إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

التحدي الذي يواجه السودانيين (١٠)

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق


التحدي الذي يواجه السودانيين (2)


محمد محمد الأمين عبد الرازق


نواصل ما جاء في كتاب الأخوان الجمهوريين، (جنوب السودان.. المشكلة والحل) حول الجذور التاريخية لمشكلة الجنوب، في فترة ما قبل الحكم الثنائي:

أفريقيا والسودان:


إن أفريقيا هي القارة البكر، التي لم تتفجر طاقاتها البشرية والطبيعية بعد.. فهي أقل القارات تحضراً، وقد كانت تسمى القارة المظلمة.. وقد بدأت أفريقيا الآن تتحرك حركة نشطة، في اتجاه التقدم، والتحرر.. وقد جاء تحرر أفريقيا هذا في وقت يمر فيه العالم أجمع بمنعطف حضاري كبير، فقد فشلت الحضارة الغربية المادية القائمة الآن، في استيعاب وتوجيه طاقات الحياة المعاصرة، وتتويج تطور الحضارة البشرية بإقامة مجتمع السلام والرخاء، الأمر الذي يؤذن بميلاد مدنية جديدة، تقوم بتحقيق ما فشلت الحضارة الغربية في القيام به.. ونحن نعتقد أن أفريقيا ستكون هي صاحبة هذا الدور، في إعطاء العالم هذه المدنية الجديدة التي تتطلع إليها.. فلقد كانت أفريقيا هي الموطن الأول للإنسان، فيها ظهرت حياته في البدء، في مرحلته البشرية.. وستكون أفريقيا هي الموطن الأول أيضاً للإنسان، في مرحلته الثانية، مرحلة (الإنسانية)، التي يرتفع بها عن مرتبة البشرية الحاضرة، فيقيم مدنية السلام والرخاء والمحبة التي تسود جميع بقاع الأرض..
والسودان يقع من أفريقيا موقع القلب، وذلك من حيث الشكل، ومن حيث المعنى.. وفي السودان تلتقي الطاقات، والخصائص البشرية، والطبيعية، البكر والتي بتفجيرها، يتم افتتاح عهد المدنية الجديدة، مدنية السلام، وسيادة القيم الإنسانية الرفيعة، تلك المدنية التي قلنا إن أفريقيا هي موطنها.. والسودان يمثل أفريقيا بصورة كبيرة فهو، في شماله، وفي جنوبه، تكاد تجتمع فيه جميع الخصائص السلالية والطبيعية، لشمال القارة الأفريقية وجنوبها.. والمشاكل التي ظلت تواجه السودان، وعلي رأسها مشكلة الجنوب، إنما هي المحك، والتحدي، الذي يمخّض الخصائص الأصيلة، ويفجر الطاقات الكامنة.. ولذلك فإن التأخر في الأخذ بأسباب الحضارة الغربية، وهذه المشاكل التي تحتوش البلاد، إنما هي في الحقيقة نعمة، وهي لخير أريد بهذه البلاد، فهي قد حفظت لتقوم بالدور التاريخي المنتظر لها القيام به في بناء الحضارة الإنسانية الجديدة.. وفي عبارات للأستاذ محمود محمد طه، كتبت في يناير 1951م، في التبشير بالدور العظيم الذي ينتظر للسودان أن يقوم به، جاء قوله: (أنا زعيم بأن الإسلام هو قبلة العالم منذ اليوم.. وأن القرآن هو قانونه.. وأن السودان، إذ يقدم ذلك القانون في صورته العملية، المحققة للتوفيق بين حاجة الجماعة إلى الأمن، وحاجة الفرد إلى الحرية المطلقة، هو مركز دائرة الوجود على هذا الكوكب.. ولا يهولن أحدا هذا القول، لكون السودان جاهلا، خاملا، صغيرا، فإن عناية الله قد حفظت على أهله من أصايل الطبائع ما سيجعلهم نقطة التقاء أسباب الأرض، بأسباب السماء..).. وهذه البشارة قد جاءت في نفس المعني الذي جاءت فيه بشارة النبي الكريم حيث قال في تفسير الآية: (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين): (يا عمر تعال فاسمع ما قد أنزل الله، ثلة من الأولين وثلة من الآخرين، ألا وإن من آدم اليّ ثلة وأمتي ثلة، ولن نستكمل ثلتنا حتى نستعين بالسودان من رعاة الإبل ممن شهد ألا اله إلا الله وحده لا شريك له) – راجع تفسير ابن كثير، سورة الواقعة.. فالمدنية الجديدة التي يقدمها السودان للإنسانية هي مدنية السلام، مدنية الإسلام، في مستوى أصوله، مستوى السنة، والتي بها يرجع الناس، كل الناس، إلى أصل الفطرة السليمة.. فالإسلام في هذا المستوى هو دين الفطرة.. وهذا الدور الحضاري المنتظر للسودان هو وثيق الصلة بمشكلة الجنوب، التي نحن بصددها، إذ أنها التحدي العملي، الأساسي، الذي يؤدي إلى إبراز هذا الدور.. ولذلك فإن هذه المشكلة هي في حقيقتها ليست مجرد مشكلة سياسية، وإنما هي مشكلة حضارية تتداخل فيها النواحي السياسية، والاقتصادية، مع النواحي الدينية، والعرقية، والثقافية..

شمال السودان وجنوبه:


السودان قطر شاسع، يمتد شمالاً وجنوباً على طور 1250 ميل، ويمتد شرقاً، وغرباً 1000 ميل، وطول حدوده 4500 ميل، وهو يحادد تسع دول، ومساحته مليون ميل مربع، أي حوالي 616 مليون فدان، وهي رقعة ذات خصائص طبيعية ومناخية متباينة.. وحوالي 450 ميلاً من حدود السودان تقع على ساحل البحر الأحمر من جهة الشرق.. ونهر النيل بفروعه المختلفة هو الشريان الذي يربط بين شمال السودان وجنوبه.. وتعداد السودان اليوم ربما يزيد على السبعة عشر مليون، موزعين على هذه الرقعة الشاسعة من الأرض، وقد كان التعداد عند الاستقلال أكثر من عشرة مليون ومائتي ألف.. ولعدة اعتبارات موضوعية أصبح ينظر إلي السودان على أساس أنه مكون من جزأين، هما شمال السودان وجنوبه.. وهذه الاعتبارات هي اعتبارات طبيعية جغرافية، متعلقة بطبيعة الأرض والمناخ.. فشمال السودان بصورة عامة هو منطقة سافنا ومنطقة صحراوية، في حين أن الجنوب، بصورة عامة، هو منطقة استوائية.. وطبيعي أن ينعكس هذا الاختلاف في البيئة على حياة المواطنين في الإقليمين.. كما أن هناك اختلافا بين الشمال والجنوب في طبيعة السكان والنواحي السلالية، وفي النواحي الدينية والثقافية إلى جانب بعض الاختلافات الإدارية والسياسية التي تمت في بعض مراحل التاريخ.. وهذه الاختلافات، التي عمل الاستعمار الإنجليزي على تعميقها، حتى تصبح سبباً للصراع والعداوة بين أبناء البلد الواحد، هذه الخلافات هي التي تشكل الجذور الأساسية لمشلكة الجنوب.. والمجتمع السوداني في الشمال وفي الجنوب هو مجتمع قبلي زراعي رعوي، كان ولا يزال كذلك..

