إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

التحدي الذي يواجه السودانيين (٢)

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق


التحدي الذي يواجه السودانيين (2)


محمد محمد الأمين عبد الرازق


نواصل ما جاء في كتاب الأخوان الجمهوريين، (جنوب السودان.. المشكلة والحل) حول الجذور التاريخية لمشكلة الجنوب، في فترة ما قبل الحكم الثنائي:

أفريقيا والسودان:


إن أفريقيا هي القارة البكر، التي لم تتفجر طاقاتها البشرية والطبيعية بعد.. فهي أقل القارات تحضراً، وقد كانت تسمى القارة المظلمة.. وقد بدأت أفريقيا الآن تتحرك حركة نشطة، في اتجاه التقدم، والتحرر.. وقد جاء تحرر أفريقيا هذا في وقت يمر فيه العالم أجمع بمنعطف حضاري كبير، فقد فشلت الحضارة الغربية المادية القائمة الآن، في استيعاب وتوجيه طاقات الحياة المعاصرة، وتتويج تطور الحضارة البشرية بإقامة مجتمع السلام والرخاء، الأمر الذي يؤذن بميلاد مدنية جديدة، تقوم بتحقيق ما فشلت الحضارة الغربية في القيام به.. ونحن نعتقد أن أفريقيا ستكون هي صاحبة هذا الدور، في إعطاء العالم هذه المدنية الجديدة التي تتطلع إليها.. فلقد كانت أفريقيا هي الموطن الأول للإنسان، فيها ظهرت حياته في البدء، في مرحلته البشرية.. وستكون أفريقيا هي الموطن الأول أيضاً للإنسان، في مرحلته الثانية، مرحلة (الإنسانية)، التي يرتفع بها عن مرتبة البشرية الحاضرة، فيقيم مدنية السلام والرخاء والمحبة التي تسود جميع بقاع الأرض..
والسودان يقع من أفريقيا موقع القلب، وذلك من حيث الشكل، ومن حيث المعنى.. وفي السودان تلتقي الطاقات، والخصائص البشرية، والطبيعية، البكر والتي بتفجيرها، يتم افتتاح عهد المدنية الجديدة، مدنية السلام، وسيادة القيم الإنسانية الرفيعة، تلك المدنية التي قلنا إن أفريقيا هي موطنها.. والسودان يمثل أفريقيا بصورة كبيرة فهو، في شماله، وفي جنوبه، تكاد تجتمع فيه جميع الخصائص السلالية والطبيعية، لشمال القارة الأفريقية وجنوبها.. والمشاكل التي ظلت تواجه السودان، وعلي رأسها مشكلة الجنوب، إنما هي المحك، والتحدي، الذي يمخّض الخصائص الأصيلة، ويفجر الطاقات الكامنة.. ولذلك فإن التأخر في الأخذ بأسباب الحضارة الغربية، وهذه المشاكل التي تحتوش البلاد، إنما هي في الحقيقة نعمة، وهي لخير أريد بهذه البلاد، فهي قد حفظت لتقوم بالدور التاريخي المنتظر لها القيام به في بناء الحضارة الإنسانية الجديدة.. وفي عبارات للأستاذ محمود محمد طه، كتبت في يناير 1951م، في التبشير بالدور العظيم الذي ينتظر للسودان أن يقوم به، جاء قوله: (أنا زعيم بأن الإسلام هو قبلة العالم منذ اليوم.. وأن القرآن هو قانونه.. وأن السودان، إذ يقدم ذلك القانون في صورته العملية، المحققة للتوفيق بين حاجة الجماعة إلى الأمن، وحاجة الفرد إلى الحرية المطلقة، هو مركز دائرة الوجود على هذا الكوكب.. ولا يهولن أحدا هذا القول، لكون السودان جاهلا، خاملا، صغيرا، فإن عناية الله قد حفظت على أهله من أصايل الطبائع ما سيجعلهم نقطة التقاء أسباب الأرض، بأسباب السماء..).. وهذه البشارة قد جاءت في نفس المعني الذي جاءت فيه بشارة النبي الكريم حيث قال في تفسير الآية: (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين): (يا عمر تعال فاسمع ما قد أنزل الله، ثلة من الأولين وثلة من الآخرين، ألا وإن من آدم اليّ ثلة وأمتي ثلة، ولن نستكمل ثلتنا حتى نستعين بالسودان من رعاة الإبل ممن شهد ألا اله إلا الله وحده لا شريك له) – راجع تفسير ابن كثير، سورة الواقعة.. فالمدنية الجديدة التي يقدمها السودان للإنسانية هي مدنية السلام، مدنية الإسلام، في مستوى أصوله، مستوى السنة، والتي بها يرجع الناس، كل الناس، إلى أصل الفطرة السليمة.. فالإسلام في هذا المستوى هو دين الفطرة.. وهذا الدور الحضاري المنتظر للسودان هو وثيق الصلة بمشكلة الجنوب، التي نحن بصددها، إذ أنها التحدي العملي، الأساسي، الذي يؤدي إلى إبراز هذا الدور.. ولذلك فإن هذه المشكلة هي في حقيقتها ليست مجرد مشكلة سياسية، وإنما هي مشكلة حضارية تتداخل فيها النواحي السياسية، والاقتصادية، مع النواحي الدينية، والعرقية، والثقافية..

