إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الاستاذ محمود في الذكرى الثالثة والعشرين
محاولة للتعريف باساسيات دعوته (٢)
خالد الحاج عبد المحمود
الإسلام كنظرية نقدية
الواقع .. والنظرة التاريخية:
النظرة للواقع، والتعامل معه، من أساسيات، النظرية النقدية.. لقد ذكرنا، أن الواقع في جميع أحواله، هو فعل الله.. فالله تعالى، يخاطبنا بأحداث الواقع، كما يخاطبنا بآيات القرآن.. وهو في خطابه لنا، يريدنا أن نفهم عنه، ونعمل وفق مرضاته، كما تتبدى من خلال الواقع، ولا نخالفها، وهذا ما اصطلح على تسميته ب حكم الوقت) .. (وأدب الوقت).. وهذا يعني أننا عندما نتعامل مع الواقع، نتعامل مع الله، في تجليه في الزمان والمكان المعينين، وما يدور فيهما، وهذا هو الواقع.. وهو نفسه كلام الله الذي ينبغي أن نفهمه عنه، ونعرف حكمته وراءه، ونتصرف وفق هذه المعرفة.. ولما كان التجلي متجددا دائما، فإن الواقع ، واقع متحرك، دائما.. والحركة دائما حركة هادفة، تقوم على الغائية كما سبق أن ذكرنا.. وفي هذه الحركة، هنالك دائما شيء جديد تتم ولادته، وظهوره، وشيء قديم يفنى.. والذي يفنى دائما هو الباطل، والذي يبقى أو يتولد دائما، هو الحق، حسب حكم الوقت، وهذا يجري في صيرورة، وسيرورة دائمتين!!
ولقد سبق أن ذكرنا أن الحق والباطل، كلاهما، لا يدخل إلا بإرادة الله.. والحق والباطل كلاهما يفنى، ومعنى يفنى، يتحرك، ويتغير، يطلب الحقيقة، ولكن فناء الباطل أسرع من فناء الحق، والحق لا يفنى إلا إذا جاء حق أكمل منه، وأكثر منه مناسبة للوقت، بالصورة التي تجعله باطلا، ولذلك يصح أن نقول أن الذي يفنى هو الباطل وحده، لأن الحق الذي يفنى، يكون قد أصبح باطلا، بسبب مجئ حق أكمل منه.. والباطل لا يفنى لمجرد ظهور الحق، ولكن يفنى عندما يستعد المحل تماما لتلقي الإذن الالهي بالحق الجديد.. وهذا قد يأخذ بعض الوقت، وهذا يختلف من موضوع لآخر، حسب طبيعة كل موضوع، وحسب الحكمة الالهية في التغيير.. وعن أمر الحق والباطل، يقول تعالى: (وقل جاء الحق، وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا) .. ويقول: (.. كذلك يضرب الله الحق والباطل، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، كذلك يضرب الله الأمثال) .. ويقول: (إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته، ويقطع دابر الكافرين * ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون).. فمن صفات الباطل الأساسية أنه زاهق، وزاهق تعني أنه زائل، ممحي (ويمحو الله الباطل، ويحق الحق بكلماته) ، ولكنه لا يزول أو يمحى، إلا بعد أن يخدم غرضه الذي من أجله أدخله الله تعالى الوجود.. وهذا الغرض، دائما هو، وجه، من وجوه خدمة مصلحة الانسان، الذي هو محور الغائية الكونية.. فإذا خدم الباطل هذا الغرض حتى استنفذه، فقد انقضى أجله، فهو لا بد زائل.. وهو لا يزول، حين يزول، إلا بعد أن يكون تعالى، قد أعد المحل، عن طريقه، لتلقي المنة بالحق الذي يناسب حكم الوقت الجديد.. فالباطل حسب المثل الذي ضربه تعالى كالزبد، يذهب جفاء.. أما الحق - وهو ما ينفع الناس - فيمكث في الأرض.. ومما يمكث في الأرض، من الحق الزاهق، هو ما يحققه