أصايل الطبائع:


إن المجتمع القبلي في شمال السودان وجنوبه، مجتمع تقوم حياة المواطنين فيه على قيم الفروسية، من شجاعة، ومروءة، وصبر، وكرم، وعفة، إلى آخر هذه الفضائل السلوكية التي توجه حياة المواطنين في السودان، وهي فضائل وثيقة الصلة بالمجتمعات القبلية.. وهذه الفضائل منتشرة في الشمال، وفي الجنوب، على تفاوت بينهما في ذلك.. وحياة المواطنين في كلا الإقليمين حياة بسيطة، ومتقشفة، وقليلة المطالب المادية.. ولقد لعب التصوف الإسلامي، في شمال السودان، دوراً كبيراً في تعميق، وتأصيل، وتنمية، وتهذيب، قيم الفروسية هذه، إذ أعطاها محتوى دينياً ربطها بالغيب، وجعل لها منهاجاً عملياً يعين على تنميتها وصقلها، لتصبح في اتجاه خلاصة القيم الإنسانية الرفيعة التي جاءت أديان السماء لتحقيقها.. وهكذا فإن التصوف وقيم الفروسية الموروثة من المجتمعات القبلية هما اللذان حفظا على المجتمع السوداني أصايل الطبائع، وهي طبائع لم تتأثر كثيراً بتيارات خارجية، ولذلك هي لا تزال في جوهرها باقية.. وقد انتشر التصوف في السودان على عهد الفونج انتشارا كبيراً حتى أصبح هو الطابع العام للتدين في جميع أنحاء البلاد.. وقد أثرى الواقع الإفريقي في السودان، التصوف الإسلامي، فجعل له نكهة خاصة، فهو قد أمده ببعض القيم الأصيلة، مثل العاطفة القوية المتأججة، والحس الفني، الذي جعل المواطنين كلفين بالموسيقى والرقص، حتى إنهم أدخلوهما في العمل الديني، في شكل الأذكار الصوفية ذوالطبول، والنوبات، والآلات الأخرى، التي تصحب هذه الأذكار.. وقد جذب ذلك المواطنين للدين، وساعد على انتشاره، وساعد على تعميق، وتأصيل، القيم الدينية، والحس الديني.. والمواطنون في جنوب السودان، إلي جانب قوة العاطفة، والكلف بالفن، وهي خصائص أفريقية أصيلة، هم يمتازون بتعلق شديد بالدين، والنواحي الروحية.. فهم، كما هو الشأن عند الإنسان البدائي بصورة عامة، يعتبرون لكل شئ روحاً، وينطلقون، وفي معظم تصرفات سلوكهم اليومي، من اعتبارات روحية ودينية، وهم كوثنيين أساساً، يقيمون الشعائر الدينية لمختلف المظاهر الطبيعية، ولهم اهتمامات كبيرة بأرواح الآباء.. وهم يؤمنون بإله واحد، يسمونه بأسماء تختلف من قبيلة لأخرى، وبعض الجنوبيين يعتقدون أن أرواح السلف تحل في زعمائهم الدينيين (الكجور).. والكجور يلعب دوراً هاماً في حياة المواطنين.. خلاصة الأمر أن للجنوبيين استعدادا طبيعياً للتدين، وتعلقاً كبيراً بالقيم الروحية..
وقيم الفروسية هذه التي أشرنا إليها، والقيم الدينية والروحية السائدة في شمال السودان وجنوبه، إلى جانب الحياة البسيطة، القريبة للطبيعة والفطرة، كل هذه الخصائص، هي العناصر الإيجابية التي بتهذيبها وتنميتها يتم تجاوز الخلافات، ويتم الانصهار في بوتقة واحدة هي القومية السودانية، وبذلك يتم الحل الحضاري الجذري لمشكلة الجنوب، بل إن هذه الخصائص الأصيلة هي التي ترشح السودان ليلعب الدور الطليعي في مستقبل الحضارة الإنسانية، بالصورة التي أشرنا إليها في البشارة التي أوردناها .

الأصول العرقية والدين:


إن مساحة شمال السودان حوالي 750 الف ميل مربع، أما مساحة الجنوب فهي حوالي 250 الف ميل مربع، أي حوالي ربع المساحة الكلية للسودان.. والجنوب يمتد من خط عرض 10 درجة وحتى خط 3,5 درجة شمال خط الإستواء.. وهو بصورة عامة منطقة استوائية ذات أمطار غزيرة، وغابات كثيفة.. والقبائل في جنوب السودان، قبائل متداخلة بين السودان والدول المجاورة له، وهذه القبائل تعتبر بصورة عامة، ذات أصول زنجية.. وقد كان الزنوج في الماضي أكثر انتشاراً مما هم عليه الآن.. فهم قد كانوا يسكنون أفريقيا الاستوائية، وجنوب الجزيرة العربية، والهند، وأستراليا.. ويرى بعض علماء الأنثروبولوجي أن القبائل الجنوبية يوجد في تركيبها ملامح عناصر غير زنجية، بل إن إيفانس برتشارد أحد مشاهير هؤلاء العلماء، يرى أنه من المشكوك في إمكانية اعتبار أي أناس في السودان زنوج حقيقيين، سواء أكان ذلك من حيث اللغة أوالتركيب الجسماني.. وعلماء الأنثروبولوجي هؤلاء لا يميلون إلى تسمية سكان شمال السودان بالعرب، ويفضلون إستخدام عبارة (العنصر الأسمرBrown Race ) مقابل العنصر(العنصر الأسود Black Race ) للجنوبيين، وسكان أفريقا الإستوائية.. ويرون أن العنصر الأسمر هو نتاج لتزواج العرب من البجا، والنوبة، والزنوج.. وحسب إحصاء عام 1956 م فإن تعداد السودان كان 10263000 منهم 27930000 بالجنوب.. وبالسودان أكثر من 500 قبيلة مختلفة الحجم، وحسب تعداد عام 1956 م فإن 39% من السكان ينسبون أنفسهم للعرب، في حين أن الذين يتحدثون اللغة العربية يشكلون 50% ..
والقبائل الجنوبية تنقسم، من حيث اللغة، والتركيب الجسماني، والخلفيات الثقافية، إلى ثلاث مجموعات:
1- القبائل النيلية وهي مثل الدينكا، والنوير، والشلك، والأنواك..
2- القبائل الحامية النيلية (Nilo –Hamitics ) وهي مثل الديدنقا، واللاّتوكا، والمورلي..
3- القبائل السودانية ( Sudanic Tribes ) وهي قبائل عديدة، وقليلة التعداد أهمها الزاندي..
وهناك قبائل هي عبارة عن خليط من هذه الفئات.. وكثير من هذه القبائل وفد إلى السودان في وقت متأخر، فمثلاً هناك رواية عن الشلك تقول إنهم أتوا من شرق بحيرة فكتوريا في حوالي نهاية القرن الخامس عشر الميلادي.. والقبائل (السودانية) أتت من قرب بحيرة تشاد في القرن السابع عشر.. أما الزاندي فقد أتوا من أفريقيا الوسطى في القرن التاسع عشر.. وقد أتى الدينكا من منطقة البحيرات بشرق أفريقيا (راجع كتاب ـ جنوب السودان: خلفية النزاع ـ لمحمد عمر بشير، صفحة 6 ـ مرجع إنجليزي).. أما بالنسبة للقبائل العربية التي هاجرت إلى السودان واختلطت بسكان المنطقة، فهي قد أتت في موجات من المهاجرين، أهمها تلك التي تمت في القرن السابع الميلادي، وهو تاريخ يعتبر أيضاً حديثاً نسبياً.. وحسب إحصاء 1956م هناك حوال إثني عشر لغة محلية أساسية بالجنوب، وتعتبر اللهجة المحلية العربية هي الأكثر انتشاراً في المدن بصورة خاصة..
وفي الناحية الدينية، فإنه حسب تقدير 1955م، يشكل الوثنيون، الأغلبية الساحقة في الجنوب، إذ يشكلون حوالي 90% من تعداد السكان، وفي حين يشكل المسلمون والمسيحيون 10% فقط.. فقد كان المسلمون في ذلك التاريخ يقدرون بحوالي 23 ألف.. والمسيحيون البروتستانت حوالي 30 الف والكاثوليك حوالي 253 ألف ـ راجع محمد عمر بشير المصدر السابق، صفحة 6 ..

