إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

التحدي الذي يواجه السودانيين (٥)

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق


التحدي الذي يواجه السودانيين (5)


محمد محمد الأمين عبد الرازق


لقد ذكرنا في الحلقة السابقة، أن الإنجليز، في إطار خطتهم لفصل الجنوب طردوا الجيش المصري والجنود السودانيين، وكونوا قوات فرق الاستوائية لتحل محلهم، وكان ذلك في عام 1911م.. وقد شكلت هذه القوات، البذرة التي تفرع منها العمل المسلح بعد خروج الإنجليز، وفي جميع مراحل الحكم الوطني.. وقبل أن ندخل إلى مرحلة الحكم الوطني، لا بد أن نسلط بعض الضوء على الدور الذي قام به الحزب الجمهوري في مناهضة خطة الإستعمار لفصل الجنوب..
لقد نشأ الحزب الجمهوري في اكتوبر 1945م برئاسة الاستاذ محمود محمد طه.. وهو أول حزب سوداني ينشأ خارج المؤسسة الطائفية، وهوالحزب الوحيد الذي كان يدعو إلى قيام حكومة جمهورية في السودان في ذلك الوقت، اذ أن بقية الأحزاب كانت ترى أن يكون نظام الحكم في السودان نظاما ملكيا.. وقد جاء في دستور الحزب الجمهوري عند نشأته، أن غرضه هو (قيام حكومة سودانية جمهورية ديمقراطية حرة مع المحافظة على السودان بكامل حدوده الجغرافية القائمة الآن).. وفي الوقت الذي اتجهت فيه الأحزاب الأخرى في تعاملها مع الاستعمار الانجليزي إلى أسلوب المذكرات والمفاوضات، اتجه الحزب الجمهوري إلى توعية الشعب وإثارة حماسه ضد الانجليز، فاتجه الجمهوريون إلى أسلوب المناجزة المباشرة للانجليز عن طريق الخطابة، وكتابة المنشورات، التي تخاطب الشعب.. وقد نعي الجمهوريون علي الأحزاب الأخرى أسلوبها في التعامل مع الاستعمار.. فقد جاء في كتاب (السفر الأول) الذي أخرجه الجمهوريون في 26 أكتوبر 1945م ما نصه: (لماذا، عندما ولدت الحركة السياسية في المؤتمر، اتجهت إلى الحكومة تقدم لها المذكرات ولم تتجه إلى الشعب، تجمعه، وتثيره لقضيته ؟؟ ولماذا قامت عندنا الأحزاب أولاً، ثم جاءت مبادؤها أخيراً ؟؟) (والجواب قريب: هو إنعدام الذهن الحر، المفكر، تفكيراً دقيقا)..
وهكذا اتجه الجمهوريون في البداية إلى ملء فراغ الحماس الوطني، وكانت سياسة الاستعمار الانجليزي تجاه الجنوب من أكبر ما استغله الجمهوريون في خطبهم وكتاباتهم ضد الاستعمار ولإثارة حماس المواطنين.. وكان مما جاء عن مشكلة الجنوب في منشورات الجمهوريين آنذاك، قولهم: (ما سكوتكم عن الجنوب أيها السودانيون!؟ ما سكوتكم!؟ تعالوا فاتركوا هذا العبث السخيف، هذه المذكرات والوثائق، هذا التحالف والاتحاد، وواجهوا الحقائق المرة، فالجنوب هو مشكلتنا الأولي، والسكوت عنه مزر بكرامة السودانيين أبلغ الزراية..) (إن سكوتكم عن الجنوب أيها السودانيون، لييئس منكم الولي، ويطمع فيكم العدو.. الجنوب أرضكم.. الجنوبيون أهلكم.. فإن كنتم عن أرضكم، وأهلكم لا تدافعون، فعمّن تدافعون؟؟).. وفي منشور آخر للجمهوريين صدر في 11/2/1946م، كشفوا أبعاد المخطط الانجليزي في الجنوب، ووضحوا أهداف هذا المخطط، وما يمكن أن بؤدي إليه، اذا تم السكوت عليه.. ونحن هنا سنورد بعض المقتطفات من هذا المنشور فقد جاء فيه: (هذا بيان الحزب الجمهوري للناس، وهونذير من النذر الأولي، وستليه أخر، ترمي بالشرر وتضطرم بالنار وتتنزي بالدم.. فإن مسألة الجنوب لا يمكن الصبر عليها أوالصبر عنها، وإن الانجليز ليبيتون له أمرا، ولئن لم نحتفظ نحن اليوم بالجنوب احتفاظ الرجال، لنبكينّه غدا بكاء النساء..
