إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (١٥)

خالد الحاج عبد المحمود


بسم الله الرحمن الرحيم

الأستاذ محمود محمد طه في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته



(15)
المنهاج: الآخرة هنا


لا نزال في اطار حلقات الحديث عن المنهاج.. فقد أصبح أعظم منهاج، عرفه تاريخ البشرية، عند المسلمين اليوم، مجرد طقوس ميتة، لا تثمر شيئا ايجابيا، وهذا هو أهم اسباب موت الإسلام في صدور المسلمين.. فهم لا ينتظرون نتائجا من العمل بالمنهاج، ولا يجدون نتائجا.. والسبب في ذلك أنهم يتوهمون، أن نتائج العمل بالمنهاج، هي في الآخرة فقط.. وبسبب من هذا الفهم فقدوا الدنيا، والآخرة، معا.. . ولا سبيل لبعث الاسلام، الا بتصحيح هذا الخطأ الشنيع، بالصورة التي تجعل المنهاج يؤدي ما هو مرجو منه من ثمار.. وبداية التصحيح، هي تصحيح التصور الخاطئ.. فالمنهاج هو وسيلة السير الى الله.. والله تعالى ليس في الآخرة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وإنما هو هنا والآن.. الله تعالى، ليس في الماضي ولا المستقبل، وإنماهو في الحاضر، هو أقرب الينا من حبل الوريد.. والسير اليه، هو العمل في الحضور معه، والصلة به، الآن، وفي كل آن، وذلك بالعمل وفق مرضاته، وعقولنا وقلوبنا حاضرة، معه، لا يلهيها شيء، من خلقه، عنه تعالى.
لقد جعل المسلمون، اليوم، من العبادات، مجرد كم، يمكن حسابه بالعدد، وينتظرون الجزاء في الآخرة، وفق كم ما أدوه من عبادات!! هم يفعلون ذلك، ولا تغيب عنهم النصوص الواضحة التي تفيد خلاف ذلك، ولكنهم لا يقفون عندها,, هم يقرأون قوله تعالى عن القرآن (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا، وما يضل به الا الفاسقين) وقول المعصوم: (رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه) .. وقوله (رب مصل لم يقم الصلاة).. و (رب مصل لم تزده صلاته من الله الا بعدا).. وقوله (ورب صائم ليس له من صيامه الا الجوع والعطش) الى آخر هذه النصوص، الكثيرة.. هم يقرأونها، وينصرفون عنها ببساطة شديدة، رغم خطورتها الشديدة!! العاملون بالمنهاج من المسلمين، لا يكادون يتغيرون للأحسن، بل البعض يتغير للأسوأ!! والله تعالى يقول (إن لله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ويقول (من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا) .. ويقول: (وقدمنا الى ما عملوا من عمل ، فجعلناه هباء منثورا)
فمن أجل بعث الإسلام، لا بد من بعث المنهاج.. ومن أجل بعث المنهاج، لا بد من تصحيح التصور الخاطئ، وإحلال التصور الصحيح مكانه.. وهذا ما جعلنا في حلقات سابقة نركز على تجويد تقليد النبي صلى الله عليه وسلم، ونركز على تحديد الوسائل والغايات، ونتحدث عن ضرورة اعتبار (المطلق).. ونحن هنا في هذه الحلقة، نريد أن نركز على أن ثمرة العمل بالمنهاج، ثمرة حاضرة وفورية.. (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره).. يره الآن، في التو واللحظة، وما يحجب عن هذه الرؤية، الفورية، إلا الغفلة.. فالقاعدة الأساسية هي (كما تدين تدان) ولكي يفضي المنهاج الى الثمرة المطلوبة منه، يجب أن نركز على النقاط التالية، والتي تقع في اطار ما سبق أن ذكرناه، في المقالات السابقة:
1. الإنسان وحده هو الغاية، وكل ما عداه، ومن عداه، في الوجود الحادث هو وسيلته، بما في ذلك كل الأكوان وبخاصة القرآن، والمنهاج
2. التكليف الأساسي، هو العبودية لله، وهو الغاية التي من أجلها خلقنا.. والعبادة وسيلة للعبودية، ولذلك يجب أن تؤدى بالصورة التي تفضي إلى ما هو مطلوب منها، وإلا فإنها لا قيمة لها
3. الله تعالى غني عن العباد ـ عن عبادتهم وعن عبوديتهم ـ فلو أن اهل الأرض جميعا صاروا على قلب أتقى رجل منهم، ما زادوا في ملكه شيئا.. ولو أنهم أصبحوا على قلب أفسق رجل، ما نقصوا من ملكه شيئا.. فمن أحسن أحسن لنفسه، ومن أساء فعليها.. فالفرد هو الرابح أو الخاسر، ومن بعده المجتمع.. يقول تعالى: (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم، وإن أسأتم فلها).. ويقول (من عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها.. وما ربك بظلام للعبيد)