الجنوب قبل الفتح الإنجليزي المصري:


هنالك القليل الذي يعرف عن جنوب السودان قبل الفتح التركي المصري في 1820م.. ويعتقد أن حضارة (كوش) التي كانت في الشمال (750 – 300 ق. م. ) كان لها بعض الأثر على الجنوب، وكذلك الحضارة المصرية القديمة.. وعندما انتشرت المسيحية والإسلام في شمال السودان كان لهما أثر ضعيف على الجنوب بسبب وعورة المنطقة، وصعوبة المواصلات.. وعندما قامت مملكة الفونج في سنار في أوائل القرن السادس عشر الميلادي بدأت بعض المعلومات تصل إلى الخارج عن الجنوب.. وقد كان الجنوب في تلك الفترة التي سبقت الفتح التركي المصري يعيش في حالة حروب، وصراعات قبلية، فالقبائل الكبيرة، مثل الدينكا، والزاندي، كانت تتوسع على حساب القبائل الصغيرة، ولم يتم الحد من هذه الصراعات القبلية إلا بعد الفتح التركي المصري..
وبالفتح التركي المصري بدأ عهد جديد بالنسبة للجنوب وعلاقته بالشمال.. فلأول مرة يخضع الجنوب والشمال لحكومة واحدة، ويكون فيهما نظام حكم مستقر نسبياً، وقد بدأ الإهتمام بتاريخ جنوب السودان، مع الإهتمام باكتشاف منابع النيل، وقد فتح الحكم التركي المصري الجنوب للمكتشفين والتجار، وتم ذلك بصورة خاصة بعد رحلات سليم قبودان لاكتشاف منابع النيل، تلك الرحلات التي تمت على عهد الوالي محمد على، وفي الفترة (1838 ـ 1840م )، وبعد أعمال الخديوي إسماعيل التوسيعية في الجنوب والتي قام بها صمويل بيكر وغردون.. وقد بدأ في هذه الفترة أيضاً التغلغل المسيحي في الجنوب..

التحدي الذي يواجه السودانيين (3)


