساً بعطبرة وقرأ القرآن وعلق على المفسرين ثم استقال من الحكومة وكون الحزب الجمهوري حزباً للخاصة إذ لم تتعد عضويته العشرة اعضاء وكان يعارض كل افكار الاحزاب الاخرى واصدر المنشورات منذ عام 1945م وبدأ البوليس يلاحقه وسجن لعامين في كوبر وخرج من السجن شخصاً آخر إذ تصوف وبرز اتجاهه الديني وفي هذه الاثناء سجن لعامين آخرين لاقتحامه سجن مدني وتخليصه المرأة التي سجنت لخفاض ابنتها خفاضاً فرعونياً. اشتهر بمذهبه في فهم الاسلام والقرآن فهو يقسم القرآن إلى قرآن اصول في الفترة المكية وقرآن فروع في الفترة المدنية وأن الاسلام رسالتان رسالة أولى هي الاسلام كما عرفه المسلمون ورسالة ثانية تقوم على قرآن الاصول يتجدد بها الاسلام والف في ذلك عشرات الكتب والرسائل وحكم عليه بالردة وشنق).
بقراءة هذا النص وتحليل ما ورد فيه، نجد أن هناك الكثير من الملاحظات منها: أن تاريخ الميلاد غير صحيح، فالصحيح هو عام 1909م، وكذلك ورد عام 1984م، والصحيح هو عام 1985م وهو العام الذي تم فيه تنفيذ حكم الإعدام على الأستاذ محمود. أيضاً، أورد البروفسير عون أن الأستاذ محمود ينتسب إلى الشيخ محمد الهميم (وكذلك عند باشري)، وهذا غير صحيح. والصحيح كما ورد في موقع الفكرة الجمهورية، وهو موقع يشرف عليه تلاميذ الأستاذ محمود وهم أقرب الناس إليه، سمعوا منه ونقلوا عنه، جاء في موقع الفكرة الجمهورية على الإنترنت: (وُلد الاستاذ محمود محمد طه في مدينة رفاعة بوسط السودان في العام 1909م تقريباً، لوالد تعود جذوره الى شمال السودان ، وأم من رفاعة، حيث يعود نسبه الى قبيلة الركابية من فرع الركابية البليلاب نسبة الى الشيخ المتصوف حسن ود بليل... توفيت والدته – فاطمة بنت محمود - وهو لماّ يزل في بواكير طفولته وذلك في العام 1915م تقريباً، فعاش الاستاذ محمود وأخوته الثلاثة تحت رعاية والدهم، وعملوا معه بالزراعة، في قرية الهجيليج بالقرب من رفاعة، غير أن والده لمّا يلبث أن التحق بوالدته في العام 1920م تقريباً، فانتقل الاستاذ محمود وإخوانه للعيش بمنزل عمتهم برفاعة). (الفكرة الجمهورية: لمحات من فكر وحياة الأستاذ محمود محمد طه، موقع الفكرة الجمهورية The Republican Thought، الصفحة الرئيسية، "مولده ونشأته"، استرجاع (Retrieved) يوم 12 أبريل 2010م، الموقع على الإنترنت: http://www.alfikra.org). ويمضي البروفسير عون قائلاً: (وكوَّن الحزب الجمهوري حزباً للخاصة إذ لم تتعد عضويته العشرة اعضاء وكان يعارض كل افكار الاحزاب الاخرى). وهذا أيضاً، غير صحيح، فالحزب الجمهوري لم يكن حزباً للخاصة، وإنما كانت العضوية فيه مفتوحة للجميع بنص بيان تأسيسه ودستوره، كما أنه لم يكن يعارض كل أفكار الأحزاب الأخرى كما أورد البروفسير عون، بل كان يعارض منهج ومسلك طلائع المتعلمين في مواجهة القوى الاستعمارية. ويعارض أيضاً، سعى طلائع المتعلمين إلى التحالف مع القوى التقليدية في المجتمع لا سيما الطائفية. وكان للحزب رؤية حول المقاومة والاستقلال، وله رؤية لما يجب أن يكون عليه أمر السودان بعد الاستقلال خاصة فيما يتعلق بمشكلة الجنوب ومتطلبات وحدة السودان وأسس دستوره. (محمود محمد طه، أسس دستور السودان لقيام حكومة جمهورية فدرالية ديمقراطية اشتراكية). وكل هذا موثق وثابت في عدد كبير من المصادر والمراجع، منها كما أشرت في الحلقات السابقة كتاب أحمد خير المحامي(1905م-1995م)، (كفاح جيل: تاريخ حركة الخريجين وتطورها في السودان)، دار مطبعة