إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

التحدي الذي يواجه السودانيين (١١)

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق


التحدي الذي يواجه السودانيين (الأخيرة)


محمد محمد الأمين عبد الرازق


لقد حاولنا أن نوضح بشيء من التفصيل، خطأ دعوة الأخوان المسلمين والسلفيين عموما من ناحية الفكرة، وقلنا إن فكرة تطوير التشريع من آيات الفروع إلى آيات الأصول أصبحت ضرورة لا فكاك منها لمن يتصدى للدعوة إلى الإسلام، وإلا فإن من الأفضل الصمت لكي لا تشوه الشريعة، ويشوه الإسلام، ويجد الناس أنفسهم في فتن لا أول لها ولا آخر، كما هو الحال عندنا اليوم في السودان، جراء انهيار المشروع الحضاري المزيف.. ثم سلطنا الضوء على ضعف التربية الروحية، الذي ظهر بصورة محزنة في ناحية الممارسة، عندنا في السودان، خلال جميع مراحل الحكم الوطني، فقد تحول دعاة الأمس إلى عصابات منظمة، ضللت الناس باسم الدين لتنقض على ثروات البلاد، والمال العام حتى تحول الشباب الواعد إلى مهاجرين يجوبون أرجاء العالم المختلفة، لا لشيء سوى لقمة العيش !! ثم انتهى بنا الأمر إلى السؤال الكبير المحير: " هل يكون السودان أم يتفتت إلى دويلات ؟؟" فالمسألة ليست مشكلة الجنوب فقط، إذ أن جميع السودانيين، صاروا مواطنين من الدرجة الثانية، مهضومي الحقوق باستثناء عضوية المؤتمر الوطني!!
لقد أخرج الأستاذ محمود العديد من الكتب، والمنشورات للفت نظر الشعب السوداني، إلى خطورة هذا التنظيم، تنظيم الأخوان المسلمين ومن لف في فلكهم من السلفيين، وعلى سبيل المثال: "انقذوا الشباب من هذا التنظيم الدخيل " وكتاب من ثلاثة أجزاء تحت عنوان: " هؤلاء هم الأخوان المسلمين" وقد جاء إهداء الأخير هكذا: ( إنما يهدى هذا الكتاب إلى عامة الناس !! وبوجه عام.. ولكنه إنما يهدى بوجه خاص، إلى الأخوان المسلمين !! ويهدى بوجه أخص إلى قاعدة التنظيم من الشباب.. تبينوا أمركم، فإن هذه الدعوة، إنما هي فتنة !! لا خير يرجى من ورائها !! لا خير في شجرتها !! ولا خير في ثمرتها !! فأنت لا تجني من الشوك العنب !!)..

الدعوة الإسلامية الجديدة:


وكذلك تناولنا أساسيات الفكرة الجمهورية، أو الدعوة الإسلامية الجديدة كما سماها صاحبها، وقلنا أن الأساس الذي انطلقت منه هذه الدعوة، إنما هو التوحيد المجسد في اللحم والدم، فهي ليست أفكار مجردة، من نسج الخيال.. والتوحيد في جوهره إنما يهدف إلى فض التعارض بين الإرادة البشرية والإرادة الإلهية، إلى أن يكون العبد بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء !! وهذا هو منهج العبودية، وهو خلاصة التربية الروحية، في الدين.. ونحن عندما نقول أن مصدر هذه الدعوة هو تحقيق التوحيد في اللحم والدم، إنما نعني بذلك شخصية الأستاذ محمود، والدليل على ذلك التحقيق، إنما يظهر كأوضح ما يكون في الابتسامة التي بدت على وجهه، وهو على منصة الإعدام يوم 18/1/1985م، فتلك الابتسامة لم تكن سخرية من الأعداء كما ظنها بعض الناس، وإنما كانت تعبير عن التسليم لإرادة الله بل الفرح به !! وعندما سأل المتحري، الأستاذ محمود حول منشور " هذا أو الطوفان" الذي استندت عليه المحكمة الأخيرة، قال: (إذا في إنسان قال قوانين سبتمبر مخالفة للشريعة، لا يمكت أن يقال عنه إنه ضد الشريعة، وإنما يفهم أنه ضد قوانين معينة، بل هو يدافع عن الشريعة !! ولكننا نقول إن الشريعة الإسلامية على تمامها، وكمالها حين طبقها المعصوم في القرن السابع، لا تملك حلا لمشاكل المجتمع المعاصر، وإنما الحل في السنة وليس في الشريعة !! ).. وهذا ملخص لأساس دعوته..
إن على المثقفين عامة، ومحبي الدين بصفة خاصة واجب كبير، وهو ألا يتركوا هذا الشعب فريسة للهوس الديني، وذلك بإعادة قراءة ومحاولة تطبيق هذه الدعوة الإسلامية الجديدة.. فليس هناك حل لمشاكل الفرد والجماعة، في هذه البلاد، وفي غيرها، بغير أصول القرآن الكريم، أو الإسلام في مستواه العلمي، وأي إبطاء في ذلك، إنما ستكون إفرازاته مزيدا من التخلف والتشتت، وتأخير عقارب الساعة.. ومن نماذج المنشورات التي كان الأستاذ محمود يلاحق بها دعاة الفهم السلفي، هذا المنشور الذي صدر في مواجهة الدستور الإسلامي المزيف في يوم 9/3/1969م، حينما كانت الأحزاب الطائفية والأخوان المسلمين، تحاول تمرير دستور جاهل يلتحف قداسة الإسلام، فسماه الأستاذ محمود " الدستور الإسلامي المزيف " وأقام الندوات العديدة لكشف خطورته.. وقد أنهت مايو تلك الفتنة، إلا أنها عادت في أخريات أيامها، وتحت ضغط نفس الجماعة، فسقطت في نفس المستنقع الآسن، فتصدى لها من جديد بالمنشورات وأخيرا بنفسه فداء للشعب.. وإليك في الفقرة التالية مقتطفات من ذلك المنشور..

