إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الاستاذ محمود في الذكرى الثالثة والعشرين
محاولة للتعريف باساسيات دعوته (٣)
خالد الحاج عبد المحمود
الإسلام كنظرية نقدية
النقد الذاتي هو أساس النقد وجوهره
النقد الذاتي، في الاسلام، هو عمل دائم، يستوعب الحياة جميعها، في كل تفاصيلها.. والى ذلك الاشارة بقوله تعالى، لنبيه: (قل إن صلاتي، ونسكي، ومحياي، ومماتي لله رب العالمين، لاشريك له وبذلك أمرت، وانا أول المسلمين).. والنقد الذاتي وسيلة لتحقيق كمال حياة الفكر، وحياة الشعور.. هو وسيلة لتحقيق انسانية الانسان.. وهذه هي غاية الانسان، وغاية الأكوان.. وقد سبق أن ذكرنا، أن في الاسلام، ليست هنالك غاية في ذاتها إلا الانسان.. وكل شيء في الوجود، إنما هو وسيلته.. فتحقيق انسانية الانسان هو جماع التكليف الديني، في جميع أكوان وجود الانسان.. في هذه الحياة الدنيا، وفي دنيا البرزخ، وفي النار، وفي الجنة.. والنقد الذاتي، الذي يقوم عليه منهاج (الطريق)، غرضه تحقيق هذه الغاية.. فالسالك وفق هذا المنهاج، عمله يكون صحيحا، بالقدر الذي به يتغير في اتجاه تحقيق انسانيته، فإذا لم يحدث التغيير المطلوب، أو توقف من النمو، فلا بد أن هنالك خطأ ما، في تطبيق المنهاج، فعلى السالك تصحيح هذا الخطأ، عن طريق النقد الذاتي، والذي يقوم على معرفة عيوب النفس، ومعرفة عيوب العمل، لتصحيحهما والانطلاق في مراقي الانسانية.. وعمل المنهاج كله، يقوم على التجربة، في الخطأ والصواب، بالصورة التي تعين العقل على القوة والاستحصاد، حتى يكون على الاستقامة، ويقود النفس الى الاستقامة.. وبذلك يتم الانتقال المتدرج، من الحياة الحيوانية - الحياة الدنيا - نحو الحياة الانسانية - الحياة العليا أو الأخرى.. أو من النفس الأمارة بالسوء الى النفس الكاملة.. وقد سبق أن ذكرنا أن الانسان، ما دامت تسيطر عليه صفات الحيوان، خضع لها أو قاومها، فهو في الحياة الدنيا.. فالحد الأدنى، من تحقيق انسانية الانسان هو تجاوز صفات الحيوان، بصورة تامة.. وهذا يعني، ضمن ما يعني، أن يكون ما يسير الانسان في جميع حياته، الفكر، بدل الغريزة التي كانت تسيره في مرحلة الحيوانية.. فالانسان، هو برزخ بين الملائكة والأبالسة، وهو نقطة التقاء النور والظلام - العقل والشهوة - وقد أمر العقل في الإنسان، بترويض الشهوة.. وعلى هذا قام التكليف، وبه ظهر الإنسان.. فانسانية الانسان تحدد بدخول ( القيمة) في حياته.. تلك القيمة التي جعلته يفارق خط الحيوان، حيث الغرائز والشهوات هي التي تسيره، الى خط الانسان، حيث الغرائز تخضع لسيطرة وتوجيه العقل.