شمال السودان وجنوبه:


السودان قطر شاسع، يمتد شمالاً وجنوباً على طور 1250 ميل، ويمتد شرقاً، وغرباً 1000 ميل، وطول حدوده 4500 ميل، وهو يحادد تسع دول، ومساحته مليون ميل مربع، أي حوالي 616 مليون فدان، وهي رقعة ذات خصائص طبيعية ومناخية متباينة.. وحوالي 450 ميلاً من حدود السودان تقع على ساحل البحر الأحمر من جهة الشرق.. ونهر النيل بفروعه المختلفة هو الشريان الذي يربط بين شمال السودان وجنوبه.. وتعداد السودان اليوم ربما يزيد على السبعة عشر مليون، موزعين على هذه الرقعة الشاسعة من الأرض، وقد كان التعداد عند الاستقلال أكثر من عشرة مليون ومائتي ألف.. ولعدة اعتبارات موضوعية أصبح ينظر إلي السودان على أساس أنه مكون من جزأين، هما شمال السودان وجنوبه.. وهذه الاعتبارات هي اعتبارات طبيعية جغرافية، متعلقة بطبيعة الأرض والمناخ.. فشمال السودان بصورة عامة هو منطقة سافنا ومنطقة صحراوية، في حين أن الجنوب، بصورة عامة، هو منطقة استوائية.. وطبيعي أن ينعكس هذا الاختلاف في البيئة على حياة المواطنين في الإقليمين.. كما أن هناك اختلافا بين الشمال والجنوب في طبيعة السكان والنواحي السلالية، وفي النواحي الدينية والثقافية إلى جانب بعض الاختلافات الإدارية والسياسية التي تمت في بعض مراحل التاريخ.. وهذه الاختلافات، التي عمل الاستعمار الإنجليزي على تعميقها، حتى تصبح سبباً للصراع والعداوة بين أبناء البلد الواحد، هذه الخلافات هي التي تشكل الجذور الأساسية لمشلكة الجنوب.. والمجتمع السوداني في الشمال وفي الجنوب هو مجتمع قبلي زراعي رعوي، كان ولا يزال كذلك..

أصايل الطبائع:


