إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
لقد وجهت مجلة جامعة الخرطوم سؤالا، إلى الأستاذ محمود: هل البديل لنظام مايو هو تجربة برلمانية جديدة ؟؟ وكان هذا، بتاريخ 4/1/1985م أي قبل اعتقاله بيوم واحد، فأجاب: " نحن في تاريخنا الوطني لم نمر بتجربة برلمانية، ولن نمر بها إذا تقوض نظام مايو الحالي !! " ثم ذهب يوضح كيف كانت الأحزاب الطائفية، تصطرع على السلطة من أجل أن تجمع بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية، وهي لا تملك مذهبية للحكم وإنما برنامج كل طائفة ألا تنتصر الأخرى، ووسط هذا الصراع تهدر مصالح الشعب وتضيع مكتسباته، فالعجز في حل مشكلة الجنوب، ناتج من الفشل في حل مشكلة الشمال والسبب انعدام فلسفة الحكم !! إذن نتابع ما حدث خلال فترة الديمقراطية الثالثة لنقرر بعدها هل ينطبق عليها ما قاله الأستاذ محمود أم لا ؟؟
ميثاق الدفاع عن الديمقراطية:
أشرنا في الحلقة الماضية إلى أن المؤسسات الانتقالية عام 1985م، تلكأت في تنفيذ مطالب الانتفاضة خاصة إلغاء قوانين سبتمبر، ولذلك فقد تنادت أحزاب ونقابات التجمع الوطني لصياغة ميثاق الدفاع عن الديمقراطية، وقد تم إعلان الميثاق في الاحتفال بذكرى انقلاب عبود يوم 18/11/1985م، وبميدان المدرسة الأهلية بأمدرمان.. وجاء في الميثاق، أن النظام الديمقراطي هو الخيار الوحيد للشعب، وأن سبيلنا إلى مقاومة أي اعتداء عليه إنما هو الدخول الفوري في الإضراب السياسي والعصيان المدني بمجرد حدوث الاعتداء، وبهذا يعتبر العصيان معلنا تلقائيا.. ووقعت على هذا الميثاق 18 حزبا وتجمعا واتحادا كما وقع عليه ممثل المجلس العسكري والقوات المسلحة، ووافقت القوات المسلحة على الالتزام بعدم الامتثال لأي أوامر تصدر لها من سلطة غير منتخبة وغير شرعية !!
السؤال هو: لماذا لم ينفذ الميثاق عندما قام انقلاب الإنقاذ ؟؟ للإجابة نتابع مجريات الأحداث في فترة الديمقراطية الثالثة 86 -1989م..
ما بعد انتخابات 1986م:
لقد حدد قانون الانتخابات 301 دائرة منها 273 جغرافية، و28 للخريجين، وقد قررت اللجنة تأجيل الانتخابات في 41 دائرة جغرافية في الإقليم الجنوبي بسبب الحرب.. وبذلك أصبح عدد النواب المنتخبين 260، نال حزب الأمة 105، الاتحادي الديمقراطي 63، الجبهة الإسلامية القومية 51، الحزب القومي السوداني 8، الشيوعي 3، الأحزاب الجنوبية 26 والمستقلون 4.. وبعد إعلان النتائج سلم المجلس العسكري الانتقالي السلطة للجمعية التأسيسية، ومجلس رأس الدولة وسط احتفالات ومظاهرات شاركت فيها كل قوى التجمع الوطني وبدأت فترة الديمقراطية الثالثة، في جو مليء بالتفاؤل، والأمل، وقد قال السيد الصادق المهدي في تصريحات صحفية: " إن التجربة الديمقراطية الثالثة هي تجربة سودانية خالصة، وأنها تمثل هدية العبقرية السودانية لبلدان العالم، وأن الكثيرين يرون قبل البدء في التطبيق، أن التجربة السودانية ستكون أملا ومخرجا لأزمة الحكم في بلدان العالم الثالث !! "