دار الشرق، القاهرة، ط1، 1948م، وكتاب الأستاذ يحيى محمد عبدالقادر (شخصيات من السودان: أسرار وراء الرجال، (ثلاثة أجزاء)، وكذلك مذكراته، وقد سبقت الإشارة إليهما. وكذلك معظم كتب المؤرخ الدكتور محمد سعيد القدَّال (1935م-2008م)، وقد أورد القدَّال في كتابه: (تاريخ السودان الحديث 1820م-1955م، مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، أم درمان، ط2، 2002م)، صفحة (494، 495)، كما ذكرت سابقاً، أنه يرى –أي القدَّال- أن الحزب الجمهوري: (...أخرج دعوة الاستقلال من محيط المناورات وطموح السيد عبد الرحمن، إلى نقاء العمل السياسي الحقيقي من أجل الاستقلال فألبسها دثاراً ناصعاً جعل منها دعوة يمكن أن تلهم جيلاً بأكمله. كما أخرج العمل السياسي من دائرة المناورات والتكتيك، إلى رحاب العمل الفكري القائم على البرنامج الملزم المحدد الجنبات والآفاق). كما تحدثت الدراسات التي صدرت مؤخراً عن الحزب الجمهوري ودوره بتوسع أكثر، منها: كتابي الدكتور فيصل عبدالرحمن على طه، (الحركة السياسية السودانية والصراع المصري السوداني بشأن السودان (1936م-1953م)، مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي، أم درمان، ط2، 2004م)، و (السودان على مشارف الاستقلال الثاني (1954م-1956م)، مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، أم درمان، ط1، 2010م). ومنها كتاب الدكتور فرانسيس دينق: (صراع الرؤى: نزاع الهويات في السودان)، ترجمة عوض حسن محمد أحمد، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، ط2، 2001م، وغيرها.
تابع البروفسير عون حديثه عن الأستاذ محمود قائلاً: (واصدر المنشورات منذ عام 1945م وبدأ البوليس يلاحقه وسجن لعامين في كوبر). وهذا في تقديري، تقليل من الشأن والوزن للأستاذ محمود واهمال لدوره النضالي في مواجهة المستعمر، وخلل في المعايير. فالبوليس لم يلاحق الأستاذ محمود في شأن شخصي وإنما بسبب شأن عام، طارده حينما أصدر منشوراً، والمنشورات ضد المستعمر لا يُصدرها إلا المناضلون والأبطال المقاومون من أجل بلدانهم وشعوبهم. الأستاذ محمود هنا قائد وطني، ومناضل جسور. ما كان يجب أن يتبنى البروفسير عون الشريف وجهة نظر الإدارة الاستعمارية ويسمي نضال الأستاذ محمود ومواجهة للمستعمر "ملاحقة بوليسية". فقد بدأ الأستاذ محمود الهجوم على الإدارة الاستعمارية منذ عمله مهندساً في السكة حديد، كتب مقالة بعنوان "خجل الحضارة" ونشرها في صحيفة Sudan Star هاجم فيها الحكومة الاستعمارية، ورفض الانصياع للأوامر بالتحقيق معه، فأوقف عن العمل. (المنصور جعفر، "الاخوان الجمهوريون ... شكل ديني لما بعد الحداثة"، الرأي الآخر، مجلة الديمقراطي، مجلة التحالف الديمقراطي بالمملكة المتحدة، استرجاع (Retrieved) 9 نوفمبر 2010م، الموقع على الإنترنت: http://www.d-a.org.uk). ثم كان رئيساً للحزب الجمهوري، وسجن مرتين سبب نضاله ضد المستعمر، وشارك في أعمال وطنية عديدة عبر لجان كثيرة سبقت الإشارة إليها، هذا بالإضافة لما نشره من منشورات وكتب. كان يجب أن يكون هذا الموضع، موضع إشارة لدور للأستاذ محمود النضالي ضد المستعمر، ومساهماته في الحركة الوطنية وشراكته بالعطاء الوطني والمعرفي من أجل الاستقلال. للأسف لم يذكر البروفسير عون هذا، مع أنه كان يشير عند الحديث لأحد من طلائع المتعلمين إلى دوره في الحركة الوطنية، وإلى نشاطه السياسي وإلى مساهماته في مقاومة الاستعمار ونيل الاستقلال.