محمد محمد الأمين عبد الرازق


انتهينا في الحلقتين السابقتين، إلى أن للشعب السوداني في جملته، خصائص أساسية مشتركة ترجع إلى طبيعة المجتمع القبلي.. وقلنا إن ما يسمى بقيم الفروسية، وهي القيم الممدوحة والمعتبرة في المجتمعات القبلية، كالنجدة، الكرم، الشجاعة، والتضحية..الخ.. قد شكلت أرض خصبة للتصوف، فأعطاها بعدا روحيا، يوجهها ويضبطها.. والشعب السوداني عموما، شعب عاطفي، مسالم ومتسامح يعطي الآخرين اعتبارا مهما كانت معتقداتهم، فهو يركز على إنسانية الإنسان في المقام الأول.. كما أنه شديد التعلق بالاشتراكية كمفهوم إنساني، يرمي إلى توزيع الثروة بين الناس بعدالة، على أساس الحقوق وليس الصدقات، وخير شاهد على ذلك، التكافل الاجتماعي المعروف في حالات المرض، والزواج، والتعليم، والمآتم.. فالمزارع ، عندما يمسك بالبذور ليزرعها في الأرض يقول: " بسم الله، للغاشي والماشي، الصرمان والجوعان، الطير والبهيمة " فكأنه مستعد بطبيعته لإعطاء الآخرين حقوق من ماله الخاص.. وفي تقديري، إن هذه القيم الأصيلة عند السودانيين، إنما ترجع إلى العنصر الأفريقي أكثر من العرب، والدليل على ذلك أنها غير متوفرة عند العرب اليوم، بالمستوى الذي نراه في الواقع السوداني.. وعلى التحقيق فإن هذه القيم هو السبب في السمعة الطيبة التي وجدها السودانيون الذين يعملون في البلاد العربية.. وعلى كل حال نحن "عرب ممزوجة بدم الزنوج الحارة .. ديل أهلي، ديلا قبيلتي لمن أدور أفصل للبدور فصلي " كما عبر الشاعر اسماعيل حسن..
لقد وفدت على السودان دعوات دينية، متطرفة ودخيلة ، اتجهت إلى غرس أفكار خاطئة عن الإسلام، لتخترق هذه القيم الأصيلة وتستبدلها بأخرى يظن أصحاب تلك الدعوات أنها إسلامية، فاتهمت المرأة السودانية بالتبرج والمفارقة للدين، وهي ترتدي الثوب السوداني الذي يمثل قمة الزي المحتشم، الذي يعطي المرأة كرامتها، وإنسانيتها، وشخصيتها.. وقد دفعت تلك الدعوات عضويتها من الشباب إلى انتهاج العنف كبديل للتسامح، في التعامل مع الذين يخالفونهم الرأي، وكذلك دفعتهم إلى تبني مفاهيم تميز بين المواطنين على أساس الدين والنوع.. وعلى رأس تلك الدعوات الوافدة، حركة الأخوان المسلمين التي أسسها السيد حسن البنا بمصر، وقد تسللت إلى السودان، عبر الطلاب السودانيين الذين كانوا يدرسون بمصر، ثم توغلت مع الزمن وسط الشعب، والجيش مستغلة العاطفة الدينية، ترغيبا وترهيبا، إلى أن تسلمت السلطة عام 1989م بالانقلاب العسكري.. ولغياب التربية، وقد اعترف زعمائهم مؤخرا بذلك، انهمكوا في استباحة المال العام لمصلحة تنظيمهم، وتوظيف إمكانات الدولة لإثراء عضويتهم، حتى إن أحد قياداتهم قال عقب الإنقسام الشهير، الذي أحدثه الصراع على السلطة: " عندما كنا سويا في السلطة لا فرق بين أموال الدولة وأموال الحركة الإسلامية !!" وقد رد السيد رئيس الجمهورية على الجماهير، عندما طالبته بمحاسبة الذين نهبوا أموال طريق الإنقاذ الغربي قال: " خليناهم لي الله " وهي عبارة خيبت الآمال في حينها ولا زالت.. وبعد الإنقسام، أخذ الطرفان يتقاذفان الشتائم، والسخرية وقد قال أحدهم: "الكنا قايلنو موسى لقيناهو فرعون!! ".. وهكذا انطمست السمات السودانية عند الأخوان المسلمين، وبعدت المسافة بينهم وبين القيم الأصيلة التي أشرنا إليها.. ولذلك ترى أحدهم يتعامل مع الشعب، باستعلاء زائف، وهو يركب العربات الفارهة، ويتطاول في البنيان، ولأنه منقسم على نفسه أمام أهله، فتراه يبتسم في غير مدعاه للابتسامة، ويحرك حواجبه، أعلى وأسفل، كإشارة للوعيد، والإنذار لمن يخالفونه الرأي، ولمن يتهمونه بالفساد.. ولعل الأستاذ الطيب صالح كان يشير إلى ذلك الشرخ في أصائل الطبائع السودانية عندما كتب عنهم مقالته الشهيرة: من هؤلاء؟ من أين أتى هؤلاء ؟ وهو يقيم الإنقاذ عندما قامت.. لقد كان الأستاذ محمود يردد كثيرا: " قد تلقى إنسان صلاي وصوام، لكن إذا كان داير تعرف عنده دين أم لا شوفو في المال بيعمل كيف !! " فهؤلاء القوم لا هم لهم غير السلطة والمال، ولذلك فهم أبعد ما يكونون عن روح الدين، وقد شبه الأستاذ محمود حجم الخراب الذي أحدثته دعوة الأخوان المسلمين في النفوس بالإناء الذي ولغ فيه الكلب، وقال: لا يتطهر إلا إذا غسل سبع غسلات أولاهن بالتراب.. ونتيجة لسياسة التحرير، تراكم المال عند الفئة الداعمة للسلطة، فانقسم المجتمع السوداني إلى طبقتين، وتحت ضغوط الفقر والحاجة حدثت هجرة مكثفة، إلى جميع أنحاء العالم من أجل لقمة العيش.. وبسبب اتساع دائرة الفقر في الداخل، زهد معظم هؤلاء المهاجرين ليس في العودة وحسب، وإنما حتى مجرد قضاء الإجازة، تفاديا للحرج الذي يؤرق مضاجعهم عندما يعجزون عن تلبية حاجات المحتاجين من أسرهم الممتدة.. وفي النهاية أشعلت قيادات هذه الجماعة المتحاربة الفتن في أطراف البلاد المختلفة، وأدت إلى الحروب حتى وجدنا أنفسنا أمام السؤال الكبير: " هل يكون السودان أم لا يكون!! ".. إن الإصلاح في السودان مرهون باقتلاع هذه الدعوة الدخيلة من جذورها، في النفوس، وإبعادها عن السودان، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بالفكر الإسلامي المستنير، الواعي بحاجة العصر، وبضرورة تطوير التشريع الإسلامي من فروع القرآن إلى أصوله على منهج الرسالة الثانية من الإسلام، وسنفصل في هذا الجانب فيما يلي من حلقات..
قد يقول قائل: إن الشعب السواداني قد انتخب الأخوان المسلمين، مؤخرا، وهذا يدل على قبول الشعب لدعوتهم.. والرد على مثل هذا الإدعاء ببساطة، علاوة على أن الأخوان المسلمين غير معنيين في برنامجهم بقبول الشعب أو عدمه، هو أن الشعب من كثرة الإذلال، والمعاناة في المعيشة، والصحة، والتعليم وإقصاء أبنائهم من فرص العمل، ظن بعض الناس أن الانضمام إلى المؤتمر الوطني، سيجلب لهم الوظائف لبناتهم وأبنائهم، الذين يتعرضون للإقصاء وسيخفف عنهم الضغوط.. فكأن عبارة الأستاذ محمود أمام المحكمة، قد انطبقت تماما عليهم وهي قوله عن قوانين سبتمبر 1983م: "أنها وضعت واستغلت لإرهاب الشعب وسوقه للاستكانة عن طريق إذلاله،ثم إنها هددت وحدة البلاد ".. فهذا ليس بتأييد وإنما هو استكانة سببها المعاناة التي طالت.. هذا، وأحب أن أشير إلى حادثة حدثت في مركز الأستاذ محمود وهي أن مواطنا طلب فرصة للحديث في احدى الندوات قال: إنه مؤتمر وطني وفي نفس الوقت مؤيد للفكر الجمهوري ثم اتجه ليلوم الجمهوريين في عدم الانضمام إلى المؤتمر الوطني!!
إن تجربة الحرب الطويلة في الجنوب بين الحكومة والحركة الشعبية، قادت الطرفين إلى طاولة المفاوضات، وانتهى بنا الحوار إلى اتفاقية السلام الجارية اليوم، وقد تبقى من الاتفاقية الاستفتاء المفترض أن يجرى في يناير القادم حول خياري الوحدة أو الانفصال.. وجميل أن تتبنى الحكومة في الشمال، الوحدة لتجنب البلاد التفتت.. والواجب على الجنوبيين، وبصورة خاصة الحركة الشعبية، أن يعملوا على دعم الوحدة عند الاستفتاء، فليس في التفتت خير لا للشمال ولا للجنوب.. فالناس ينتظرون الحكومة الواسعة ثم هي عادلة، والواجب علينا أن نتكاتف من أجل إبرازها هي لنكون نموذجا للآخرين كما كان يأمل الزعيم الراحل د.جون قرنق.. والخطأ كل الخطأ أن يعتقد بعض الجنوبيين أن الإغراءات الأمريكية والغربية، يمكن أن تحيل الجنوب إلى جنة !! فإن ذلك وهم كبير، فكل الدول تبحث عن مصالحها هي، فيجب علينا ألا نرهن إرادتنا لأي جهة، وأن نعي جيدا أن العلاقات بين الدول تقوم على المصالح المشتركة، وتطور أي بلد مرهون باستقلال القرار فيها.. إن جذور مشكلة الجنوب، ترجع إلى الغرب الذي يتمنى الانفصال، ويعمل له فقد بذر الاستعمار الانجليزي بذور الفتنة بين الشمال والجنوب، وفيما يلي نطالع ما جاء في كتاب "جنوب السودان.. المشكلة والحل" حول تجارة الرقيق والتبشير المسيحي: تجارة الرقيق:
يهمنا أن نقف هنا وقفة قصيرة مع تجارة الرقيق في جنوب السودان، والتي نشطت في هذه الفترة، وذلك لعلاقتها الوثيقة بموضوعنا ـ مشكلة الجنوب.. فقد استغل الاستعمار الإنجليزي هذه التجارة لإيغار صدور الجنوبيين ضد الشماليين، ولتنمية العداوة بينهما.. وتجارة الرقيق قد عرفت في التاريخ القديم في معظم أنحاء العالم، وهي قد تمت مؤخراً، في أبشع صورها، على يد الأوربيين، فيما سميّ بتجارة الرقيق عبر الأطلنطي، تلك التجارة التي أدت إلى تحويل الملايين من أفريقيا السوداء، وفي أسوأ الظروف، إلى الأراضي الجديدة .. وقد كانت تجار الرقيق في جنوب السودان، عملاً محلياً، يقوم على الحروب القبلية.. وكان عدد من الزعماء الجنوبيين من أشهر العاملين في تجارة الرقيق، ومن أشهر هؤلاء موبوي (Moboi) ، زعيم الزاندي، الذي كان يملك الآلاف من الأرقاء الذين حصل عليهم عن طريق الحرب مع القبائل الأخرى.. وقد كانت تجارة الرقيق في جنوب السودان قبل الفتح التركي المصري، تجارة محدودة، إلا أنها توسعت بعد الفتح، فهي في البداية كانت من أغراض الفتح.. وقد بدأ التوسع في هذه التجارة بعد رحلات إكتشاف منابع النيل، خصوصاً بعد أن عمل بها التجار من الأوربيين، الذين استخدموا الأسلحة النارية وكان لهم وكلاء من العرب ومن السودانيين الشماليين، وفيما بعد استقل هؤلاء الوكلاء، وأصبحت لهم تجارتهم الخاصة بهم.. وبعد انتشار الوعي نشطت حركة محاربة تجارة الرقيق في أوربا، وأصبحت الدول الأوربية، خصوصاً بريطانيا، تسعى مع الحكم التركي المصري في السودان لإيقاف تجارة الرقيق، ولذلك أصبحت محاربة تجارة الرقيق فيما بعد من أهداف الحكم التركي التي عمل على تحقيقها في السودان، خصوصاً على عهد الخديوي إسماعيل، وبالذات في عهد حكمدارية غردون.. وقد صور الاستعمار الإنجليزي للجنوبيين، تجارة الرقيق كعمل قام به الشماليون العرب ضدهم، وذلك بغرض خلق العداوة بين الشمال والجنوب.. كما أن المبشرين المسيحيين في الجنوب حرصوا، أثناء تعليمهم للجنوبيين، على ربط تجارة الرقيق بالمسلمين العرب، كما حرصوا على ألاّ تغيب ذكرى هذه التجارة، وصورها البشعة، عن أذهان الجنوبيين، وذلك ضمن مخططهم لمحاربة العرب والإسلام في الجنوب، وبغرض جعل الجنوب خالياً تماماً من أي منافسة تحد من التبشير، ومن انتشار المسيحية فيه..