الله تعالى، عن طريقه، من استعداد المحل، لتلقي الحق الجديد، مما ينفع الناس، حسب حكم الوقت الجديد.. وهو دائما، صورة أكثر لطفا، من الصورة السابقة لها.. فالحركة كلها حركة من الكثافة، الى اللطافة، قائمة على المحو والاثبات (يمحو الله ما يشاء، ويثبت، وعنده أم الكتاب).. والقاعدة الأساسية تتمثل في قول الأستاذ محمود: "وكل الذي بدأ وكل الذي ينتهي، هو الصور الغليظة للأشياء".. فالأصل ثابت، والفرع متحرك يطلبه.. فالخير أصل، والشر فرع، موظف لخدمة الخير، عبر التجربة.. فالشر زائل، متحرك دائما، من الكثافة الى اللطافة، يطلب الخير المطلق.. وكذلك العلم أصل، والجهل فرع، فالجهل زائل: متحرك دائما يطلب الأصل - العلم المطلق.. وهكذا بالنسبة لجميع الأصول والفروع.. فدائما، الكثيف يلطف، واللطيف يزداد لطافة.. فاللطف دائما، مصاحب للمشيئة (إن ربي لطيف لما يشاء، إنه هو العليم الحكيم) سورة يوسف 100
حسب التوحيد، كل حدث، يحدث في الوجود، موقوت.. فلا شيء على الاطلاق، يمكن أن يحدث قبل وقته، أو بعد وقته.. فالزمن بعد أساسي في إحقاق الحق، وإبطال الباطل.. هذا بالنسبة للكون، وأحداثه، وبالنسبة للمجتمع البشري، وأحداث حضارته.. وأساس هذا الموضوع، هو القضاء والقدر.. فالوجود كله موجود في منطقة القضاء، ولكنه لا يبرز في منطقة القدر، في الزمان والمكان، إلا على مكث.. يقول تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ).. فالقضاء هو هذا الأمر الواحد الذي يخرج عن الزمان والمكان، وهذا معنى عبارة (كلمح بالبصر).. والقدر هو تنفيذ القضاء وابرازه في حيز الزمان والمكان، على مكث، وفي تطور.. وفي آية أخرى يقول تعالى: (يمحمو الله ما يشاء، ويثبت، وعنده أم الكتاب).. فعبارة (يمحو الله ما يشاء ويثبت) تشير الى القدر، وهي تشير الى التطور بتعاقب صور الكائنات.. وعبارة (وعنده أم الكتاب) إشارة الى القضاء.. وفي قوله تعالى: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر معلوم).. فعبارة (وما ننزله إلا بقدر معلوم) تعني القدر!!، في حين أن عبارة(وإن من شيء إلا عندنا خزائنه) تعني القضاء.. وما يعنينا هنا، بصورة خاصة، أن القدر محكوم بالزمان والمكان، وهو في منطقة الثنائية.. ولذلك ما يدخل بالإرادة، يشمل الخير والشر.. والإرادة والرضا. فالله تعالى، قد يريد شيئا، ولا يرضاه!! فإرادة الله تعالى، لا تعصى، ولكن الله تعالى يريد أن ينقل الخلائق من طاعة، مايريد، الى طاعة ما يرضى.. وعن كونه تعالى، يريد شيئا لا يرضاه يقول تعالى: (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ، ولا يرضى لعباده الكفر، وإن تشكروا يرضه لكم).. ففي الارادة يدخل الكفر والايمان، ولكن بالرضا لا يدخل إلا الايمان.. فمنزلة الرضا منزلة خير، الشر فيها غايب، ومنزلة الإرادة منزلة خير الشر فيها أكثر منه في منزلة الرضا.. والدين كله عمل في الخروج من الارادة الى الرضا.. فقد ارسل الله تعالى، الرسل ليعينوا العقول لتخرج مما اراده الله الى ما يرضاه الله.. فالعقول هي مصفاة الرضا من الارادة.. وهي لتقوم بذلك ، عليها أن تقوم بترويض نفسها، على التمييز بين قيم الأشياء، وهذا هو النقد، في أدق مستوياته!!