أيها السودانيون: لماذا يقفل الجنوب في وجه الشمال وتفتح أبوابه لكل دخيل جشع ونازح أفاق؟! أهي الشفقة بأهل الشمال أم الرأفة بأهل الجنوب؟! وما سكوتكم على مسألة الجنوب على هذا النحو المزري؟؟ ولماذا هذه المرونة التي لا تتفق وكرامة الرجال؟؟).. (أيها السودانيون: إن حكومة السودان ظلت تضرب على السياسة الانجليزية العتيقة، وتردد نغمتها البالية، نغمة " فرق تسد "، وإن وراء قفل الجنوب واتجاهه التعليمي وسياسة التبشير هناك، لخطة تبيت لفصل الجنوب عن الشمال، وليس يوم الفصل ببعيد.. وسوف تعضون آنذاك بنان الندم عندما يطالب الجنوبيون بالانفصال مدفوعين بقوة إيحاء السياسة الانجليزية).. وقد رأينا كيف أن الجنوبيين فيما بعد قد طالبوا بالانفصال!! ويواصل المنشور فيقول: (أيها السودانيون: إن التبشير قد أفسد عليكم الجنوب فأوغر منه الصدور، وأثار الحفيظة، وأذكي نار الشر والتفرقة والقطيعة.. وإن قفل الجنوب قد مكن لتلك الحيات الرقطاء المتدثرة بثياب الأكليريوس من نفث سمومها والتشفي من دينكم وكتابكم ونبيكم..)..(أيها السودانيون: هل تعلمون أن تلك الحيات الرقطاء تعان بستة عشر ألفا من الجنيهات سنويا من المال المتحصل عليه من الشمال!! وهل تعلمون أننا نعين تلك الحيات الرقطاء على تحقير ديننا وكتابنا بستة عشر ألفا من الجنيهات!؟
أيها السودانيون: إن الجنوب لم يقفل في وجه الشمال الا تمكينا لسياسة فرق تسد، وإن الانجليز ليضربون تلك السدود في وجه الشماليين لئلا يمكنوهم من دحض مفتريات القسس والساسة الانجليز، فلا تغرنكم اذن كلمات الساسة الرسميين عن حسن نيتهم تجاه الجنوب، ولتخسأ تلك السياسة التي تركت إخواننا الجنوبيين يعيشون في القرن العشرين حفاة عراة مراضا جياعا بمعزل عنا..
أيها السودانيون: إن الانجليز ليرمون إلى جعل الجنوب مهجرا بريطانيا ومزارع بريطانية على غرار كينيا ويوغندا، ولكن الحزب الجمهوري الذي يسعي إلى تحقيق وحدة السودان، أولا وقبل كل شيء، يقف اليوم أمام صخرة الجنوب وقد عقد النية على ازالتها عن طريق الوحدة، بالغة ما بلغ أمرها.. ونحن اذ ننوء بأعباء هذا الطريق الوعر، ليس لنا من عتاد غير الشعب السوداني اليه نتجه وبه نهيب وله ندعو بالهداية إلى صوت الحق من بين هذا النقيق الذي يزحم الأفق..)..
هذا نموذج للمنشورات التي كان يصدرها الحزب الجمهوري عن السياسة الانجليزية نحوالجنوب، بغرض كشف هذه السياسة، وإثارة، وتوعية، المواطنين ضد الاستعمار الانجليزي.. وقد كانت رؤية الجمهوريين واضحة، فهم لم يغب عنهم الغرض الحقيقي لسياسة الانجليز تجاه الجنوب.. هذا مع إن أغراض تلك السياسة في ذلك التاريخ قد كانت سرية، ولم يكشف عنها الا بعد خروج الانجليز من السودان، وبعد السماح للمؤرخين باستخدام الوثائق الرسمية للحكم الثنائي في السودان..