الدستور العلماني:


جاء تحت هذا العنوان: ( هناك بعض المثقفين من المواطنين، يشعر بالخطر من قيام دستور إسلامي مزيف.. وقد جعلهم الخوف من هذا الخطر، يدعون إلى الدستور العلماني، وهذا عندنا خطأ من جهتين: أولاهما أن الدستور العلماني ناقص في حد ذاته، وأنه، بالغا ما بلغ من الكمال، لن يرقى إلى كفاية الدستور الإسلامي الصحيح.. وثانيهما أن الدعوة إلى الدستور العلماني تترك الميدان الإسلامي خاليا من الدعوة الواعية، الرشيدة.. ولن يستجيب شعبنا لدعوة مدنية ويترك الدعوة الدينية.. فكأن من يرون هذا الرأي، من قطاعات الشعب، قد اختارت أن تترك الشعب نهبا للتضليل المنظم، وفي هذا خيانة للشعب، وهروب من الميدان !!)..

الدستور الإسلامي:


ويواصل المنشور تحت هذا العنوان: ( الدستور الإسلامي لا يلتمس في الشريعة الإسلامية، وإنما يلتمس في القرآن على أن يفهم القرآن فهما جديدا، يبعث آياته التي كانت منسوخة في القرن السابع، لتكون هي صاحبة الوقت اليوم، وتنسخ آياته التي كانت ناسخة، وكانت هي صاحبة الوقت في القرن السابع، وعليها قامت الشريعة.. فإنه بغير ذلك، لا نصل إلى الحقوق الأساسية، ولا دستور بغير الحقوق الأساسية.. ذلك لأن آيات الحقوق الأساسية منسوخة بآيات الإكراه، وآيات الوصاية، فإذا انبعثت الآيات المنسوخة فقد ارتفعنا بالإسلام، من مستوى العقيدة إلى مستوى الإيقان.. وفي هذا المستوى، الناس لا يتفاضلون بالعقيدة، وإنما يتفاضلون بالعقل، والخلق، فلا يسأل الإنسان عن عقيدته، وإنما يسأل عن صفاء الفكر، وإحسان العمل.. ومن ههنا لا يقع تمييز ضد مواطن بسبب دينه، ولا بسبب عدم دينه.. وهذا الدستور لا يسمى إسلاميا، لأنه لا يسعى لإقامة حكومة دينية، وإنما يسعى لإقامة حكومة إنسانية يلتقي عندها، ويستظل بظلها كل البشر بصرف النظر عن ألوانهم، وألسنتهم، ومعتقداتهم، على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، ولكن مصدره القرآن.. وهو إنما كان مصدره القرآن، لأن القرآن موظف لجلاء الفطرة البشرية من حيث هي بشرية، جلاؤها من أدران الأوهام، التي غطت عليها وشوهت نقاءها..
الإسلام في مستوى الإيقان، هو دين الفطرة البشرية من حيث هي بشرية، وهو المعنى الوارد في قوله تعالى: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.. منيبين إليه، واتقوه، وأقيموا الصلاة، ولا تكونوا من المشركين.. من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، كل حزب بما لديهم فرحون ".. ذلك الدين القيم المهيمن على الأديان، وهو الإسلام في مستوى الإيقان، لا في مستوى الإيمان.. الإسلام في مستوى العلم لا في مستوى العقيدة، وهذا يقتضي فهما للقرآن جديدا، يسحب النسخ على آيات، كانت في القرن السابع ناسخة، ويبعث، في الوقت الحاضر، آيات كانت منسوخة، لتكون هي صاحبة الوقت اليوم.. وبهذا تصان الحقوق الأساسية في قمة لا تجارى، ويجاز الدستور الذي به تتم كرامة الإنسان، من حيث هو إنسان: " ولقد كرمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " ..)..