لم يحقق أي حزب الأغلبية التي تمكنه من الحكم منفردا فانفتح الباب للائتلاف.. ولقد تشكلت الحكومة الائتلافية الأولى، من حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي وبعض الأحزاب الجنوبية، وبعد ذلك التقي السيد الصادق المهدي رئيس الوزراء بالعقيد جون قرنق، زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان واتفق معه على أن يكون إعلان كوكادام هو الأساس لحل مشكلة الحرب الأهلية، وأنه سيعمل على توسيع قاعدته ليضم الأحزاب التي عارضته، واتفقا على أن يستمر دستور 85 الانتقالي بدلا من الرجوع إلى دستور 56 المعدل 64 حسب ما جاء في الإعلان، وكذلك اتفقا على أن تخصص القوانين ذات الصبغة الدينية في نطاق المجموعة الخاصة بها.. وبعد اسبوعين من هذا اللقاء أسقطت الحركة الشعبية طائرة مدنية قرب مدينة ملكال، وأدى ذلك إلى تسميم العلاقة بين الحركة والحكومة الائتلافية، وإلى ارتفاع أصوات الحسم العسكري التي كانت تقودها الجبهة الإسلامية القومية.. ثم نقلت الحركة الشعبية عملياتها العسكرية إلى جنوب كردفان، والنيل الأزرق ومنطقة بحر الغزال، ومنعت دخول الإغاثة للمتضررين من المجاعة في الإقليم الجنوبي.. فطالبت وكالات الإغاثة الأجنبية بتسليمها مواد الإغاثة الخاصة بالجنوب لتقوم بتوزيعها، وفي المقابل اتهمت الجبهة الاسلامية الحركة الشعبية بالعمالة لقوى أجنبية، وطالبت بوقف الحوار معها، واتهمت كل من يدعو للحوار بأنه طابور خامس.. وكان لهذه الضغوط السياسية التي تمارسها الجبهة، من خلال صحفها وعضويتها المعارضة في الجمعية التأسيسية، أثرها المعوق لمساعي الحل السلمي، بالإضافة إلى الإرهاب الديني، ولذلك أحجمت الحكومة عن تبني إعلان كوكادام كإطار لعملية السلام، بسبب تغيير الحزب الاتحادي موقفه المعلن من قوانين سبتمبر من الإلغاء إلى التأجيل تأثرا بضغوط الجبهة، بالرغم من توقيعهم على ميثاق الانتفاضة الذي نص على الإلغاء!! وفي النهاية توصل الحزبان إلى نص توفيقي يقول بإصدار قوانين بديلة تلغى بموجبها قوانين سبتمبر، وشكلت لجان لهذا الغرض، ولكن فشلت الحكومة في إنجاز ما اتفق عليه إلى أن طلب السيد الصادق المهدي حل الحكومة في مايو 1987م.. وبعد مشاورات ومناورات استمرت لأكثر من شهرين، أعلن السيد الصادق عن استمرار نفس الائتلاف بين الحزبين، وتمديد فترة المشاورات لتحديد شكل الحكومة !! وعندما سأله بعض الصحفيين عن سبب بقاء البلاد بلا حكومة لفترة طويلة، قال إن الخدمة المدنية حققت قدرا من الخبرة يمكنها من قيادة الوزارات بكفاءة عالية !! وتشكلت الحكومة في سبتمبر 1987م، ولكن بسبب الخلافات الحزبية وصراع المصالح الضيقة، فشلت هذه الحكومة أيضا في إلغاء قوانين سبتمبر، ووصلت الأزمة إلى نهايتها في مارس 1988م، عندما طلب السيد الصادق حل الحكومة لتشكيل حكومة جديدة على برنامج جديد !! ويلاحظ أن فترة هذه الحكومة لم تتجاوز ستة أشهر !! وكانت الأزمة التي أنهت تلك الحكومة هي رفض حزب الأمة ترشيح السيد أحمد السيد حمد لعضوية مجلس رأس الدولة، في المقعد المخصص للحزب الاتحادي والذي أخلاه السيد محمد الحسن عبد الله يس بالاستقالة.. فرشح حزب الأمة الأستاذ ميرغني النصري، وسانده نواب الجبهة من أجل إقصاء أحمد السيد حمد بحجة أنه من سدنة مايو، وهكذا وبهذه المكايدات فقد الحزب الاتحادي مقعده !!