التبشير المسيحي:


في العهد التركي المصري بدأ الإهتمام الأوربي بالسودان وشئونه، كما بدأ التبشيرالمسيحي في جنوب السودان، وقد كان المبشرون يعتبرون جنوب السودان منطقة كبيرة الأهمية بالنسبة لهم، وذلك لموقعه الإستراتيجي الهام بالنسبة لبقية أفريقيا السوداء، فهم من خلاله يستطيعون نشر المسيحية في العديد من مناطق أفريقيا، ويستطيعون أن ينافسوا الإسلام بها، ويوقفوا تغلغله.. ومما يدل على مدى اهتمام الأوربيين بنشر المسيحية في الجنوب، كتابة غردون باشا في 1871م للجمعيات التبشيرية البريطانية، يدعوها للعمل التبشيري في المديرية الاستوائية، التي كان يعمل بها آنذاك.. وعندما تم الاحتلال الإنجليزي لمصر في عام 1882م، فتح جنوب السودان للتدخل المباشر فيه بصورة أكبر، ولكن حدّ من هذا التدخل قيام الثورة المهدية التي انتصرت على الأتراك واستولت على الخرطوم في يناير 1885م.. وقد ساندت بعض القبائل الجنوبية، خصوصاً في بحر الغزال، الثورة المهدية، وثارت ضد الحكم التركي، ولكن المهدية لم تستطع السيطرة على الجنوب، وإقامة إدارة مستقرة فيه.. وفي عهد المهدية عادت الحروب والصراعات القبلية في الجنوب من جديد.. ثم أصبح الجنوب مسرحاً لصراع الدول الإستعمارية الأوربية، خصوصاً بلجيكا، وفرنسا، بريطانيا، إلى أن تم الفتح الإنجليزي المصري للسودان في عام 1898م، وكان هذا الفتح البداية الحقيقية لمشكلة الجنوب، بما اتخذه من سياسة هدفت إلى فصل الجنوب عن الشمال، وإلى تعميق أسباب الخلاف والعداوة بين الإقليمين، وقد ظهرت ثمار هذه السياسة الإستعمارية بعد الإستقلال، وأدت إلى حرب أهلية في الجنوب استمرت لسبعة عشر عاماً..) انتهى..
الآن انتهينا من فترة الحكم التركي وما قبلها.. الوضع في الجنوب، وتفاصيل محاولة الإنجليز الفاشلة لفصل الجنوب إبان فترة الحكم الثنائي هو موضوع الحلقة القادمة..

التحدي الذي يواجه السودانيين (4)