فالنقد الذاتي يهدف، أول ما يهدف الى تحرير الفكر.. فالنفس العليا التي أشرنا اليها، إنما هي النفس الخاضعة في شهواتها لمقتضيات العقل القوي المستحصد.. والنقد الذاتي، الذي يقوم عليه المنهاج، إنما هو عمل في اعانة العقل على هذه القوة والاستحصاد.. ولكي تتحرر النفس من ربقة الحيوانية، وتستقيم، لا بد أن يستقيم العقل أولا، حتى يفكر التفكير المستقيم.. فالفكر موؤف بأفات لا حصر لها، وسببها جميعها، الخوف.. والطمع طرف من الخوف.. والهوى صنو الخوف.. وعمل المنهاج هو التخلص من آفات الفكر، بالتخلص من الخوف، ومن اتباع الهوى .. فالمنهاج كله عمل في ترويض العقول على دقة التفكير.. يقول الأستاذ محمود: "وإنما من أجل رياضة العقول على أدب الحق وأدب (الحقيقة)، حتى تقوى على دقة التفكير ، جاء الاسلام، وأنزل القرآن، وشرعت الشريعة.. فأنت إذا سُئلت عن الاسلام فقل لهم: انه منهاج حياة، وفقه تراض العقول، لتقوى على دقة التفكير.. والله تبارك وتعالى، يقول في ذلك: (وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم ولعلهم يتفكرون).. قوله تعالى: (وأنزلنا اليك الذكر) يعني القرآن المحتوي على الحقيقة، كلها، وعلى الشريعة كلها .. الحقيقة التي أعلى من مستواك، والحقيقة التي في مستواك، والحقيقة التي في مستوى أمتك.. وعلى الشريعة التي هي في مستواك، والشريعة التي في مستوى أمتك - قوله تعالى: ( لتبين للناس ما نزل إليهم) يعني لتفصل لهم الشريعة التي يحتاجونها، وطرفا من الحقيقة التي يطيقونها، مما يزيد في فهمهم، واحترامهم للشريعة.. قوله تعالى (و) من قوله تعالى: (ولعلهم يتفكرون) يعني مرهم أن يعملوا بالشريعة، بعقول مفتوحة، وقلوب حاضرة.. قوله تعالى: (لعلهم يتفكرون) هو المعلول، وراء كل العلل، والمطلوب وراء كل المطالب، والمقصود وراء كل المقاصد.. يتفكرون في ماذا؟ في السماوات والأرض؟ لا!! ليس فحسب!! فإنما هذا تفكير مقصود لغيره.. مقصود بالحوالة!! أما التفكير المقصود بالأصالة فهو تفكيركم في أنفسكم.. قال تعالى: (وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ!! أَفَلا تُبْصِرُونَ؟؟) .. "
منهاج (الطريق) كله، في عباداته، وفي معاملاته، يقوم على (التقوى)، التي تثمر (الفرقان) .. والفرقان هو التفكير الدقيق، والتمييز السليم، بين قيم الأشياء، وهذا هو ميزان النقد.. وهذا ما جعلنا نقول، أن النقد الذاتي هو أساس النقد وجوهره.. يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ، إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً، وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) قوله تعالى: (يجعل لكم فرقانا) يعني يجعل لكم مقدرة في عقولكم بها تفرقون بين الحق والباطل.. يعني يجعل لكم مقدرة في عقولكم، بفضل التقوى، بها تقوون على التفكير الدقيق، والتمييز السليم.. فالتقوى (شجرة) والفرقان (ثمرة) .. وكلما تدق التقوى، يدق الفرقان، ويقوى.. والتقوى مستويات، والفرقان مستويات.. وأغلظ مستويات التقوى ما يكون عند المؤمن العادي، وهو مستوى الحلال البين والحرام البين.. ثم يتم التسامي في مراقي التقوى، بصورة منهجية، الى مرتبة الورع، فصاحب اليمين، فالبر، فالمقرب، ثم صاحب الاستقامة، وهو يقابل النفس الكاملة.. وليس للكمال نهاية، وكذلك ليس للإستقامة نهاية.
إن غرض النقد الذاتي، الذي يجري بهذه الصورة التي ذكرناها، هو ترويض العقول على التواضع، وعلى المحايدة، وعلى البراءة من الغرض، حتى تستطيع أن ترى حقيقة الأمر على ما هو عليه، وبذلك تملك الميزان الدقيق والسليم، الذي به تزن قيم الأشياء، دون أي تدخل، من الذات يفسد هذا الوزن، بعد أن تكون الذات قد تخلصت، بفضل الله، ثم بفضل العمل بالمنهاج، من كل الانحيازات.. وههنا يكون الفكر، ليس تعملا، وإنما هو طبيعة، قد تصفت من جميع أسباب التواء الفكر، وضعفه، وقلته..
نحن هنا لسنا بصدد التفاصيل فيما يتعلق بالنقد الذاتي، كما هو في منهاج (الطريق)، وإنما أردنا فقط توكيد أهمية التربية العقلية السليمة، التي يقوم عليها الاسلام، كنظرية نقدية.. وهذا، أمر غائب تماما، في جميع النظريات النقدية الأخرى، الأمر الذي أدى، ويؤدي الى اضطرابها وعجزها.. ومن يحب أن ينظر في التفاصيل، نحيله الى كتاب (تعلموا كيف تصلون).