احتلال الكرمك وقيسان:
في منتصف نوفمبر 1987م، أعلنت القيادة العامة إخلاء مدينتي الكرمك وقيسان، وسحب القوات العسكرية وإعادة جمعها خارج المدينتين، لأنهما أصبحتا تحت مرمى مدفعية ثقيلة، وصاروخية متمركزة في أثيوبيا، أما إذاعة الحركة الشعبية فقد أعلنت احتلال المدينتين، واستمرار قواتها في الزحف نحو مدينة الدمازين.. لقد خلقت هذه المشكلة هزة كبيرة في أوساط الحكومة والقوى السياسية، بمختلف اتجاهاتها، وكانت تحديا قاسيا للحكومة واختبارا صعبا لقدراتها العسكرية، فأعلن مجلس رأس الدولة التعبئة العامة، وبدأت الأحزاب السياسية تتنافس على دعم القوات المسلحة، فتبرع نواب الجبهة الإسلامية بسياراتهم التي منحتها وزارة المالية لنواب الجمعية التأسيسية بالبيع الإيجاري.. وكان السيد الصادق يبحث عن دعم ليبي، إلا أن السيد محمد عثمان الميرغني كان أسرع منه، فقد تمكن من الحصول على راجمات عراقية أطلق عليها الرأي العام " راجمات أبو هاشم " ودعم مالي سعودي.. وقد لعب هذا السلاح دورا حاسما في المعركة، فاستعيدت المدينتان، ثم زار السيد محمد عثمان الضباط والجنود الذين شاركوا في المعركة، وهكذا حقق الاتحادي الديمقراطي نصرا سياسيا غاليا، وسط الشعب والقوات المسلحة.. لقد أعادت هذه المعركة التوازن بين الحكومة والحركة الشعبية وبذلك تهيأت الساحة للحديث عن الحل السلمي، ففي الشهر الأول من عام1988م شهدت الساحة تحركات عديدة أهمها نجاح مصر في ترتيب لقاء بين السيد الصادق والرئيس الأثيوبي في كمبالا، وكذلك لقاء آخر بين وزير الدفاع وممثلي الحركة الشعبية في لندن.. وكانت قمة هذه المحاولات في نوفمبر 1988م، حين أعلنت اتفاقية السلام السودانية التي وقعها السيد محمد عثمان الميرغني والعقيد جون قرنق..
حكومة الوفاق الوطني:
وفي مارس 1988م، طلب السيد الصادق تفويضا جديدا، لتكوين حكومة الوفاق الوطني بإشراك الجبهة الإسلامية القومية ،بعد أن خضع لكل شروطها، إلى جانب الحزبين الكبيرين.. وبعد مشاورات استمرت أكثر من شهر، شكلت الحكومة من الأحزاب الثلاثة وتحولت كتلة الأحزاب الأفريقية إلى المعارضة !! وبرزت أولى المشاكل عندما رشحت الجبهة الإسلامية الأستاذ أحمد سليمان المحامي، لرئاسة الجمعية التأسيسية خلفا للسيد محمد ابراهيم خليل الذي استقال، فقد رفض حزبي الأمة والاتحادي ترشيحه بحجة أنه شارك في انقلاب مايو عندما كان عضوا بالحزب الشيوعي !! ثم انتهت المشكلة بترشيح الأستاذ محمد يوسف محمد بدلا عنه.. وفي منتصف مايو 1988م، أعلنت الحكومة الجديدة وقد فشلت فشلا ذريعا في درء كوارث السيول والفياضانات الشهيرة في خريف ذلك العام، ولم تفعل سوى الاستنجاد بالمجتمع الدولى، ثم دخلت أطرافها الثلاثة في صراع طويل حول القوانين البديلة لقوانين سبتمبر، فقد كانت على منضدة الجمعية التأسيسية ثلاثة قوانين، ثم قدمت الجبهة قانونا رابعا إلى مجلس الوزراء بالرغم من اشتراكها في إعداد القانون الثالث وهو قانون لجنة الوفاق !! واستمرت المناقشة في مجلس الوزراء لقانون الجبهة أكثر من شهرين، وفي عنفوان الفيضانات والسيول كان المجلس منهمكا في المناقشة، ثم أحال القانون إلى الجمعية بدون إجازة !! وبعد مناقشات ومكايدات يستحيل حصرها في هذا المقال، استقال الوزراء الاتحاديين في نهاية ديسمبر 1988م بسبب رفض الحكومة لاتفاقية السلام السودانية، فتأزم وضع حكومة الوفاق، فقدم السيد الصادق برنامجا لحكومة جديدة، ائتلافية رابعة من حزبي الأمة والجبهة وبعض السياسيين الجنوبيين، وأسماها حكومة " الجبهة الوطنية المتحدة " وهكذا تحول الحزب الاتحادي إلى المعارضة !! وظلت قوانين سبتمبر باقية !!
لقد تعرضت هذه الحكومة لهزة عنيفة بسبب استقالة وزير الدفاع، الفريغ عبد الماجد حامد خليل، وهو شخصية مستقلة اختاره السيد الصادق لهذا المنصب، ومما جاء في أسباب الاستقالة: عدم استجابة الحكومة لمبادرة السلام السودانية، وهيمنة الجبهة الإسلامية على صناعة القرار الحكومي !!