4. منهاج الدين كله هو عمل في العروج، من أرض نفوسنا السفلى، الى سماوات نفوسنا العليا.. ووسيلة هذا العروج الفكر.. فالفكر هو روح العمل، في كل ما نعمل، وما ندع.. وأي عمل يخرج منه الفكر، هو عمل ميت ـ جسد بلا روح ـ ولا قيمة له .. والفكر، في المنهاج يبدأ من استحضار القصد من العمل ـ النية
5. والفكر حتى يؤدي الوظيفة المنوطة به في المنهاج، يعمل المنهاج نفسه على ترويضه، وتأديبه.. ولذلك نحن لا نتحدث عن أي فكر، وإنما نتحدث عن الفكر المروض، المؤدب بأدب القرآن، أدب حقيقته، وأدب شريعته.. فالاسلام، كما سبق أن ذكرنا، هو منهاج حياة، يقوم على ترويض الفكر بصورة منهجية، حتى يسمو بالنفس، من النفس السفلى الى النفس العليا.. والنفس العليا، إنما هي النفس الخاضعة في شهواتها لمقتضيات العقل القوي والمستحصد.. وقد جاءت جميع الشرائع التي يقوم عليها المنهاج لتعين العقل، على القوة وعلى الاستحصاد,, والمنهاج في ترويضه للعقل، يعمل على جعله عقلا متواضعا ومحايدا، برئ من الغرض
6. والمنهاج لا عبرة فيه للتنظير، وإنما كله يقوم على العمل.. فأي علم لا يراد به العمل، هو علم لا قيمة له، فالدين لم يمت في صدور الناس، إلا بعد أن اصبحوا (يعلمون) ولا (يعملون).. ففي الاسلام، العلم نفسه نتيجة العمل، يقول تعالى: (واتقوا الله ، ويعلمكم الله، والله بكل شئ عليم) ويقول المعصوم: (من عمل بما علم أورثه علم ما لم يعلم).. والعلم المطلوب، للمنهاج هو علم ما لا تصح العبادة إلا به.. والعمل في المنهاج جسد وروح، أو هيئة وفكر، ولا بد من اتقان الأثنين معا
7. العمل في المنهاج يستوعب جميع صور النشاط، في حياة الفرد، في العمل وفي ترك العمل، وفي العبادة والمعاملة.. يقول تعالى لنبيه الكريم: (قل إن صلاتي، ونسكي، ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)
8. المنهاج يقوم على التوحيد بصورة أساسية.. والتوحيد صفة الموحد ـ بكسر الحاء ـ صفة الإنسان العامل بالمنهاج.. فغرض المنهاج هو إعانة الفرد على توحيد القوى المودعة في بنيته، وذلك بتقريب المسافة بين فكره وقوله وعمله حتى يصبح يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول ثم لا تكون نتيجة فكره وقوله وعمله إلا برا بالأحياء والأشياء، وهذه هي وحدة الفكر، وهي وسيلة لوحدة الحياة، وهي وحدة العقل والقلب والجسد.. وبذلك يتم ورود مورد الحياة الكاملة، حياة الفكر وحياة الشعور، وليس لكمال الحياة نهاية تبلغها، وإنما كمالها دائما أمامها.. والحياة الكاملة هي جماع التكليف الديني، في جميع أكوان وجود الإنسان.. في هذه المرحلة المسماة الدنيا، وفي دنيا البرزخ، وفي النار، وفي الجنة.. بل ان الحياة الكاملة ليست تكليفنا الديني فحسب، وإنما هي القدر المقدور لنا.. فإن الإنسان مكتوبة عليه الحرية، ومكتوب له الكمال.. وهذا هو معنى عديد الآيات التي تتحدث عن ملاقاة الله، والرجوع اليه، فهو رجوع إلى (أحسن تقويم) الذي عنه صدرنا..
9. فالعمل في المنهاج هو عمل في التواءم والانسجام مع البيئة، في جميع مستوياتها، ومظاهرها .. والبيئة، بيئة روحية ذات مظهر مادي.. والتواءم إنما يكون مع المظهر والجوهر معا.. ولا يتم هذا التواءم إلا عندما تقوى عقولنا، وتدرك الأمر على ما هو عليه في الحقيقة، فنتخلص بذلك من وهم التناقض والصراع الذي أوجده الخوف، ونقيم الحب والأنس مكان الخوف، وبذلك يتم التخلص من الانقباض الذي أورثه الخوف، وتبدأ المسيرة الحقيقية في كما الحياة..