فالإرادة الإلهية القاهرة ، هي دين الاسلام العام، أما الرضا الإلهي اللطيف فهو دين الاسلام الخاص، يقول تعالى: (وهو الذي في السماء إله، وفي الأرض إله، وهو الحكيم العليم..).. فإله الأرض، هو إله الإرادة، وهو الرحمن.. وإله السماء، هو إله الرضا، وهو الله.. وإنما هما إله واحد: (قل ادعوا الله، أو ادعوا الرحمن، أيا ما تدعوا ، فله الأسماء الحسنى.. ولا تجهر بصلاتك، ولا تخافت بها.. وابتغ بين ذلك سبيلا).
أعتقد أنني، فيما تقدم، أعلاه، وضعت الصورة العامة، لأساسيات نظرة الاسلام للواقع - طبيعة ما يتشكل فيه ، وعبره، والقانون الذي يحكمه، وعلاقات التغير والثبات، والغاية التي يستهدفها - وأهم القضايا، في كل ذلك: السببية، والغائية الكونية، ووحدة القانون الذي يحكم الأكوان، والإنسان، ومجتمع الانسان.. ووحدة الغاية بالنسبة للأكوان والانسان.. وما تقدم أيضا، يضع الأساس للنظرة التاريخية، في الاسلام، وعلاقتها بالنظرية النقدية. وما ينبغي ملاحظته، أن التطور حسب الاسلام، ليس خطيا، وإنما هو أشبه بسير الموجة، أو بسير الانسان، يقول الأستاذ محمود: "وكما أن الزمان، على كوكبنا هذا، يسير على رجلين، من ليل ونهار - من ظلام ونور - وكما أن الانسان يسير على رجلين من شمال ويمين، فكذلك الحياة تتطور على رجلين من مادة وروح.. وعندما يقدم المجتمع البشري، في ترقيه، رجل المادة ، ويثبتها، ويعتمد عليها، يكون في حال تهيؤ ليقدم رجل الروح، وهو لا بد مقدمها: (كان على ربك حتما مقضيا) ذلك أن تقدم الحياة لا يقف اطلاقا، ولا يتأخر، ولا يكرر نفسه، وإنما يسير قدما في مدارج مراقيه، حيث تطلب الحياة أن تكون كاملة في الصور، كما هي كاملة في الجوهر.. وهيهات!!
أو قل سير الحياة، في مراقيها، كسير الموجة، فهي لا تنفك بين سفح وقمة، وهي عندما تكون في السفح إنما تحتشد لتقفز الى القمة، وإنما يمثل السفح التقدم المادي للمجتمع البشري، وتمثل القمة تقدمه الروحي، والذين لا يرون صورة سير المجتمع مكتملة، وإنما يرونها بالتفاريق، ينعون عليه تقدمه المادي، ولا يعتبرونه إلا انحطاطا، ويحسبونه رجسا من عمل الشيطان، والله هو المسير الحياة اليه، على هذين الرجلين، من المادة والروح. وفي الحق، أنه لدى التوحيد، إنما المادة والروح شيء واحد، ولا يقع بينهما اختلاف نوع، وإن وقع بينهما اختلاف مقدار.." وفي موقع آخر يقول الاستاذ محمود: "يقولون أن التاريخ يعيد نفسه، وهذا حق، ولكنه ليس كل الحق، ذلك بأن التاريخ لا يعيد نفسه بصورة واحدة، وإنما يعيدها بصورة تشبه من بعض الوجوه وتختلف من بعضها عما كان عليه الأمر في سابقه، فالمكان ليس كرويا، ولا الزمان، تبعا لذلك بكروي وإنما هما لولبيان، يسيران من قاعدة الى قمة، تشبه فيهما نهاية الحلقة بدايتها، ولا تشبهها"
هنالك نقطة أساسية، وهامة جدا وهي أن ادراك تطور الحياة لايقوم على فهم الماضي، والحاضر وحدهما، وإنما أهم من ذلك أنه يقوم على اعتبارات المستقبل.. فالحياة مشدودة الى غايتها، ومسيرة اليها ، تسييرا لا تملك عنه فكاكا (هو الذي يصلي عليكم وملائكته ، ليخرجكم من الظلمات الى النور) والعنصر الأساسي في تطور الانسان، هو عنصر الخيال.. يقول الاستاذ محمود: "الانسان حيوان متطور، وإنما جاءت مقدرته على التطور من مقدرته على التخيل - تخيل الأشياء المقبلة"..