الحكم الوطني ومشكلة الجنوب:


لقد رأينا كيف عمقت سياسة الاستعمار الانجليزي أسباب الاختلاف والصراع بين الشمال والجنوب، وكيف بذرت تلك السياسة بذور عدم الثقة، والعداوة، في نفوس الجنوبيين تجاه الشماليين، مما أدى إلى خلق مشكلة الجنوب، كأكبر وأخطر مشكلة يواجهها السودان بعد استقلاله، وأثناء مراحل الحكم الوطني المختلفة.. فقد ظلت مشكلة الجنوب طوال عهود الحكم الوطني تشكل أكبر عوامل عدم الاستقرار في البلاد، حتي وجدت الحل السياسي على عهد مايو في مارس 1972م، الذي به انتهت الحرب الاهلية، وهي لا تزال تتطلب الحل الحضاري الجذري الذي بدونه لا يتم التأمين النهائي لهذه المشكلة ضد أي نكسة.. ولقد وعدت الاحزاب الشمالية الجنوبيين بأن تضع في اعتبارها الحكم الفدرالي للجنوب، وعلى ضوء هذا الوعد انضم النواب الجنوبيون في البرلمان للشماليين ليتم اجماع على الاستقلال الذي أعلن في أول يناير 1956م.. ولقد تمت بعض الأعمال في الجنوب بالنسبة للجنوبيين لكسب ثقتهم.. وفي عام 1957م قامت الحكومة بضم المدارس التبشيرية في الجنوب إليها، وقد أدى هذا الاجراء إلى عداوة الكنيسة الكاثوليكية للحكومة السودانية.. وعندما نشأ الحزب الفدرالي الجنوبي في عام 1958م (Southern Fedral Party) كان من ضمن أهدافه جعل المسيحية الدين الرسمي في الجنوب، واللغة الانجليزية اللغة الرسمية، إلى جانب اقامة نظام فدرالي يكون فيه للجنوب جيش خاص، ونظام تعليم وادارة خاصين، إلى جانب برنامج خاص لتطوير الجنوب. ولقد ضم الحزب الفدرالي أولئك المثقفين من الجنوبيين الذين يعارضون حزب الأحرار الجنوبي، والذين هم في الحقيقة يسعون إلى الانفصال.. وعندما كونت لجنة الدستور كان الجنوبيون غير راضين عن تمثيلهم فيها إذ أنهم أعطوا ثلاثة مقاعد فقط من 43 مقعدا.. وقد طلب الجنوبيون من اللجنة أن توصي (بالفدريشن)، إلا أن اللجنة رفضت ذلك، وفي ديسمبر 1957م رفضت أغلبية لجنة الدستور (الفدريشن).. ولقد استغل الحزب الفدرالي الجنوبي هذه الظروف واستطاع أن يكسب 40 مقعدا من المقاعد الستة واربعين المخصصة للجنوب، ولقد انسحب أعضاؤه من لجنة الدستور في يونيو1958م.. ولقد كانت الاحزاب الشمالية مهتمة بكراسي الحكم، ولم تهتم بمشاكل البلاد في الشمال اوالجنوب، وكان لذلك أثره السيء على الأوضاع في الجنوب، فقد استغل هذه الظروف، المبشرون ودعاة الانفصال من الجنوبيين، وبدأوا يكثفون دعايتهم في الجنوب ضد الشمال.. وقد كان انتصار الحزب الفدرالي في الانتخابات البرلمانية في عام 1958م، دليلا واضحا على سيادة الاتجاه المتطرف بين الجنوبيين، وقد استغل المتمردون الذين لجأوا إلى الغابة بعد أحداث عام 1955م، هذه الظروف، وبدأوا ينشطون في ممارسة أعمال العنف.. وفي هذه الظروف التي شهدت فشل التجربة الديمقراطية في الحكم بسبب فساد الاحزاب، تم انقلاب عبود العسكري في 17 نوفمبر 1958م، في محاولة لإنقاذ البلاد من الوضع السياسي والاقتصادي المتردي الذي وصلت إليه.. وبقيام الحكم العسكري دخلت مشكلة الجنوب مرحلة جديدة..

الحكم العسكري (1958 -1964م):