لقد اخترنا عنوانا لحلقتنا هذه، عبارة "الآخرة هنا" لتوكيد ضرورة جعل ثمرة العمل، معيارا لصحته أو عدم صحته، بالصورة التي تعين على تصحيح العمل بصورة مستمرة، حتى يكون فعالا، ومثمرا.. وقبل ذلك، لأن هذه هي الحقيقة.. فالتصور العام عند المسلمين عن الآخرة كمقابل للدنيا، هو أن الآخرة هي فقط بمعنى الحياة التي تعقب البعث بعد الموت، وليس في أذهانهم شيء خلاف ذلك.. وبالطبع هذا المعنى في حد ذاته صحيح، ولكن الخطأ قصر المعنى عليه.. ففي الفهم الديني ، كلمة (دنيا) تفيد الدونية، والأخرى، كمقابل، تعني العليا.. فالحياة الدنيا، هي حياة الحيوان في الإنسان، والتي ما جاء الإسلام إلا ليعين الانسان على تجاوزها، نحو الحياة العليا(الأخرى)، والتي هي حياة الإنسان.. وهذا الانتقال يكون هنا في هذه الدورة من دورات الحياة، قبل حياة البرزخ.. وعلى حدوثه، أو عدم حدوثه، تكون حياة البرزخ، وحياة ما بعد البرزخ، وفي ذلك يقول المعصوم: (يقبض المرء على ما عاش عليه، ويبعث على ما قبض عليه).. ويقول تعالى: (ومن كان في هذه أعمى، فهو في الآخرة أعمى، وأضل سبيلا).. فثمرة العمل تكون هنا، ثم تكمل.. والحساب على العمل فوري (إن الله سريع الحساب).. وفي هذا الصدد يقول الأستاذ محمود: "اليوم لم تعد الدنيا والأخرى ضرتين كما كانتا في الماضي، وإنما هما اليوم شقيقتان، تختلفان إختلاف مقدار. وتؤدي إحداهما للأخرى فوراً، وعلى التو.. ولذلك فانه يجب على العابد أن يترقب الجزاء على عبادته في التو.. أجر الله على العبادة اليوم (هاك بهاك) هذا يوم تحقيق: (أدعوني أستجب لكم) ، فليس بين العبادة والاستجابة مسافة.. ومعرفة العارفين، اليوم تقول: إن الله أكرم من أن تعامله حاضراً ويعاملك نسيئة.. تعبده اليوم ويؤتيك أجرك غداً في الآخرة.. ألم يأمر هو في شريعته بأن نعطي الأجير أجره قبل أن يجف عرقه؟؟ فكذلك أجر الله على العمل، فإنما هو على الفور، والتو.. هو (هاك بهاك)..
فإن انت لم تجد ثواب صلاتك، حين تصليها، طمأنينة وبرد رضا يغمر قلبك، ويسعده في توه، فأعلم أن صلاتك باطلة.. ولا تظنن أن أجرك عليها مكتوب في مكان آخر.. الم يقل المعصوم، في حديثه المشهور،: (حبب الي من دنياكم ثلاث: النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة) بلى، قد قال!! (وقرة عيني) يعني طمأنينة نفسي، ورضا بالي.. وهذا هو ما عنيناه بأن أجر الله على العبادة المجودة انما هو(هاك بهاك)، ليست معنى هذا، بالطبع، انكار الآخرة، وانما معناه إن الآخرة هنا، واليوم ـ فما يكون تمامه هناك يبدأ اليوم.. قال تعالى، في هذا المعنى: (يأيها الذين آمنوا توبوا الى الله توبة نصوحا، عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم، ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار، يوم لا يخزي الله النبي، والذين آمنوا معه، نورهم يسعى بين أيديهم، وبأيمانهم، يقولون: ربنا أتمم لنا نورنا، وأغفر لنا.. إنك على كل شيء قدير).. قولهم (ربنا أتمم لنا نورنا) يشير الى أنهم قد بدأت أنوارهم في الدنيا، وهم انما يطلبون تمامها في الآخرة.. وحكم الوقت يجعل هذه الآية تطالب بمعناها، في سرعة تحقيق الأجر، اليوم، بأكبر مما كان عليه الشأن في الماضي.. المراد من هذا الحديث أن يحاسب العابد نفسه ليكون على بينة من صحة صلاته.. فإنه اذا كان المراد من الصلاة هو الرضا بالله ربا، ومدبرا لأمورنا، فإنك إن أنت صليت ركعتين، وانصرفت من مصلاك، ولم يكن قلبك أرضى بالله، منه قبل أن تصلي، فيجب أن تعلم أن صلاتك باطلة، وأنها لا تستحق، ولا تستوجب أجرا.. واحذر أن تظن أن أجرها مكتوب لك في مكان آخرتعطاه في الآخرة.. ولما كانت الصلاة وسيلة الى الرضا فإن الرضا هو ايضا وسيلة الى طمأنينة النفس، وتحرير العقل من الخوف.. وبتحرير العقل من الخوف يتم كمال الحياة"
إن المنهاج في الاسلام، يقوم على أمر واحد، هو خلق الصلة بالله.. وعبر هذه الصلة يتم وصل الحياة بمصدرها، ويتم من خلال ذلك تلق المعرفة، التي تتسع بها الحياة وتتعمق.. وقد أجمل ذلك المعصوم، إجمالا وافيا، في قوله: (الدين المعاملة).. معاملة الرب، من أعلى، في العبادة، ومعاملة الخلق، من أدنى، في المعاملة.. وأعلى معاملة الرب، في الصلاة والتي قال عنها المعصوم: (الصلاة صلة بين العبد وربه).. وأعلى معاملة الخلق صلة الرحم.. وبهذين الأمرين نحن نختم حلقات المنهاج في الحلقة الأخيرة القادمة.

خالد الحاج عبد المحمود
رفاعة في 7/1/2008