إن المجتمع القبلي في شمال السودان وجنوبه، مجتمع تقوم حياة المواطنين فيه على قيم الفروسية، من شجاعة، ومروءة، وصبر، وكرم، وعفة، إلى آخر هذه الفضائل السلوكية التي توجه حياة المواطنين في السودان، وهي فضائل وثيقة الصلة بالمجتمعات القبلية.. وهذه الفضائل منتشرة في الشمال، وفي الجنوب، على تفاوت بينهما في ذلك.. وحياة المواطنين في كلا الإقليمين حياة بسيطة، ومتقشفة، وقليلة المطالب المادية.. ولقد لعب التصوف الإسلامي، في شمال السودان، دوراً كبيراً في تعميق، وتأصيل، وتنمية، وتهذيب، قيم الفروسية هذه، إذ أعطاها محتوى دينياً ربطها بالغيب، وجعل لها منهاجاً عملياً يعين على تنميتها وصقلها، لتصبح في اتجاه خلاصة القيم الإنسانية الرفيعة التي جاءت أديان السماء لتحقيقها.. وهكذا فإن التصوف وقيم الفروسية الموروثة من المجتمعات القبلية هما اللذان حفظا على المجتمع السوداني أصايل الطبائع، وهي طبائع لم تتأثر كثيراً بتيارات خارجية، ولذلك هي لا تزال في جوهرها باقية.. وقد انتشر التصوف في السودان على عهد الفونج انتشارا كبيراً حتى أصبح هو الطابع العام للتدين في جميع أنحاء البلاد.. وقد أثرى الواقع الإفريقي في السودان، التصوف الإسلامي، فجعل له نكهة خاصة، فهو قد أمده ببعض القيم الأصيلة، مثل العاطفة القوية المتأججة، والحس الفني، الذي جعل المواطنين كلفين بالموسيقى والرقص، حتى إنهم أدخلوهما في العمل الديني، في شكل الأذكار الصوفية ذوالطبول، والنوبات، والآلات الأخرى، التي تصحب هذه الأذكار.. وقد جذب ذلك المواطنين للدين، وساعد على انتشاره، وساعد على تعميق، وتأصيل، القيم الدينية، والحس الديني.. والمواطنون في جنوب السودان، إلي جانب قوة العاطفة، والكلف بالفن، وهي خصائص أفريقية أصيلة، هم يمتازون بتعلق شديد بالدين، والنواحي الروحية.. فهم، كما هو الشأن عند الإنسان البدائي بصورة عامة، يعتبرون لكل شئ روحاً، وينطلقون، وفي معظم تصرفات سلوكهم اليومي، من اعتبارات روحية ودينية، وهم كوثنيين أساساً، يقيمون الشعائر الدينية لمختلف المظاهر الطبيعية، ولهم اهتمامات كبيرة بأرواح الآباء.. وهم يؤمنون بإله واحد، يسمونه بأسماء تختلف من قبيلة لأخرى، وبعض الجنوبيين يعتقدون أن أرواح السلف تحل في زعمائهم الدينيين (الكجور).. والكجور يلعب دوراً هاماً في حياة المواطنين.. خلاصة الأمر أن للجنوبيين استعدادا طبيعياً للتدين، وتعلقاً كبيراً بالقيم الروحية..
وقيم الفروسية هذه التي أشرنا إليها، والقيم الدينية والروحية السائدة في شمال السودان وجنوبه، إلى جانب الحياة البسيطة، القريبة للطبيعة والفطرة، كل هذه الخصائص، هي العناصر الإيجابية التي بتهذيبها وتنميتها يتم تجاوز الخلافات، ويتم الانصهار في بوتقة واحدة هي القومية السودانية، وبذلك يتم الحل الحضاري الجذري لمشكلة الجنوب، بل إن هذه الخصائص الأصيلة هي التي ترشح السودان ليلعب الدور الطليعي في مستقبل الحضارة الإنسانية، بالصورة التي أشرنا إليها في البشارة التي أوردناها .

الأصول العرقية والدين:


