إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

التحدي الذي يواجه السودانيين (٦)

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق


التحدي الذي يواجه السودانيين (6)


محمد محمد الأمين عبد الرازق


مؤتمر المائدة المستديرة:


بعد المفاوضات تم التوصل إلى اتفاق يعقد بمقتضاه مؤتمر في جوبا لمناقشة القضية بين الأطراف المختلفة، ولكن ظهر أن عقد المؤتمر بجوبا غير ممكن بسبب هجمات الأنانيا المستمرة رغم مطالبة حزب سانو لهم بوقف القتال، فتأخر المؤتمر عن المواعيد المحددة له.. ولقد انقسم حزب سانو إلى جناحين: جناح متطرف يقف مع انفصال الجنوب ويري أن تكون المفاوضات خارج السودان وكان بقيادة جوزيف أدوهو.. وجناح معتدل يقف مع (الفدريشن) ولا يمانع في أن تتم المفاوضات داخل السودان، وكان بقيادة وليم دينق.. وكان الانقسام في حزب سانو يرجع إلى أسباب سياسية، وقبلية، إلى جانب الصراع حول الزعامة.. وقد ظلت (جبهة الجنوب) موحدة، وقد ساعد وجود وزيرين منها بالحكومة، هما كلمنت امبورو وأزبوني منديري، على تقويتها وتنظيمها.. أما التنظيم الجنوبي الثالث، (حزب وحدة السودان)، الذي يتزعمه سانتينو دينق، وفلمون ماجوك، فقد كان أقل نفوذا من التنظيمين الآخرين.. وبسبب اللقاء في الأهداف تعاون الجناح المتطرف من حزب سانو مع (جبهة الجنوب) وحاولا إبعاد الجناح المعتدل.. وأخيرا تم الاتفاق على أن ينعقد ما سمي بمؤتمر المائدة المستديرة بالخرطوم في مارس 1965م تحت رئاسة النذير دفع الله مدير جامعة الخرطوم آنذاك.. وضم المؤتمر خمسة واربعيم ممثلا للاحزاب الشمالية والجنوبية، حوإلى ثمانية عشر ممثلا للشماليين، وحوإلى سبعة وعشرين ممثلا للجنوبيين.. هذا إلى جانب وجود مراقبين من يوغندا، كينيا، تنزانيا، غانا، نيجيريا، الجزائر، والجمهورية العربية المتحدة.. وقد اتفق ممثلو الأحزاب الشمالية على اقتراح مشروع يحدد العلاقة الدستورية بين الشمال والجنوب.. وقد تضمن مشروع الأحزاب الشمالية بعض المطالب التي كان ينادي بها حزب سانو، ودعاة الحكم الفدرالي في الماضي، وذلك مثل نائب لرئيس الجمهورية جنوبي، وإقامة برلمان محلي، ووزارة إقليمية بالجنوب، وجامعة بالجنوب.. وفي حين أن ممثلي الاحزاب الشمالية استطاعوا أن يكونوا جبهة موحدة، ويتفقوعلىحل سياسي موحد للمشكلة، نجد أن الزعماء الجنوبيين كانوا منقسمين على أنفسهم، وفشلوا في أن يصلوا إلى اتفاق فيما بينهم.. ولما كانت أغلبية ممثلي الاحزاب الجنوبية من المتطرفين، فقد رفضوا حتي مجرد اعتبار الحكم الفدرالي، وكانوا يطالبون بالاستقلال، أو الانفصال للجنوب.. وفي النهاية اتضح أنه لا يمكن التوصل إلى اتفاق في الوقت الحالى، فتم الاتفاق على تكوين لجنة لمواصلة النقاش.. وفي اجتماع مغلق، وافق الجنوبيون على أن تبعد اللجنة أي مشروع يؤدي إلى الانفصال، واشترطوا الا يعلن هذا الاتفاق.. ورغم