مبادرة السلام السودانية:
في إطار محاولات الحل السلمي، أجرى الاتحادي الديمقراطي حوارا مع الحركة الشعبية، في جولتين بأديس أبابا، وأعلن الطرفان أنه تم التوصل إلى اتفاق سيعلن بعد لقاء الزعيمين الميرغني وقرنق.. وقد رحبت جميع الأحزاب بهذا الإعلان ما عدا الجبهة الاسلامية القومية !! وفي اليوم السابق لموعد سفر السيد محمد عثمان الميرغني إلى أديس أبابا للقاء العقيد جون قرنق، لإكمال المفاوضات، تعرض منزل الأول بالخرطوم 2 لهجوم مسلح استخدمت فيه القنابل المضيئة والرصاص !! وكان ذلك مساء 10/11/1988م، فتوجهت أصابع الاتهام إلى الجبهة الاسلامية باعتبارها الجهة الوحيدة التي تردد على الدوام رفضها للحل السلمي.. هذا وقد رد السيد الميرغني على الهجوم بقوله: " نحن أحفاد كربلاء لا يثنينا الرصاص والإرهاب عن الحق، ولإعلاء كلمة الله والإسلام، ولا بد أن نرسي السلام، وبالسلام تعلو كلمة الحق ولا بد من حقن الدماء، وصيانة الوحدة الوطنية "
وفي 16/11/1988م، وقع الزعيمان مبادرة السلام السودانية، واشتملت على خمسة نقاط أهمها: تجميد الحدود إلى حين انعقاد المؤتمر الدستوري، إلغاء الاتفاقيات العسكرية التي تؤثر على السيادة الوطنية، رفع حالة الطوارئ ووقف إطلاق النار.. وجاءت الفقرة التالية تتحدث عن تشكيل اللجنة التحضيرية للمؤتمر الدستوري، والثالثة تتحدث عن مكانه وتاريخه وقد حدد يوم 31 ديسمبر موعدا لانعقاده..
لقد وجدت هذه الاتفاقية قبولا واسعا، ظهر في الاستقبال الحاشد لموكب السيد الميرغني لدى عودته من أثيوبيا، وبقيت الجبهة الاسلامية وحدها في موقعها الرافض، وحاولت إصدار قرار من مجلس الوزراء يمنع اتصالات شخصية أو حزبية بحركة قرنق، أكثر من ذلك هددت بالاغتيال، وقد دفع تشددها هذا حزب الأمة إلى تقديم اقتراح لتعديل الاتفاقية !! مع إن الاتفاقية ليس فيها تعقيدات مقارنة بإعلان كوكادام.. وبعد يوم واحد من توقيع الاتفاقية، تعرضت طائرة كانت تقل وزير الدفاع الفريق أول عبد الماجد حامد خليل، والفريق أول فتحي أحمد علي القائد العام، للإصابة بصاروخ سام 7 فور إقلاعها من مطار مدينة واو، في طريقها إلى الخرطوم، إلا أن الطائرة هبطت بسلام مرة أخرى، بالمطار.. فأدانت القوى السياسية جميعها هذه الجريمة، بما فيها الحركة الشعبية نفسها، وقال قائدها قرنق أنه لم يصدر أي أوامر لمهاجمة الطائرة !! وربط بيانه بين الحادث وبين ما حدث للسيد الميرغني قبيل سفره لتوقيع الاتفاقية !!
وعندما قدمت الهيئة البرلمانية للاتحادي الديمقراطي، اقتراحا يدعو الجمعية التأسيسية إلى تأييد المبادرة، وتفويض السيد رئيس الوزراء لاتخذ الخطوات اللازمة لعقد المؤتمر الدستوري، سقط الاقتراح !! وبهذا الحدث وصلت حكومة الوفاق الوطني إلى طريق مسدود، وأصبحت تحمل تناقضات في داخلها بين موقف الاتحادي المدافع عن الاتفاقية وموقف حزبي الأمة والجبهة الرافض لأسباب متعددة، فبينما كان رفض الجبهة لأسباب مبدئية، كان موقف حزب الأمة للمحافظة على الائتلاف القائم !! وفي هذا الأثناء صعدت حركة قرنق عملياتها العسكرية في جميع مواقعها، ثم انسحب الاتحادي الديمقراطي من الحكومة في 27/12/1988م وانضم إلى المعارضة !! فاقتصرت دائرة الحكومة على الأمة والجبهة وبعض الجنوبيين، وهكذا ضاعت قضايا الشعب وسط زحمة الصراع الحزبي الضيق.. وفي فبزائر من عام 1989م، قدمت القوات المسلحة المذكرة المشهورة لتضع حدا لهذه الحكومة، وتجبرها على الاستقالة.. وقد كان لخطب زعيم المعارضة الاتحادي الشريف زين العابدين الهندي وقعها المحزن في أوساط الشعب، فقد هاجم التجربة الديمقراطية، وقال " الديمقراطية لو شالا كلب ما في إنسان بيقول ليهو جر !! " وتعرض لأوضاع الجنود في الجنوب وقال:" إنهم يأكلون الفئران، والفئران نفسها هزيلة وليس فيها لحم يؤكل !!" ثم علق السيد الصادق على أحاديث الهندي هذه بقوله: " على كل حال لقد وظف الحزب الاتحادي الديمقراطي متحدثا لبقا لهدم النظام الديمقراطي من أساسه !! "