إن مساحة شمال السودان حوالي 750 الف ميل مربع، أما مساحة الجنوب فهي حوالي 250 الف ميل مربع، أي حوالي ربع المساحة الكلية للسودان.. والجنوب يمتد من خط عرض 10 درجة وحتى خط 3,5 درجة شمال خط الإستواء.. وهو بصورة عامة منطقة استوائية ذات أمطار غزيرة، وغابات كثيفة.. والقبائل في جنوب السودان، قبائل متداخلة بين السودان والدول المجاورة له، وهذه القبائل تعتبر بصورة عامة، ذات أصول زنجية.. وقد كان الزنوج في الماضي أكثر انتشاراً مما هم عليه الآن.. فهم قد كانوا يسكنون أفريقيا الاستوائية، وجنوب الجزيرة العربية، والهند، وأستراليا.. ويرى بعض علماء الأنثروبولوجي أن القبائل الجنوبية يوجد في تركيبها ملامح عناصر غير زنجية، بل إن إيفانس برتشارد أحد مشاهير هؤلاء العلماء، يرى أنه من المشكوك في إمكانية اعتبار أي أناس في السودان زنوج حقيقيين، سواء أكان ذلك من حيث اللغة أوالتركيب الجسماني.. وعلماء الأنثروبولوجي هؤلاء لا يميلون إلى تسمية سكان شمال السودان بالعرب، ويفضلون إستخدام عبارة (العنصر الأسمرBrown Race ) مقابل العنصر(العنصر الأسود Black Race ) للجنوبيين، وسكان أفريقا الإستوائية.. ويرون أن العنصر الأسمر هو نتاج لتزواج العرب من البجا، والنوبة، والزنوج.. وحسب إحصاء عام 1956 م فإن تعداد السودان كان 10263000 منهم 27930000 بالجنوب.. وبالسودان أكثر من 500 قبيلة مختلفة الحجم، وحسب تعداد عام 1956 م فإن 39% من السكان ينسبون أنفسهم للعرب، في حين أن الذين يتحدثون اللغة العربية يشكلون 50% ..
والقبائل الجنوبية تنقسم، من حيث اللغة، والتركيب الجسماني، والخلفيات الثقافية، إلى ثلاث مجموعات:
1- القبائل النيلية وهي مثل الدينكا، والنوير، والشلك، والأنواك..
2- القبائل الحامية النيلية (Nilo –Hamitics ) وهي مثل الديدنقا، واللاّتوكا، والمورلي..
3- القبائل السودانية ( Sudanic Tribes ) وهي قبائل عديدة، وقليلة التعداد أهمها الزاندي..
وهناك قبائل هي عبارة عن خليط من هذه الفئات.. وكثير من هذه القبائل وفد إلى السودان في وقت متأخر، فمثلاً هناك رواية عن الشلك تقول إنهم أتوا من شرق بحيرة فكتوريا في حوالي نهاية القرن الخامس عشر الميلادي.. والقبائل (السودانية) أتت من قرب بحيرة تشاد في القرن السابع عشر.. أما الزاندي فقد أتوا من أفريقيا الوسطى في القرن التاسع عشر.. وقد أتى الدينكا من منطقة البحيرات بشرق أفريقيا (راجع كتاب ـ جنوب السودان: خلفية النزاع ـ لمحمد عمر بشير، صفحة 6 ـ مرجع إنجليزي).. أما بالنسبة للقبائل العربية التي هاجرت إلى السودان واختلطت بسكان المنطقة، فهي قد أتت في موجات من المهاجرين، أهمها تلك التي تمت في القرن السابع الميلادي، وهو تاريخ يعتبر أيضاً حديثاً نسبياً.. وحسب إحصاء 1956م هناك حوال إثني عشر لغة محلية أساسية بالجنوب، وتعتبر اللهجة المحلية العربية هي الأكثر انتشاراً في المدن بصورة خاصة..
وفي الناحية الدينية، فإنه حسب تقدير 1955م، يشكل الوثنيون، الأغلبية الساحقة في الجنوب، إذ يشكلون حوالي 90% من تعداد السكان، وفي حين يشكل المسلمون والمسيحيون 10% فقط.. فقد كان المسلمون في ذلك التاريخ يقدرون بحوالي 23 ألف.. والمسيحيون البروتستانت حوالي 30 الف والكاثوليك حوالي 253 ألف ـ راجع محمد عمر بشير المصدر السابق، صفحة 6 ..

الجنوب قبل الفتح الإنجليزي المصري:


هنالك القليل الذي يعرف عن جنوب السودان قبل الفتح التركي المصري في 1820م.. ويعتقد أن حضارة (كوش) التي كانت في الشمال (750 – 300 ق. م. ) كان لها بعض الأثر على الجنوب، وكذلك الحضارة المصرية القديمة.. وعندما انتشرت المسيحية والإسلام في شمال السودان كان لهما أثر ضعيف على الجنوب بسبب وعورة المنطقة، وصعوبة المواصلات.. وعندما قامت مملكة الفونج في سنار في أوائل القرن السادس عشر الميلادي بدأت بعض المعلومات تصل إلى الخارج عن الجنوب.. وقد كان الجنوب في تلك الفترة التي سبقت الفتح التركي المصري يعيش في حالة حروب، وصراعات قبلية، فالقبائل الكبيرة، مثل الدينكا، والزاندي، كانت تتوسع على حساب القبائل الصغيرة، ولم يتم الحد من هذه الصراعات القبلية إلا بعد الفتح التركي المصري..
وبالفتح التركي المصري بدأ عهد جديد بالنسبة للجنوب وعلاقته بالشمال.. فلأول مرة يخضع الجنوب والشمال لحكومة واحدة، ويكون فيهما نظام حكم مستقر نسبياً، وقد بدأ الإهتمام بتاريخ جنوب السودان، مع الإهتمام باكتشاف منابع النيل، وقد فتح الحكم التركي المصري الجنوب للمكتشفين والتجار، وتم ذلك بصورة خاصة بعد رحلات سليم قبودان لاكتشاف منابع النيل، تلك الرحلات التي تمت على عهد الوالي محمد على، وفي الفترة (1838 ـ 1840م )، وبعد أعمال الخديوي إسماعيل التوسيعية في الجنوب والتي قام بها صمويل بيكر وغردون.. وقد بدأ في هذه الفترة أيضاً التغلغل المسيحي في الجنوب..