فشل المؤتمر في التوصل إلى حل، إلا أنه كشف للشماليين عدم ثقة الجنوبيين فيهم، وأعان كلا من الجانبين على تصور الفريق الآخر، والمنطلقات التي ينطلق منها.. وبصورة عامة كان المؤتمر تجربة مفيدة إلى حد ما في اتجاه الحل.. ولكن من الناحية الأخرى، فقد استغل الأنانيا فترة السلام التي أعقبت ثورة اكتوبر لتنظيم أنفسهم ولجمع السلاح، وبدأوا يهاجمون الجيش، ونقاط البوليس، الأمر الذي أدى إلى استمرار الصراع الدموي..
بعد فشل مؤتمر المائدة المستديرة في الوصول إلى حل سياسي، أصبحت الاحزاب الجنوبية مقسمة بين تيارين: تيار يرى وحدة السودان وهو مكون من حزب الوحدة بالاضافة إلى الجناح المعتدل من حزب سانو، والذي يتزعمه وليم دينق.. وتيار آخر يرى الانفصال، ويعمل له، وهو يتكون من زعماء جبهة الجنوب الذين يعيشون خارج السودان، والجناح المتطرف من حزب سانو، إلى جانب الأنانيا.. وقد أصبح دعاة الانفصال من الجنوبيين يرون أن العنف والمقاومة العسكرية هما السبيل الوحيد لتحقيق غرضهم.. وقد اتضح للحكومة أنه لا يمكن الوصول إلى حل سياسي ما لم يتم القضاء على إرهاب الأنانيا، ولذلك صعدت الحكومة العمل العسكري ضد الأنانيا في عام 1965م، واتجهت إلى التعاون مع الجنوبيين الذين يؤمنون بوحدة السودان.. وعملت على إقامة قرى سلام آمنة.. ومما زاد من العنف، أن الأنانيا استطاعوا أن يتحصلوعلىالسلاح من ثوار الكنغو الذين كانوا قد هزموا في تلك الفترة.. ومن العوامل التي أثرت على الأحداث في تلك الفترة تعديل الدستور المؤقت، وطرد النواب الشيوعيين من البرلمان.. فقد اعتبر الجنوبيون هذا الاجراء دليلعلىعدم احترام الأحزاب الكبيرة في الشمال للدستور، مما يوجب عدم الثقة بها، فهي، في أي وقت، يمكن أن تعدل الدستور لتقوم بما تراه في الجنوب، فقد زاد هذا الاجراء في عدم ثقة الجنوبيين في الاحزاب الشمالية.. كما أنه في هذه الفترة ظهرت (جبهة الميثاق الاسلامي) وهي تنظيم أقامه (الاخوان المسلمون)، فدعت إلى ضرورة قيام دستور إسلامي في البلاد، وجارتها الأحزاب الأخرى في ذلك، فاستغل دعاة الانفصال في الجنوب هذا العمل، واتهموا الأحزاب الشمالية بالعمل على فرض الاسلام على الجنوب.. وهكذا تعقدت المشكلة بصورة أكبر على يد الاحزاب التقليدية التي أجهضت ثورة اكتوبر، وزاد من تعقيد المشكلة سوء الأحوال الاقتصادية في البلاد بصورة عامة..
وفي خارج البلاد توحدت جبهة التحرير الأفريقية (A.L.F) مع حزب سانو ليكونا ما سمي (جبهة تحرير أزانيا (Azania Liberation Front).. وكان غرضهم المعلن هو تحقيق الانفصال، والاستقلال لجنوب السودان.. وفي الداخل استمرت جبهة الجنوب كتنظيم معترف به يعمل في الشمال والجنوب ويدعو للانفصال.. وقد استمر الوضع في الجنوب على هذه الحالة من السوء، والتقصير، وقد توسعت أعمال الأنانيا الارهابية، وتفاقم العمل العسكري إلى أن قامت ثورة مايو1969م..