ومعرفة المستقبل أمر ممكن، وقد نشأ في الغرب علم خاص بالمستقبل - وقد ناقشنا هذا الأمر بشيء من التفصيل، في كتاب (السلام)، ويمكن الرجوع اليه - يقول الأستاذ محمود: "لأن المعلم واحد فإن النهايات ظاهرة في البدايات، ولكن ظهورها يحتاج منا الى إعمال فكر"!! ففي النواة، توجد الشجرة كاملة، يمكن أن تراها عين العقل، وإذا تهيأت، البيئة الضرورية والمناسبة، ظهرت للعيان.. وكذلك الحال بالنسبة للمستقبل، فهو موجود الآن في الحاضر ويمكن لعين العقل أن تراه، ومتى ما اكتملت العناصر الأساسية، الضرورية، لظهوره، ظهر للعيان، وأصبح هو الحاضر الجديد.. ومن هنا تأتي الأهمية، الكبيرة جدا للغائية الكونية فمن دونها يكون السير في التيه.. ونحن نزعم أنه لا سبيل للرؤية الصحيحة، للمستقبل، إلا سبيل التوحيد، فحسب التوحيد "ما من شيء كان، أو سيكون، إلا وهو كائن الآن"، كما يعبر الأستاذ محمود.. وفي عبارة أخرى يقول الأستاذ: "من الناس من لا يرى الى أبعد من أنفه، ومنهم من تنجاب عن بصيرته سحب الظلمات ، وحجب الأنوار، فيرى ورود الحياة، وصدورها، ويرى سيرها فيما بين ذلك.."
الناس - كل الناس - في حياتهم اليومية، يتعاملون مع الحاضر، من أجل مستقبل أفضل.. فمن الناحية العملية المستقبل، موجود دائما، في تفكير الناس، وسلوكهم، وهو الغاية، فالجميع يعملون، ليوفروا لأنفسهم ، ولمن يهمهم أمرهم حياة أفضل، وهذا أمر طبيعي.. ولكن الخلل، الأساسي، يأتي من القصور في تصور الحياة الأفضل!! ومن الأسباب الأساسية، للقصور في تصور الحياة الأفضل، أن هذا التصور يمليه الخوف، بأكثر مما يمليه الفكر السليم.. وهذا الخوف، منه ما هو موروث من تجربة الحياة الطويلة، والتي عانت ضمن ما عانت من الجوع، والموت جوعا، كما تمليه تجربتنا في الحياة الحاضرة.. فالكل يريد أن يحتاط ضد العوز، والمرض، والشيخوخة، والموت، وهذا التحوط لا يكون، كما أوهمنا الخوف، إلا بضمان الحياة الوحيد، المال!! وقد عمق، نمط التفكير الرأسمالي، من هذا الخوف، والذي هو أساسا نتيجة له، فأصبحنا في حياتنا كلها، نكدح، ليل نهار، في سبيل المال، وهكذا ضيعنا الحياة في سبيل العيش!! ثم لا مفر من الموت!!
علينا أن نعمل من أجل حياة أفضل في الحاضر، وفي المستقبل، بل لا بد لنا من ذلك، ولكن عملنا، لن يكون منه طائل، بل قد يسبب لنا الشقاء بدل السعادة، إذا لم نتخلص من إملاءات الخوف، الموروث والمكتسب، لنعمل وفق رؤية يمليها العقل الصافي، والقلب السليم!! فمن أجل الحياة الأفضل، في الحاضر، وفي المستقبل، القريب، والبعيد - والبعيد هذا يشمل ما بعد الموت - علينا أن نعمل، قبل كل شيء، وفوق كل شيء، على تحصيل العقل الصافي، والقلب السليم، هذا واجبنا الأول والأساسي.. وكل الخلل هو خلل في تصور الواجب!!