محمد محمد الأمين عبد الرازق


كان الأستاذ محمود معتقلا عندما اغتيلت الزعيمة الهندية اندبرا غاندي، فتحدث عدة مرات عن اغتيالها.. وقال: إنه حزين جداً، وإنها امرأة عظيمة، وقد ماتت ميتة عظيمة ..وهي أول امرأة تغتال في التاريخ، وحياتها كانت عظيمة.. وكانت حريصة على وحدة الهند، التي منذ أن جاءت إلى السلطة وجدتها ممزقة وموزعة.. وكان السيخ يريدون الانفصال بإقليمهم الغني ..وكانت المشكلة لن تقف عند السيخ وحدهم، فإن كل العناصر والأقاليم الأخرى ستطالب بالانفصال..ولقد كان عمل السيخ مستهجناً وغوغائياً، وبهذه الطريقة لن تنتصر قضية لأي مجموعة .. وقال: إن اغتيالها يشبه اغتيال السادات.. في كلتا الحالتين كان هناك غدر وخسة في القتل، فهي قد قتلها حرسها الذي تطمئن إليه، وكانت تسلم عليهم بالطريقة الهندية التي تشبه الصلاة .. وكذلك كان مقتل السادات، قتله بعض جنوده في احتفال كبير، واستعراض لم يكن من المتوقع فيه أن يكون هناك شخص يحمل سلاح أو ذخيرة ..كذلك تطرق الحديث إلى غاندي ،ونهرو، والد انديرا ..وكيف قتل غاندي بخسة أيضاً ،على الرغم من دفاعه عن المنبوذين والضعفاء ..وذكر الأستاذ دور نهرو وانديرا في استقلال الهند وحركة عدم الانحياز .. وأوصى الأستاذ بان يكون هناك حديث في المنابر الحرة عن انديرا ، ودورها ، وإدانة الحادث ، وتبيين خطر الهوس الديني في أي صورة كان ..
أيضاً ورد حديث عن مسس مارقريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا آنذاك، فهي كذلك في اعتبارها توحيد بريطانيا ، وتواجه نفس مشاكل العنصريات ..وسألت د.بتول مختار الأستاذ عن سبب إصرار الإنجليز على عدم منح الاستقلال للايرلنديين ؟؟ فقال لها لو فتحوا هذا الطريق لن تكون هناك بريطانيا ..فلو انفصل جزء ستزول بريطانيا ..وهي أصلاً مكونة من انجلاند وويلز وسكوتلندة وايرلندة ..فلو انفصل جزء ستسعى بقية الأجزاء إلى الانفصال ..
وقال الأستاذ: إن حركات الانفصال في العالم أصبحت كثيرة ..ولو أي جزء تمكن من الانفصال سيتوقف التقدم ،لأن الأجزاء التي تطالب بالانفصال غالباً لا تستطيع تطوير نفسها ، وتعوق الأجزاء الأخرى ..وقال: إن الناس منتظرين العدل في شكل الحكومة الكبيرة المهيمنة على كل الأجزاء وعادلة في نفس الوقت .. انتهى.. هذه مقتطفات من تقرير حول ما دار بين الأستاذ محمود وتلاميذه في احدى الزيارات أثناء اعتقاله، وكان ذلك في نوفمبر 1984م.. ونحن أوردناه لعلاقته بقضية الوحدة والانفصال من الناحية المبدئية..
نواصل في هذه الحلقة رصدنا لتاريخ مشكلة الجنوب من كتاب الأخوان الجمهوريين الذي صدر عام 1982م بعنوان "جنوب السودان .. المشكلة والحل".. جاء تحت عنوان الإستعمار الإنجليزي المصري ومشكلة الجنوب ما يلي:
( إن كل ما سبق من حديث عن مشكلة الجنوب، إنما يعتبر مجرد خلفية للمشكلة.. أما البداية الحقيقية للمشكلة فقد برزت أثناء الحكم الثنائي (1898م – 1956م ) كنتيجة مباشرة لسياسة الإستعمار الإنجليزي القائمة على مبدأ (فرق تسد).. تلك السياسة التي عملت وفق تخطيط محدد لتعميق الخلافات القائمة بين الشمال والجنوب، وتصعيدها حتى تكون سبباً للصراع بين الإقليمين، بصورة يصعب معها الوفاق، وتصعب الوحدة.. وقد عمل الإنجليز أثناء فترة حكمهم، بصورة محددة، على فصل الجنوب عن الشمال لخدمة أغراضهم الإستعارية في السودان، وفي أفريقيا.. وقد استغلوا في عملهم هذه الاختلافات العنصرية والدينية، كما استغلوا تجارة الرقيق، وأوجدوا من السياسات والقرارات الإدارية، ما يحول دون أي وجود عربي إسلامي في الجنوب، يمكن أن يتم من خلاله تعامل بين الإقليمين.. بالإضافة إلى ذلك زرعوا عدم الثقة في الشماليين، في نفوس الجنوبيين، كما عملوا على خلق وتنمية الاختلافات الثقافية بين الإقليمين..
ويمكن تفسيم السياسية البريطانية نحو جنوب السودان إلى ثلاث مراحل هي: المرحلة الأولى، وهي تبدأ بدخول الإستعمار الإنجليزي وتستمر حتى نهاية الحرب العالمية الأولى وقيام ثور 1919م المصرية، وهذه المرحلة تعتبر مرحلة تمهيدية لسياسة فصل الجنوب، أما المرحلة الثانية والتي تستمر حتى 1947م، فقد تمت فيها الإجراءات الفعلية لتنفيذ سياسة فصل الجنوب، وخلق المشكلة بينه وبين الشمال.. أما المرحلة الثالثة (1947 م – 1955م ) فقد ظهر فيها فشل ساسية الفصل فتم التراجع عنها.. ونحن هنا سنتناول هذه المراحل بشئ من الإيجاز..

المرحلة الأولى للسياسة البريطانية في الجنوب:


لقد كان هم الإنجليز الأساسي في الجنوب في هذه الفترة هو حفظ الأمن والنظام، وتأكيد سلطتهم على القبائل بفرض إدارة قوية.. وقد بدأ في هذه الفترة التبشير المسيحي في الجنوب من جديد بعد أن توقف في فترة المهدية، فقد سمحت الحكومة للمبشرين بممارسة نشاطهم، وشجعتهم على ذلك، وخصصت لكل هيئة تبشيرية منطقة خاصة بها.. كما اتجهت الحكومة البريطانية في هذه المرحلة إلى الحد من انتشار الإسلام في الجنوب، فقررت استبدال الجيش المصري سنة 1911م بقوات محلية تحت إشراف ضباط إنجليز سميت فرق الإستوائية.. وقد جعلت الحكومة كل مديرية من مديريات الجنوب الثلاث مستقلة بشئونها إلى حد كبير.. ولقد لخص اللورد كرومر دوافع بريطانيا في تشجيع التبشير المسيحي والعمل على الحد من انتشار الإسلام في تقرير له، كان ضمن ما جاء فيه قوله: " إن سكان هذا القسم وثنيون كلهم لم يروا واحداً من المسيحيين إلا قريباً.. واتصالهم بالمسلمين يذكرهم بفظائع الدراويش والنخاسين العرب" .. ( كتاب (العلاقات العربية الأفريقية ـ إصدارة: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، صفحة 285 )..
وفيما بعد، في عام 1929م، بيّن هندرسون غرض الإنجليز بعبارات أوضح من عبارات كرومر، فقد قال: (إن إنجلترا كدولة مسيحية لا يمكنها بحكم دينها أن تشارك في سياسة تشجيع انتشار العروبة والإسلام بين شعب يزيد على ثلاثة ملايين وثني، إذ أن ذلك قد يترتب عليه نتائج مدمرة بالنسية لمصالحها ) ـ(المصدر السابق، صفحة 273 ).. وقد رأى ونجت حاكم عام السودان آنذاك في فرق الإستوائية التي حلت محل القوات المصرية والجنود الشماليين أنها تشكل (حاجزاً إفريقياً له قيمته ضد أي ثورة عربية في السودان ).. المصدر السابق، صفحة 290 .. ولدعم العزلة بين الجنوب والشمال، استبدلت إجازة يوم الجمعة الإسبوعية في الجنوب بيوم الأحد، وقد عمم ذلك على جميع أنحاء الجنوب إبتداءً من 3 يناير 1918م..

المرحلة الثانية: 1920 – 1946م:


في هذه المرحلة وبعد ثورة 1919م المصرية، وحركة 1924م السودانية ذات الارتباط بمصر، رأت بريطانيا أن مصالحها الإستعمارية في السودان، وشرق أفريقيا، تقضي بأن تنتهج سياسة تهدف إلى فصل الجنوب عن الشمال، أملاً في أن يتم ضمه في المستقبل لممتلكات بريطانيا في يوغندا، وشرق أفريقيا.. ولتحقيق هذا الغرض اتجهت السياسة الإنجليزية إلى عزل الجنوب عن الشمال ثم تصفية الوجود الشمالي في الجنوب بشتى الوسائل.. ويمكن تلخيص أهم معالم هذه السياسة فيما يلي: ـ
1 - منع مديري المديريات الجنوبية من حضور إجتماع مديري المديريات، الذي كان يعقد سنوياً في الخرطوم، فكان عليهم أن يجتمعوا وحدهم في الجنوب وأن يكونوا على اتصال بزملائهم في يوعندا وكينيا.. ولقد وصلت إلى لجنة (ملنر) ثلاث مذكرات عن الوضع بالنسبة لجنوب السودان، كانت الأولى منها بتاريخ 15 فبرائر 1920م بعنوان (فصل السودان عن مصر)، وتبحث هذه المذكرة في (اللامركزية في حكومة السودان بهدف فصل الزنوج عن الأراضي العربية ) ـ المصدر السابق، صفحة 293 ـ والمذكرة تقترح فصل السودان إلى شمالي وجنوبي، وإقامة خط فاصل يمتد من الشرق إلى الغرب حددت مواقعه.. وبعد هذه المذكرة بعشرة أيام أعدت السلطات المسئولة في الخرطوم مذكرة جديدة ذات تصور أكثر تحديداً وقد جاء فيها: (إن حكومة السودان سوف تكون على استعداد للإندماج في حكومات أملاك أفريقية أخرى مثل أوغندا، وشرق أفريقيا إذا كان الأمر يخص الزنوج.. أما المديريات العربية فهي تحتاج إلى معاملة مختلفة، وعلى ذلك فيجب أن تبحث مسألة إقامة اتحاد لوسط أفريقيا تحت الإدارة البريطانية يضم بالطبع زنوج السودان ).. المصدر السابق، صفحة 293 ..
وفي مذكرة صدرت في 14 مارس 1920م جاء: (إن سياسة الحكومة هي الحفاظ على قدر الإمكان بجنوب السودان بعيداً عن التأثير الإسلامي، ففيه يتم توظيف المآمير السود، وعندما يكون من الضروري إرسال كتيبة من المصريين فيختار الأقباط.. وأصبح يوم الأحد هو يوم الإجازة بدلاً من يوم الجمعة كما في الشمال، هذا بالإضافة إلى تشجيع المشاريع التبشيرية ) .. وتواصل المذكرة: (ينبغي أن يوقر في الأذهان إمكانية فصل مناطق الجنوب الأسود من السودان عن مناطق الشمال (العربي) وربطه بتنظيم لأواسط أفريقيا ) ـ المصدر السابق، عن، مدثر عبد الرحيم (تطور الإدارة الإنجليزية في جنوب السودان)، صفحة 7 ..
2- في سبتمبر 1922م، صدر قانون المناطق المقفولة، والذي بمقتضاه جعل الجنوب منطقة مقفولة لا يجوز دخولها أوالخروج منها، إلا بإذن خاص من السلطات (وقد هدف هذا القانون إلى إبعاد الشماليين والمصريين من جنوب السودان، واستبدالهم بالأغاريق والبسوريين المسيحيين، وتقليل أعداد الجنوبيين الراغبين في الانتقال للعمل في الشمال .. وصدر قانون آخر في سنة 1925م منع الشماليين من التجارة في الجنوب إلا بإذن خاص من السلطات ـ دكتور حسن أحمد إبراهيم (تاريخ السودان الحديث ) صفحة 138.. وكان التاجر الذي يرفض الرحيل يجبر على ذلك ثم تنتحل أي أسباب لإبعاده فقد جاء في التوجيهات الإجبارية (وإن كان منهم من يرفضون الرحيل وترون ضرورة التخلص منهم يبيّن أسباب ذلك بقول أوبآخر مثل "المتجر خالي من البضائع " أو"لا يؤدي أي عمل " أو" شخصية رديئة " الخ ـ مدثر عبد الرحيم، المصدر السابق، صفحة 94..
3- لتنفيذ سياستها اتجهت الحكومة إلى القضاء على اللغة العربية في الجنوب واستبدالها باللغة الإنجليزية واللهجات المحلية وبذلت الحكومة مجهوداً كبيراً في هذا الصدد، فشجعت الموظفين الإنجليز على تعلم اللغات الجنوبية، ووصل بها الأمر حد تشجيع الجنوبيين على استبدال أسمائهم العربية بأسماء قبلية، وأن يتركوا لبس الملابس العربية ويستبدلوها بالزي الأفرنجي..
4- عملت الحكومة على إبعاد الموظفين الشماليين العاملين بالجنوب، واستبدالهم تدريجياً بموظفين جنوبيين، ولتحقيق هذا الغرض فتحت بالتعاون مع المبشرين عدداً من المدارس الأولية والوسطى..
5- وضعت الحكومة التعليم في الجنوب في يد الإرساليات المسيحية لنشر المسيحية، وربط الجنوب بالحضارة الغربية وتمكين العزلة الثقافية بينه وبين الشمال.. وقد كان يصرف على التعليم التبشيري من ميزانية الحكومة، التي تأتي أساساً من المديريات الشمالية (بلغت المعونة الحكومية لمدارس الإرساليات عام 1924م مائة وخمسين (150) جنيهاً فقط، زادت عام 1927م إلى 3800 جنيهاً، وقفزت بعد ذلك ثلاث سنوات لتبغل 7550 جنيهاً ) ـ كتاب (العلاقات الإفريقية العربية )، صفحة 307 .. وعن حجم التعليم التبشيري بالجنوب جاء بالمصدر السابق صفحة 32: (وتظل المدارس التبشيرية في ازيايد في الجنوب لتقفز عام 1934م إلى 368 مدرسة منها 310 من مدارس الشجر وخمسين مدرسة أولية للنبات والبنين وتزداد مدارس المعلمين لتصبح إثنتين،وبعد ذلك بعامين تزداد مدارس الشجر 83 مدرسة أخرى والمدارس الأولية خمسة مدارس كما تزداد مدارس المعلمين مدرسة واحدة ).. وقد لعب المبشرون دوراً كبيراً في خلق مشكلة الجنوب، حتى بعد استقلال السودان.. وقد كانت الجمعيات التبشيرية تعارض قيام (سودان موحد)،لأنها: (من ناحية ترى أن أبناء الشمال سيجعلون من الإسلام ديناً للسودان كله، وهي من ناحية أخرى تعتقد أن الشماليين سيفرضون القيود على الحرية الدينية، وثم إنها أخيراً تؤمن بأنه لن يمضي وقت طويل حتى يتم إخضاع التعليم في الجنوب للإشراف الحكومي ) ـ المصدر السابق، صفحة 326 ـ وقد كان المبشرون أثناء عملهم التعليمي يحرصون على الحديث عن تجارة الرقيق بالجنوب، ويصورونها على أنها من أعمال العرب الشماليين، مما أدى إلى إيغار صدور الجنوبيين على الشماليين، وعمّق أسباب العداوة.. (وفي سنة 1930م أعلنت الحكومة رسمياً سياستها الانفصالية في مذكرة أعدها السكرتير الإداري هارولد ماكمايكل وأرسلها إلى مديري المديريات الجنوبية الثلاث ورؤساء المصالح) ـ كتاب (تاريخ السودان الحديث)، دكتور حسن أحمد إراهيم، صفحة 139 ـ وقد بلغت السياسة الانفصالية ذروتها في منتصف الثلاثينات، إلا أن هذه السياسة قد فشلت في النهاية ..