ثورة مايو واتفاقية اديس ابابا:


لقد كانت مشكلة الجنوب، من أكبر الأسباب التي أدت إلى الإطاحة بنظام الحكم القائم يومئذ، وقيام ثورة مايو.. ولذلك اهتمت الثورة بالمشكلة اهتماما كبيرا، وأعطتها الأولوية على القضايا الأخرى.. فلم يكد يمضي اسبوعان على قيام الثورة إلا وقد أعلن الرئيس نميري ما سمي (بإعلان يونيو).. وقد جاء فيه أن حكومته تعترف بالاختلافات القائمة بين الشمال والجنوب، وتؤمن بأن وحدة البلاد لا بد أن تنبني على هذه الحقائق الإيجابية، (فللجنوبيين الحق في تطوير ثقافتهم، وتقاليدهم، في إطار سودان اشتراكي موحد).. واتجهت مايو الي الاعتراف بحق الجنوبيين في إقامة حكم ذاتي، إقليمي، في إطار السودان الموحد.. وأقامت الحكومة وزارة خاصة لشئون الجنوب، على رأسها وزير جنوبي، رصدت لها الحكومة مبلغ ثلاثة ملايين جنيه لإعادة تعمير الجنوب.. وتم تعيين بعض الجنوبيين في المناصب الهامة في الجنوب، خصوصا في البوليس.. وقد أدت بعض الأحداث إلى تأخير تنفيذ الحكم الذاتي للجنوب، منها محاولة الانقلاب الشيوعي في يوليو1971م.. وبعد محاولة الانقلاب الشيوعي الفاشلة، عين أبيل ألير وزيرا لشئون الجنوب.. وقد وضع أبيل مشروع الحكم الذاتي الاقليمي للجنوب، فوافقت عليه الحكومة، وعرض على زعماء الجنوبيين خارج البلاد، وعرض حتي على الأنانيا.. وبذلك انفتح الباب للمفاوضات بين الحكومة والقيادات الجنوبية، وتمت اتصالات بين الزعماء الجنوبيين الذين في داخل البلاد، وأولئك الذين كانوا في الخارج، في العاصمة الاثيوبية أديس ابابا.. وأخيرا تم الاتفاق، بعد مفاوضات سرية بين الحكومة، وحركة تحرير جنوب السودان، على عقد مؤتمر بأديس ابابا، لإيجاد حل سياسي للمشكلة.. وقد أعان مجلس الكنائس العالمي، بعد أن أطمأن لحسن نوايا الحكومة، على انعقاد المؤتمر، كما لعب الأمبراطور هيلاسلاسي، امبراطور الحبشة، دورا هاما كذلك..
معالم اتفاقية الحكم الذاتي:
انعقد مؤتمر أديس ابابا الذي ضم ممثلي حكومة السودان وزعماء حركة تحرير الجنوب.. وبعد التداول، والمناقشات، تم التوصل إلى اتفاقية أديس ابابا.. وقد أعلن في 26 فبراير 1972م أنه تم التوصل إلى اتفاق ينهي الحرب الأهلية، التي استمرت لحوالي سبعة عشر عاما.. وقد جاء في الإعلان أنه تم التوصل بين الطرفين إلى اتفاق، وتم وضع اطار للمسائل السياسية، والقانونية، والادارية، التي يتم من خلالها تحقيق التطلعات الاقليمية للجنوبيين إلى جانب المحافظة على المصلحة القومية، وسيادة الدولة.. وأعلن أن المفاوضات التي تمت بأديس ابابا، للوصول إلى حل سلمي لمشكلة الجنوب، قد تمت بنجاح.. وقد اتسمت المفاوضات، حسب الإعلان، برغبة الطرفين المتفاوضين بالحرص على المحافظة على وحدة البلاد، ومراعاة التطلعات المشروعة للجنوب..
وقد تم التوقيع على الاتفاقية بواسطة الرئيس نميري في 3 مارس 1972م، وذلك بعد أن وضعت في صيغة قانونية سميت (قانون الحكم الذاتي الاقليمي 1972م).. ونحن هنا سنورد بعض المعالم العامة لاتفاقية أديس أبابا في إيجاز:
1) أصبحت المديريات الجنوبية تعرف بالإقليم الجنوبي، وستكون له أجهزته التشريعية والتنفيذية بالصورة التي نص عليها القانون.. وقد اشترط أن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية للسودان، على أن يسمح بأن تكون اللغة الإنجليزية هي اللغة الأساسية في الاقليم الجنوبي.. واستعمال اللغة الرسمية واللغة الأساسية لا يؤثر على استخدام لغة، أو لغات أخرى إذا دعت الضرورة..