الشاهد أن تلك المعلومات الخاطئة، تسربت من كتاب الأستاذ باشري وموسوعة البروفسير عون، إلى الدراسات والبحوث والمقالات –على قلتها- حول الأستاذ محمود والفكرة الجمهورية. ففي كتاب الدكتور بكري خليل الذي أصدره بعنوان: (التأويل الصوفي للحداثة في الإسلام: عرض ونقد فكر وفلسفة الجمهوريين في السودان)، دار عزة للنشر والتوزيع، الخرطوم، 2004م، ص 19). أورد الدكتور بكري عن الأستاذ محمود قائلاً: (وهو سليل أسرة دينية، حيث يرجع نسبه إلى الشيخ محمد الهميم، الصوفي السوداني الشهير). لم يشر د. بكري إلى المصدر أو المرجع الذي اعتمد عليه في إرجاعه لنسب الأستاذ محمود إلى الشيخ الهميم، ولكنه أشار في هامش الصفحة إلى مصدره في التعريف بالشيخ محمد الهميم وهو (محمد النور بن ضيف الله، كتاب الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان، ط3، تحقيق د. يوسف فضل حسن، دار التأليف والترجمة والنشر، جامعة الخرطوم، 1985م، ص 127). كذلك جاء في كتاب الدكتور محمد أحمد محمود الموسوم بـ
Quest for Divinity: A Critical Examination of the Thought of Mahmud Muhammad Taha (Modern Intellectual and Political History of the Middle East) Syracuse University Press, Syracuse, USA, 2006
أن الأستاذ محمود يرجع في نسبة إلى الشيخ محمد الهميم. وهو أمر غير صحيح كما وردت الإشارة. صدر الكتاب باللغة الإنجليزية من مطبعة جامعة سيراكيوز بأمريكا، في ديسمبر عام 2006م، )296 صفحة). وهو يتناول بالنقد والتقييم فكر الأستاذ محمود محمد طه، ومؤلفه الدكتور محمد أحمد محمود، هو أكاديمي مرموق، وله العديد من الدراسات والبحوث الأكاديمية، منها ما هو في مجال مقارنة الأديان، عمل ولا يزال يعمل في الجامعات الغربية، وهو أستاذ سابق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم. التقى الدكتور محمد أحمد محمود الأستاذ محمود وقضى بعض الوقت في معيته، وكان لفترة وجيزة من بين تلاميذه، ولم ترد إشارة لذلك في الكتاب. وفي دراسة للدكتور قيصر موسي الزين كان عنوانها: (حركة الإخوان الجمهوريين بالسودان: الاتجاهات والمآلات، من مركز التنوير المعرفي، مقالات وأوراق بحثية، استرجاع (Retrieved) 18 ديسمبر 2010م، الموقع على الإنترنت: http://www.tanweer.sd). تحدث الدكتور قيصر عن نسب الأستاذ محمود واتصاله ببعض الشخصيات الصوفيه قائلاً: (واتصاله في هذا النسب ببعض الشخصيات الصوفية – مثل محمد الهميم من شخصيات طبقات ود ضيف الله، كما هو شائع، أو حسن ود بليل كما يقول بعض المقربين له).
الشاهد أن تلك المعلومات الخاطئة، بما انطوت عليه من تقليل لشأن الأستاذ محمود واهمال لدوره النضالي، وجحود في تقديمه كقائد وطني مناضل، تسربت من كتاب الأستاذ باشري وموسوعة البروفسير عون، إلى الدراسات والبحوث والمقالات –على قلتها- حول الأستاذ محمود والفكرة الجمهورية. كما أن ضعف الترجمة عن الأستاذ محمود، وقلة الدراسات حوله يعكس خللاً في معايير المؤرخين والأكاديميين وكتاب التراجم، كما خللاً أيضاً، في تقييمهم لأهمية الأحداث ومدى قيمتها وقيمة صُناعها. وبلا شك أن هذا أمر لا ينفصل عن العقل الثقافي المتحكم، ولا ينفك من نسق القيم السائد، إلى جانب صلته بنوع التعليم وسياساته، وطبيعة المؤسسات التعليمية والأكاديمية في السودان. الشاهد أنه حتى يومنا هذا- حسب علمي- لم تبادر أي مؤسسة أكاديمية أو مركزاً للدراسات في السودان إلى إقامة ملتقى أو مؤتمر أو ندوة حول الأستاذ محمود أو حول مشروعه أو من أجل الدراسة والتحليل لإنتاجه المعرفي، أو حول ما حدث له. سأتناول هذا الأمر في محور لاحق عنوانه: "الأستاذ محمود والأكاديميا السودانية".

نلتقي يوم الخميس القادم...

(نقلاً عن صحيفة الأحداث، الخميس 30 ديسمبر 2010م)