المرحلة الثالثة (1947 – 1955م):


لقد أدت أسباب عملية الي فشل سياسة فصل جنوب السودان، ومن هذه الاسباب صعوبة تطوير المواصلات بين الجنوب وشرق افريقيا، والحاجة للشماليين في العمل في الجنوب بالاضافة الي عودة النفوذ المصري بعد معاهدة 1936م والنقد الذي لقيته سياسة الفصل من السياسيين المصريين ومن الصحافة المصرية.. هذه بالاضافة الي أن الحركة الوطنية السودانية نفسها قد بدأت تنشط في هذه الفترة، قبيل الحرب العالمية الثانية.. وقد تضمنت المذكرة التي رفعها مؤتمر الخريجين سنة 1942م المطالبة بإلغاء قوانين المناطق المقفولة، ورفع القيود عن حرية التجارة وتنقل السودانيين داخل السودان، ووقف الإعانات التي تقدم للمدارس التبشيرية وتوحيد مناهج الدراسة في الشمال والجنوب.. كما أن ظروف الحرب العالمية الثانية أعانت علي أن تغير بريطانيا من سياستها تجاه الجنوب لكسب القوي الوطنية في مصر والسودان.. ففي 16 ديسمبر 1946م، وجه المستر روبرتسون السكرتير الاداري مذكرة الي رؤساء الادارات ومديري المديريات، جاء فيه عن الجنوبيين: (ان العوامل الجغرافية والاقتصادية تحتم توحيدهم في مستقبل تطورهم، توحيدا لا انفصام له، مع السودان الشمالي الذي من صفاته الاساسية أنه جزء من الشرق الاوسط وأنه مستعرب.. وبناء عليه فان سياستنا تستهدف إعانة الجنوبيين عن طريق التطور التعليمي والاقتصادي، حتي يستطيعوا الاعتماد علي أنفسهم مستقبلا ويكونوا اندادا متساويين اجتماعيا واقتصاديا مع شركائهم وزملائهم من السودانيين الشماليين في سودان المستقبل الموحد)..

مؤتمر جوبا 1947م:


عقد في 13 يونيو1947م مؤتمر بجوبا لمناقشة مسألة الجنوب تحت رئاسة السكرتير الاداري السير جيمس روبرتسون، وقد حضره مديروالمديريات الجنوبية الثلاث، ومدير شئون الخدمة، وسبعة عشر جنوبيا من زعماء القبائل المثقفين، وستة من الشماليين.. وقد توصل المؤتمر الي أن رغبة الجنوبيين هي الاتحاد مع الشماليين في سودان موحد.. وقد قبلت الحكومة هذا القرار وجعلته أساسا لسياستها الجديدة، وحاولت إزالة بعض الحواجز التي اصطنعتها بين الشمال والجنوب، فأدخلت تعليم اللغة العربية في مدارس الجنوب فوق الأولية سنة 1950م.. ورغم أن بريطانيا قد غيرت من سياستها نحو الجنوب في نهاية الأمر، الا أن تلك السياسة قد تركت جوا من التشكيك، وعدم الثقة، عند الجنوبيين نحوالشماليين، وخلقت من أسباب الفرقة والصراع بين الشمال والجنوب ما جعل مشكلة الجنوب تستمر، وتتفاقم، الي الحد الذي أدت فيه الي حرب أهلية طويلة.. وعندما نشأت الاحزاب الشمالية في الشمال، ولجات الى أسلوب المفاوضات مع دولتي الحكم الثنائي، لم تشرك الجنوبيين معها.. وعند قيام وفد الاحزاب الي مصر لم يكن الجنوبيين ممثلين فيه، الأمر الذي زاد من شعور الجنوبيين بالعزلة، وهكذا لم تحرص الاحزاب الشمالية علي توثيق صلتها بالجنوبيين.. وعقب اتفاقية 1953م المصرية – البريطانية والتي أعطت السودان الحكم الذاتي وحق تقرير المصير، أعلن الساسة الجنوبيون أن هدفهم هو إقامة نظام فدرالي في السودان يمنح بمقتضاه الجنوب الحكم الذاتي.. وقد أصبح الحكم الذاتي هو المطلب الاساسي للجنوبيين بعد الاستقلال، الا أن بعض المتطرفين منهم كانوا يطالبون بالاستقلال التام..) انتهى..
كانت تلك تفاصيل محاولة فصل الجنوب التي فشلت، وانتهت بتثبيت خيار الوحدة في مؤتمر جوبا، والدوافع والحيثيلت في الحالتين بتوجيه الاستعمار البريطاني.. واليوم، الدوافع الأجنبية تعمل عملها من خلال العقول، لفصل الجنوب كان ذلك في الواقع المنفر عن الوحدة الذي أفرزته أفكار الأخوان المسلمين المستوردة من مصر، أو الإغراءات الغربية للجنوبيين.. فهل من المحتمل أن ينهض السودانيون لإنقاذ وطنهم على أسس من الفكر السوداني ؟؟
كيف تعاملت حكومات ما بعد الاستقلال، مع مشكلة الجنوب ؟؟ الإجابة بالتفصيل تجدها في الحلقة القادمة..

التحدي الذي يواجه السودانيين (5)


محمد محمد الأمين عبد الرازق


لقد ذكرنا في الحلقة السابقة، أن الإنجليز، في إطار خطتهم لفصل الجنوب طردوا الجيش المصري والجنود السودانيين، وكونوا قوات فرق الاستوائية لتحل محلهم، وكان ذلك في عام 1911م.. وقد شكلت هذه القوات، البذرة التي تفرع منها العمل المسلح بعد خروج الإنجليز، وفي جميع مراحل الحكم الوطني.. وقبل أن ندخل إلى مرحلة الحكم الوطني، لا بد أن نسلط بعض الضوء على الدور الذي قام به الحزب الجمهوري في مناهضة خطة الإستعمار لفصل الجنوب..
لقد نشأ الحزب الجمهوري في اكتوبر 1945م برئاسة الاستاذ محمود محمد طه.. وهو أول حزب سوداني ينشأ خارج المؤسسة الطائفية، وهوالحزب الوحيد الذي كان يدعو إلى قيام حكومة جمهورية في السودان في ذلك الوقت، اذ أن بقية الأحزاب كانت ترى أن يكون نظام الحكم في السودان نظاما ملكيا.. وقد جاء في دستور الحزب الجمهوري عند نشأته، أن غرضه هو (قيام حكومة سودانية جمهورية ديمقراطية حرة مع المحافظة على السودان بكامل حدوده الجغرافية القائمة الآن).. وفي الوقت الذي اتجهت فيه الأحزاب الأخرى في تعاملها مع الاستعمار الانجليزي إلى أسلوب المذكرات والمفاوضات، اتجه الحزب الجمهوري إلى توعية الشعب وإثارة حماسه ضد الانجليز، فاتجه الجمهوريون إلى أسلوب المناجزة المباشرة للانجليز عن طريق الخطابة، وكتابة المنشورات، التي تخاطب الشعب.. وقد نعي الجمهوريون علي الأحزاب الأخرى أسلوبها في التعامل مع الاستعمار.. فقد جاء في كتاب (السفر الأول) الذي أخرجه الجمهوريون في 26 أكتوبر 1945م ما نصه: (لماذا، عندما ولدت الحركة السياسية في المؤتمر، اتجهت إلى الحكومة تقدم لها المذكرات ولم تتجه إلى الشعب، تجمعه، وتثيره لقضيته ؟؟ ولماذا قامت عندنا الأحزاب أولاً، ثم جاءت مبادؤها أخيراً ؟؟) (والجواب قريب: هو إنعدام الذهن الحر، المفكر، تفكيراً دقيقا)..
وهكذا اتجه الجمهوريون في البداية إلى ملء فراغ الحماس الوطني، وكانت سياسة الاستعمار الانجليزي تجاه الجنوب من أكبر ما استغله الجمهوريون في خطبهم وكتاباتهم ضد الاستعمار ولإثارة حماس المواطنين.. وكان مما جاء عن مشكلة الجنوب في منشورات الجمهوريين آنذاك، قولهم: (ما سكوتك