2) وضع القانون أسس الصلات بين الحكومة الاقليمية والحكومة المركزية وتقسيم السلطات بينهما.. فالمسائل التي تخرج عن سلطة الحكومة الاقليمية وتتبع للحكومة المركزية هي: الميزانية العامة، والسياسة الخارجية، وطبع وصك العملة، والنقل الجوي والنهري، والمواصلات والجمارك والتجارة الخارجية، والجنسية والجوازات وتخطيط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتخطيط التعليم..
3) أجهزة الحكومة الاقليمية التي نص عليها القانون هي، مجلس الشعب الاقليمي والمجلس التنفيذي العالي.. ولمجلس الشعب الاقليمي، وبأغلبية ثلثيه، حق إيقاف تنفيذ أي تشريع صادر من الحكومة المركزية يعتبره الأعضاء مؤثرا بصورة سلبية على مصالح الاقليم، ولكن رئيس الجمهورية ليس مقيدا بطلب المجلس القومي في هذه الحالة.. ولمجلس الشعب الاقليمي أن يطلب من رئيس الجمهورية، سحب أي مشروع قانون يناقشه مجلس الشعب القومي اذا رأى أن إجازته تترتب عليها آثار سلبية للاقليم..
4) المجلس التنفيذي العالي مسئول عن الحكومة الاقليمية، ولكن يعين رئيسه، رئيس الجمهورية بتوجيه من مجلس الشعب الاقليمي، والذي يمكنه، بأغلبية الثلثين، أن يطلب من رئيس الجمهورية إقالة رئيس المجلس التنفيذي أو أي أعضاء آخرين، وليس من حق رئيس الجمهورية رفض هذا الطلب..
5) نص القانون على أن يكون هنالك جهاز خدمة مدنية بالاقليم الجنوبي، وقبل إنشائه يكون المجلس التنفيذي العالي مسئولا عن إعداد الميزانية، وعن تقدير تكاليف قيام جهاز الخدمة المدنية، وعن الإدارة والتنمية..
6) وقد نص الفصل السادس من القانون، على أن عدد القوات الجنوبية في الجيش القومي، يكون بنسبة عدد السكان في الإقليم، وأن استعمال القوات المسلحة في الاقليم يكون تحت سيطرة رئيس الجمهورية، وبتوصية من المجلس التنفيذي العالي..
7) وقانون الحكم الذاتي الاقليمي، يضمن لكل مواطني الإقليم فرصا متساوية في التعليم والعمل وممارسة المهن المختلفة، وينص على أن حقوق المواطنين لا يمكن أن تضار بسبب الجنس أوالعنصر أوالقبيلة أوالدين أومكان الميلاد.
8) القانون لا يمكن تعديله الا بواسطة 3/4 مجلس الشعب القومي، وموافقة ثلثي مواطني الاقليم في في استفتاء شعبي للاقليم..
هذه بعض المعالم الاساسية لقانون الحكم الذاتي الإقليمي، وقد تم تنفيذ هذا القانون بكفاءة كبيرة.. وقد كان لثقة الجنوبيين في الرئيس نميري دور كبير في تيسير عملية التنفيذ.. وقد كان التنفيذ يتم من خلال أوامر جمهورية يصدرها الرئيس.. وكان أول أمر جمهوري يقضي بوقف إطلاق النار، وقد تم تنفيذه بنجاح تام، كما تم استيعاب قوات الأنانيا في القوات المسلحة.. وبعد وقف إطلاق النار، أوكل للقوات المسلحة بالجنوب المساعدة في التعمير، وفي توطين اللاجئين العائدين للبلاد.. وهكذا أصبح للجيش مهمة سلمية بدل الحرب.. وقد كان التنفيذ بصورة عامة ناجحا تماما، مما أدي إلى القضاء على عدم الاستقرار في الجنوب، والي إنهاء الحرب الأهلية فيه، وإعادة السلام إلى ربوع البلاد..
وهكذا نجحت ثورة مايوفي تقديم الحل السياسي لمشكلة الجنوب، محققة بذلك أكبر إنجازاتها، وهو الإنجاز الذي فشلت جميع الحكومات الوطنية في تحقيقه.. ولكن الحل السياسي لمشكلة الجنوب، ليس هو الحل النهائي.. فالجنوب لا يمكن أن يتأمن إلا إذا جاء الحل الحضاري، الذي يقضي على كل صور التمييز بسبب العقيدة، أوالعنصر، أوالجنس، ويقضي على جميع أسباب الصراع، وذلك بالوعي، وبالتربية، ثم بالقانون، فيحقق السلام داخل النفوس، ويقيم علائق الناس، في البلاد، على المحبة، ويجعل كل فرد بشري فيها من حيث بشريته، غاية في ذاته، فلا يستخدم، لأي سبب من الأسباب، لغيره.. وهذا الحل الحضاري لمشكلة الجنوب، هو الذي تقدمه الفكرة الجمهورية، في تصوره النظري، وتقدم المنهاج العملي الذي يجعل تحقيقه ممكنا..