ونحن لم نبعد عن قضيتنا، فالعقل الصافي والقلب السليم، هما الشرط الأساسي، للنقد السليم.. وإطار التوجيه، والمنهاج اللذان يوفرانهما، هما ما تقوم عليهما، النظرية النقدية في الاسلام.
نرجع مرة أخرى الى موضوع الزمن.. فقد قررنا، أنه في التصور الاسلامي، لكل شيء في الزمان وقته.. فأمة المسلمين، التي نبشر بها، ونزعم أنها البديل للحضارة الغربية السائدة - بعد ان ادت دورها التاريخي، حتى استنفدته - هذه الأمة لها وقتها، والذي نرى أنه قد أظل: (ولكل أمة أجل، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة، ولا يستقدمون).. وقد جاء أجل الأمة الموعودة، وتهيأت الأرض لها بالطاقة بها، والحاجة اليها، وتمت جميع الأشراط المادية، لظهورها، ولم يبق إلا الإذن الالهي بها، ومجيء رسولها - أحمد - يقول تعالى: (ولكل أمة رسول، فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط، وهم لا يظلمون).. ورسول الأمة القادمة أحمد(المسيح) - ونحن لنا الى ذلك عودة.
لا نزال في إطار الحديث عن الزمن، فالعقل الناقد، ينبغي أن يعرف طبيعة المرحلة التاريخية التي يتحدث عنها، أو يتحدث عما يجري فيها من فكر، ليقومه، وينقده.. فالحق والباطل، كما سبق أن بينا، مرتبطان بحكم الوقت.. ففي أي وقت من يوم الدنيا نحن؟؟ الاجابة، عند الأستاذ محمود - والتي تحمل في طياتها، البشارة، والخبر عن النبأ العظيم – هي أننا في الثلث الأخير من ليل الوقت!! فهو يقول: "نحن نعيش في أخريات الثلث الأخير من ليل الوقت، وقد آذن الصبح بانبلاج. والثلث الأخير من ليل الوقت، كالثلث الأخير من ليل اليوم، منصوص على مدحه وتفضيله.. فكما أن الثلث الأخير من ليل اليوم برزخ بين الليل والنهار، فكذلك الثلث الأخير من ليل الوقت، فإنه برزخ بين الدنيا والأخرة".. ويقول: "نحن، بشرية القرن العشرين!! نحن بشرية الثلث الأخير من ليل الدنيا!! ومعلوم قيمة الثلث الأخير من ليل اليوم: (إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا).. بنفس هذا القدر يجب أن نعلم قيمة الثلث الأخير من ليل الدنيا، وقيمة البشرية التي تعيشه.. فهذه البشرية هي الموعودة بتحقيق جنة الأرض، في الأرض: (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الأرض حيث نشاء فنعم أجر العاملين).. هذه البشرية المعاصرة، هي بشرية اليوم الآخر، الذي من أجل تحقيقه ارسل الرسل، وأنزلت الكتب، وشرعت الشرائع، في جميع حقب هذه الحياة الدنيا"
من المؤكد، أن هذا الذي ذكرناه، هو إطار عام للنظرية النقدية، في الاسلام، ويحتاج الى بعض التفاصيل.. ولكنه كاف لاعطاء الصورة العامة، التي نرمي اليها.. وسترد بعض التفاصيل، إن شاء الله، عندما نتحدث عن فلسفة التاريخ.. المهم الآن أن ندخل الى الحديث عن العقل الوسيلة الأساسية للنقد، وفيما تقدم وضحنا اطار التوجيه في الاسلام، الذي يقوم عليه هذا العقل، وبقي أن نربط بين هذا الإطار كمفهوم انطولوجي، وما يقوم عليه من معرفة عملية