من هذا الواقع البائس استقالت حكومة الوفاق الوطني، وبدأت المشاورات لتشكيل حكومة الجبهة الوطنية المتحدة !! وفي 25 مارس 1989م، أعلن السيد الصادق تشكيل الحكومة بين الأمة والاتحادي وبعض الأحزاب الأخرى، وخرجت الجبهة الاسلامية إلى المعارضة !! وفي أول اجتماع للحكومة، صدر قرار بالموافقة على اتفاقية السلام السودانية بتوضيحاتها، وكونت لجنة السلام لمواصلة تنفيذ الاتفاقية، وفي هذا الأثناء كانت الحرب مشتعلة في الجنوب في جميع المواقع، ولذلك لم يتم تحديد موعد للاجتماع المشترك بين اللجنة والحركة، بسبب تصعيد الحرب، واتهم وزير الإعلام بأن الحركة غير جادة في عملية السلام.. وفي الأول من مايو أعلنت الحركة الشعبية وقف إطلاق النار من طرف واحد، لمد شهر، ليتم وقف شامل لإطلاق النار من لجنة فنية مشتركة.. ثم أعلنت لجنة السلام موافقتها على عقد اجتماع مشترك بأديس أبابا، يوم 10/6/1989م، في اتجاه تنفيذ الاتفاقية، وقد نجحت الحكومة في إلغاء اتفاقية الدفاع المشترك مع مصر، والبروتوكول الليبي.. وكذلك أعلنت اللجنة أن الاتفاق المبدئي لموعد انعقاد المؤتمر الدستوري هو يوم 18/9/1989م.. وهكذا تهيأت الأجواء ودخلت مفاوضات السلام مراحلها الحاسمة، أما موضوع القانون الجنائي، فقد أصدرت الجمعية قرارا بتأجيله إلى المؤتمر الدستوري، فثارت ثائرة الجبهة الاسلامية فانسحب نوابها من الجمعية وقدم رئيسها استقالته، وشرعت في تسيير المظاهرات المعادية للحل السلمي واتهمت كل من يخالفها بالردة عن الاسلام !! وفي هذا الوقت فوجيء الجميع بالمارشات العسكرية في الإذاعة تعلن استيلاء القوات المسلحة على السلطة بقيادة العميد عمر البشير، وبدأت مرحلة ثورة الإنقاذ الوطني بقيادة الجبهة الإسلامية يوم 30/6/1989م..
هل تحركت القوى الموقعة على ميثاق الدفاع عن الديمقراطية لتنفيذ العصيان المدني المعلن تلقائيا كما نص الميثاق؟؟ والجواب قريب: إن شيئا من هذا لم يحدث فقد أزكمت الصراعات الطائفية، والحزبية الضيقة الأنوف وضاعت أربعة سنوات من الشعب في غير طائل، ولم ينجز شيء لا في الحرب الأهلية ولا في الأوضاع الاقتصادية المتردية باستمرار ففي سبيل ماذا العصيان ؟؟ وفي سخرية لاذعة كتب السيد أحمد بهاء الدين الكاتب المصري المعروف بصحيفة الأهرام 4/3/1989م، وهو يصف ضياع مشاكل الشعب وسط الجدل الدائر بين الأحزاب، كتب: " إن أهل بيزنطة في الخرطوم، يتناقشون حول جنس الملائكة، وإذا ما كانت البيضة قبل الدجاجة أم الدجاجة قبل البيضة، في وقت تحصد فيه الحرب في الجنوب الأخضر واليابس، وتطحن الأزمة الاقتصادية الملايين من أبناء وبنات السودان !! ".. ولذلك كانت عبارة الأستاذ محمود في مكانها تماما:" نحن لم نمر بتجربة برلمانية في تاريخنا الوطني، ولن نمر بها إذا تقوض نظام مايو الحالي" ولمزيد من المعلومات يمكن الرجوع إلى كتاب الأستاذ محمد علي جادين " تقييم تجربة الديمقراطية الثالثة في السودان" .. أما بعد فالنستعد للدخول على عهد الإنقاذ..