المشكلة من جديد:


لقد كان الصراع القبلي على السلطة بين الجنوبيين من جهة، وبينهم وبين الشماليين مشتعلا تحت السطح بالرغم من توقف الحرب.. ونتيجة لهيمنة قبيلة الدينكا ذات الكثرة العددية على معظم المرافق، فقد برزت فكرة تطبيق نظام لا مركزي، يقسم الجنوب بموجبه إلى أكثر من إقليم من جانب القبائل الإستوائية، وبزعامة السيد جوزيف لاقو.. وفي المقابل كون دعاة المحافظة على الإقليم الواحد تنظيما أسموه "مجلس وحدة جنوب السودان" بزعامة السيد كلمنتبورو.. وأخرج كل فريق كتيب يشرح فيه رؤيته، لكن من الواضح أن المصدر الأساسي لهذه الأفكار هو التنافس القبلي علاوة على انعدام الثقة بين جميع الأطراف المتصارعة.. واعتبر دعاة الوحدة أن تنظيمهم، هو المسئول عن ملء الفراغ الذي حدث عندما حل نميري المجلسين في الإقليم في اكتوبر 1981م تمهيدا لإجراء انتخابات جديدة خلال ستين يوما، بالرغم من أن نميري قد كون لجنة عسكرية لنفس الغرض!! وكذلك اعتبروا قرار نميري تحويل مصفاة البترول من بانتيو إلى كوستي ضد الجنوب، ثم أعلنوا أن التقسيم أساسا هو رغبة الشماليين والغرض منه إضعاف الجنوب، فأصدر الرئيس نميري قرارا فرديا بتقسيم الجنوب إلى ثلاث أقاليم مرجحا كفة دعاة التفسيم، بالرغم من أنه لا يملك هذا الحق حسب نصوص الاتفاقية إلا بإجراء استفتاء شعبي.. وبذلك القرار خرق نميري الاتفاقية، فبدأت أعمال العنف تظهر، ثم اتسعت في بداية عام 1983م، من جانب فرقة الأنانيا الثانية، التي تكونت من الجنود المسلحين الذين دخلوا الغابة.. ثم تمردت الفرقة العسكرية 105 في بور، في فبرائر من نفس العام وكان معظمها من ضباط وجنود الأنانيا السابقين، ورفضت تنفيذ أوامر نقلها إلى الشمال، فردت عليها القيادة الجنوبية بعنف لإجبارها على تنفيذ الأوامر.. ونتيجة للقتال المرير، هرب عدد كبير من ضباط وجنود الفرقة إلى الغابة ومعهم أسلحتهم، وانضموا في البداية إلى حركة الأنانيا الثانية، وفي أغسطس عام 1983م ، تبعها العقيد جون قرنق، وتمكن من توحيد جماعات مسلحة عديدة، معلنا ميلاد الحركة الشعبية لتحرير السودان.. وتعقدت الأمور مع تصعيد القتال، وزادت تعقيدا عندما أصدر نميري قوانين سبتمبر 1983م، وهكذا عادت المشكلة من جديد وانهارت تماما اتفاقية 1972م، أكبر إنجازات مايو بتجدد الحرب الأهلية في الجنوب.. وهناك عوامل خارجية ساعدت على إبراز وتصعيد المشكلة أهمها دعم النظام الأثيوبي للحركة الشعبية لعدائه مع مايو..
في الحلقة القادمة، تفصيل لما حدث خلال فترة الديمقراطية الثالثة بين الحكومة والحركة الشعبية، إلى أن قامت الإنقاذ عام 1989م..