القانون الدستوري:


نحب أن نعيد إلى الأذهان سند مفهوم الدستور من القرآن، فقد قلنا أن القرآن أكد المسئولية الفردية أمام الله، وأكد أن المحاسبة على الأعمال، يوم الحساب، إنما تتم بصورة فردية، لا فرق بين فرد وآخر، رجلا كان أو إمرأة.. وهذا التقرير، إنما هو يمثل آصل أصول القرآن، ولكي تكون هذه المحاسبة الفردية موضوعية، فلا بد أن يكون الإنسان حرا بلا وصاية من أحد، ولذلك شرعت أصول القرآن الحريات وقد أوردنا النصوص في ذلك.. فالحرية في الإسلام، أصل، وهي نفحة من الإطلاق لا يتطور الإنسان نحو إتسانيته إلا بممارستها، فهو يصيب ويخطيء، وباستمرار يزيد رصيد صوابه ويقل الخطأ، وهذا هو أساس كمال النشأة البشرية، ولذلك جاء في الحديث: " إن لم تخطئوا وتستغفروا، فسيأت الله بقوم يخطئون ويستغفرون فيغفر لهم ".. والحرية في الإسلام مطلقة، لا تحدها حدود إلا إذا قصر الإنسان عن التزام واجب الحرية، فتعدى على حريات الآخرين، فهي حق يقابله واجب، وهذا الواجب هو حسن التصرف فيها.. وما دام حق الحرية مكفول للجميع، فلا بد أن يعرف كل إنسان أين تنتهي حريته ؟؟ فحرية الفرد تنتهي حيث تبدأ حرية جاره.. فإذا تعدى أحد على حريات الآخرين، فيجب أن تصادر حريته هو جزاء وفاقا، بالقانون، ومثل هذا القانون يعرف بالقانون الدستوري.. والقانون الدستوري هو الذي يوفق توفيقا تاما بين حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة، فلا هو يضحي بالفرد في سبيل الجماعة ولا يضحي بالجماعة في سبيل الفرد وإنما هو قسط موزون بين ذلك.. مثلا قانون الحركة، يقول إذا كانت الإشارة حمراء أمامك، فيجب عليك أن تتوقف، لأن حرية الحركة في هذه اللحظة لمن كانت الإشارة أمامهم خضراء.. هذا قانون ينظم الحركة بحيث لا يتعدى سائق على حريات الآخرين، وهو يحفظ لكل سائق حقه، من غير تعارض مع حقوق الآخرين، إذن هذا القانون دستوري، وإذا لم يتوقف أي فرد عند الإشارة الحمراء فإن القانون يصادر حريته، ويسحب رخصة القيادة منه حسب نص القانون وحجم المخالفة، وهكذا تعمل القوانين الدستورية على أساس المساواة التامة بين جميع المواطنين لا فرق بين مواطن وآخر بسبب العقيدة أو اللون أو الجنس..

خاتمة:


في ختام هذه البحث، لا بد أن نؤكد أن التعقيدات في مشاكل السودان التي تسير في اتجاه تفتيت الوطن، لا علاقة لها بالإسلام، وإنما هي مفاهيم خاطئة، يجد فيه بعض الناس بيئة صالحة لهم ليتسلطوا على الناس بالإرهاب الديني، فيتمكنوا من جمع المال لمصالحهم الشخصية.. وهذ ما شاهدناه واقعا معاشا طيلة المدة التي ظلت الحركة الإسلامية، تسيطر فيها على السلطة، إذن لا بد من أن نتكاتف من أجل حماية البلاد من الضياع، وذلك بالفكر الإسلامي الواعي الذي يعطي كل مواطن حقوقه الكاملة على قدم المساواة مع الآخرين.. إن على الجنوبيين، أن يعلموا أن ما يجري في السودان الآن ليس من الإسلام في شيء، وإنما هو ظلم وقع على الشماليين بنفس القدر، الذي وقع عليهم في الجنوب.. ولعل هذه الرؤية العلمية، البعيدة النظر هي التي جعلت الدكتور جون قرنق يرفع راية الوحدة إلى آخر لحظة في حياته، ولعل موقفه هذا يفسر لنا لماذا كان قرنق، يقدم التحية العسكرية كاملة كلما شاهد أمامه صورة الأستاذ محمود محمد طه.. إن من قصر النظر الظن بأن فصل جزء من القطر بسبب المشاكل، سيجلب له السعادة إذ أن المشاكل ستدور من جهة أخرى أقل درجة من ناحية التطور العام !! فالحل في عدم اليأس من الإصلاح، ولكل جهد صادق ثمرة، ستؤتي أكلها في حينها، وسيحمد الناس لمن جاهد حسن صنيعه.. ولا أجد أمامي عبارة أختم بها هذه الخاتمة، أجمل من بشارة الأستاذ محمود التي أرسلها إلى تلميذاته وهن في المعتقل عام 1983م : ( الوحدة بين الشمال والجنوب محكوم عليها بالبقاء، وكل محاولة لتفتيتها مقضي عليها بالفشل، وذلك لأن الجمهوريين قد حققوها في نفوسهم، فهم مصدر ثراء لهذه الوحدة وإن كانوا خارج السلطة !!) ..