لقد فسر الجنوبيون تسليم السلطة للعسكريين بأنه عمل قصد به إبعادهم هم عن الحكم، حتى ينفرد الشماليون بتقرير مصير الجنوب، وهو أمر لم يكن صحيحا.. ولم يكن للحكم العسكري رأي محدد في حل مشكلة الجنوب، وقد حاول ان يعمل على نشر الاسلام واللغة العربية في الجنوب.. وقد وجد الحكم العسكري رجال التبشير في الجنوب يقومون بأعمال تهدد وحدة البلاد، الأمر الذي دفعه إلى إصدار قرار بإيقاف الجمعيات التبشيرية وطرد المبشرين خارج البلاد وكان ذلك في فبراير 1962م، وقد كان لهذه الاجراءآت أثرها السيء على مشكلة الجنوب.. وقد تناولت صحافة الغرب طرد المبشرين بالنقد، كما أدان الفاتيكان هذا الإجراء، وهكذا بدأت مشكلة الجنوب تخرج من حدود السودان، وتستحوذ على اهتمام دول، وعناصر خارجية، وخصوصا أن عددا من الجنوبيين تركوا البلاد ولجأوا إلى الدول المجاورة التي أخذوا يمارسون نشاطهم السياسي فيها.. وقد وصل الأمر إلى حد أن الجنوبيين عرضوا قضيتهم على هيئة الأمم المتحدة في عام 1963م وطالبوا بالاستقلال لجنوب السودان بحجة أنهم فشلوا في الوصول إلى حكم فدرالي.. كما طلب حزب سانو الذي تكون في 1963م من منظمة الوحدة الأفريقية التدخل لأيجاد حل لمشكلة الجنوب..
وفي داخل البلاد أعقب طرد المبشرين اضطرابات طلابية في الجنوب، كما ظهر في عام 1963م تنظيم الأنانيا في الجنوب والذي لجأ إلى العمل العسكري في شكل حرب عصابات.. وقد أدت أعمال الأنانيا، ومحاولات النظام لقمعهم عسكريا، إلى قتل الكثيرين، والى فرار الكثيرين أيضا، ولجوئهم إلى يوغندا.. وقد قدر عدد اللاجئين السودانيين في يوغندا عام 1964م بأكثر من 12 ألف لاجيء.. ولما كانت الأعمال العسكرية في الجنوب مكلفة، فقد فاقم ذلك من الأزمة الاقتصادية في جميع البلاد، وزاد من عداوة المواطنين في الشمال والجنوب للنظام العسكري الذي استعلن فساده، وفشله، بصورة كبيرة.. وقد كان المواطنون والأحزاب في الشمال مشغولين بالعمل على القضاء على النظام العسكري أكثر من انشغالهم بمشكلة الجنوب.. وقد استغلت مشكلة الجنوب، واتجاه النظام لحلها عسكريا، من المعارضة في الشمال ضد النظام، حتي إنه لما قامت ثورة اكتوبر 1964م، والتي أطاحت بالنظام العسكري، كانت مشكلة الجنوب من الأسباب المباشرة لقيام هذه الثورة..

ما بعد ثورة أكتوبر:


لقد ضمت حكومة اكتوبر الانتقالية، اثنين من الوزراء الجنوبيين من بينهم وزير الداخلية.. وقد رحب حزب سانو الجنوبي بالنظام الجديد وأرسل مذكرة إلى رئيس الوزراء الجديد السيد سرالختم الخليفة، يعبر فيها عن رغبة الجنوبيين خارج البلاد في العودة إلى البلاد وفق بعض الشروط التي حددتها المذكرة.. وقد أشارت مذكرة سانو إلى أن (الفدريشن) هو الحل الوحيد الممكن للمشكلة.. وفي هذه الفترة ظهر تنظيم يضم المثقفين الجنوبيين بالخرطوم تحت أسم (جبهة الجنوب)، وقد اعتبرت الجبهة الممثل لوجهة نظر الجنوبيين ودعيت للاشتراك في الحكومة القومية، وقد كانت جبهة الجنوب منذ تكوينها تعمل في تعاون تام مع حزب سانو الذي كان مركزه بكمبالا في يوغندا.. وفي نوفمبر 1964م أعلن رئيس الوزراء أن مشكلة الجنوب تجد الاهتمام الكبير من حكومته، وأن المشكلة لا يمكن أن تحل بالطرق العسكرية، ودعا إلى السلام والحل عن طريق المفاوضات.. وفي ديسمبر من نفس العام أعلن رئيس الوزراء العفو العام عن كل الذين فروا خارج البلاد، منذ أحداث عام 1955م، وعن كل المطلوبين للمحاكمة في قضايا سياسية.. وطلب من الجنوبيين اللاجئين في الدول المجاورة، ولزعماء السياسيين العودة إلى البلاد.. ثم أرسل اثنين من الوزراء إلى يوغندا لتوقيع اتفاقية مع حكومتها بخصوص اللاجئين السودانيين، وإجراء مفاوضات مع زعماء حزب سانو لإقناعهم بالعودة إلى السودان..
لماذا فشل مؤتمر المائدة المستديرة ؟؟ وكيف كانت تفاصيل اتفاقية أديس أبابا التي أوقفت نزيف الدم لمدة عشر سنوات في الجنوب ؟؟ نلتقي للإجابة في الحلقة القادمة إن شاء الله..