إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (١٤)
خالد الحاج عبد المحمود
بسم الله الرحمن الرحيم
الأستاذ محمود محمد طه في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته
(14)
المنهاج: العبودية هي الغاية.. وهي التكليف الأساسي
تحدثنا عن السير الى الله، وقلنا أنه ليس بقطع المسافات، وإنما هو بتقريب الصفات من الصفات.. وتحدثنا عن التخلق باخلاق الله، وأوردنا النصوص في ذلك.. فكيف يتخلق العبد بأخلاق الرب!؟ وما هي اخلاق الرب هذه، التي يمكن للعبد أن يتخلق بها!؟ وأين نجدها؟ هذه الأسئلة، تتعلق بجوهر الدين، والتكليف الأساسي، الذي يقوم عليه.. كما تتعلق بالغاية من خلق الانسان.. وكلها تقودنا الى شي واحد هو موضوع العبودية.. فالعبودية لله هي خلافة الانسان لله في الأرض، وهي الغاية من خلقنا، كما هي تكليفنا الأساسي، وسبيلنا الوحيد، للتخلق بأخلاق الله.. ويجئ في ذلك قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) ومعناها ما خلقت الجن والإنس إلا ليصيروا لي عبيدا بوسيلة العبادة ، أو ما خلقت الجن والانس الا ليعبدوني كما امرتهم على لسان رسلي، ليصيروا بتلك العبادة لي عبيدا كما امرتهم على لسان عزتي ، وذلك حين قلت في مقام عزتي (إن كل ما في السماوات والأرض إلا آت الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) . فالعبودية هي التكليف الأصلي، والعبادة هي التكليف الفرعي، أو بعبارة أدق.. العبادة هي الوسيلة، والعبودية هي غاية العبادة.. وعدم ادراك الأمر على ما هو عليه، بهذه الصورة، يضيع العبادة والعبودية معا وهو ما عليه المسلمون اليوم، وهو السبب الأساسي في نصول الدين عن حياة الناس.. وقد توهم، جلهم، أن الغاية من خلقنا، هي ان نعبد الله.. وجعلوا بذلك العبادة غاية - وهي وسيلة - فلم ينتظروا منها نتيجة، ولم يجدوا منها نتيجة، وأصبحت عبادتهم شكلا بلا مضمون أو جسدا بلا روح.. فالعبودية هي روح العبادة، فلما غابت، غاب معها كل شيء، مما هو منتظر للعبادة أن تحققه.. والعبودية هي أن ترضى بالله ربا، وتسلم له ظاهرا وباطنا.. وهذا هو الإسلام.. ولمقام العبودية بداية وهي مقام النفس الراضية، ولكن ليست له نهاية، .. فالعبودية كالربوبية لا تتناهى.. وها هنا يدخل موضوع الإطلاق، الذي تحدثنا عنه.. والله تعالى، غني عن عبادتنا، وعن عبوديتنا، فهو الغني الحميد، فهي من أجلنا نحن، نحن المحتاجون إليها.. وهذه الحاجة هي جوهر العبادة والعبودية، يقول تعالى: (ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد).. فمكان العبد الفقر - الحاجة - ومكان الرب الغنى.. والتخلق، بأخلاق الله، هو أن يلزم العبد مكانه من العبودية، والحاجة والفقر، فتفيض عليه الربوبية من صفاتها.. وهذا معنى قوله تعالى لسيدنا داوؤد في الحديث القدسي: (فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد).. (فإن سلمت لما أريد) هذه، هي الاسلام، وهي التخلق بأخلاق الله.. وأين نجد أخلاق الله!؟ في القرآن.. وما هي أخلاق الله التي هي في القرآن!؟ هي باختصار الصفات النفسية السبع.. فالله تعالى: حي، وعالم، ومريد، وقادر، وسميع وبصير ، ومتكلم.. وخلق الإنسان على صورته: حي وعالم ومريد وقادر وسميع وبصير ومتكلم.. ولكن صفاته تعالى في مطلق الكمال، وصفاتنا نحن في طرف النقص .. وقد انتدبنا لنسير من نقص صفاتنا، الى كمال صفاته.. فالله تعالى حي بذاته وعالم بذاته، ومريد بذاته وقادر بذاته.. فهو تعالى لا يعلم بجارحة، ولا يريد ولا يقدر بجارحة، وإنما يعلم بذاته، ويقدر بذاته، ويعمل بذاته.. أما نحن فقيوميتنا نفسها به تعالى، وليست بذواتنا.. فحياتنا من حياته، وعلمنا من علمه، وإرادتنا من إرادته، وقدرتنا من قدرته.. هذه في الحقيقة وإن توهمنا غيرها في الشريعة - في إدراك العقول - وإنما جاء القرآن ليخرجنا من وهم ما نحن عليه في الشريعة، إلى ما هو عليه الأمر في الحقيقة، فتكون بذلك شريعتنا طرف من حقيقتنا.. والعبودية تقتضي مراعاة أدب الشريعة وأدب الحقيقة معا، وفي نفس الوقت.. ومراعاة الغائية، والسببية معا، وفي نفس الوقت.. هذا بالنسبة لجليل الأمور وخطيرها، وبالنسبة لصغير الأمور.. وهذا الأمر تقوم عليه حقائق الوجود، وينبغي أن تقوم عليه تفاصيل السلوك في الحياة اليومية.. فالوجود كله يقوم على الغائية، فليس شيء فيه، عظيم أو صغير، لا توجد غاية من خلقه أو دخل بالصدفة في الوجود.. هذا بالنسبة للأشياء، وحركتها، وما يحدث لها أو يحدث بها.. يقول تعالى: (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق..) قوله:(ما خلقناهما إلا بالحق) تعني إلا بالحكمة.. والحكمة هي وضع كل شيء في موضعه.. وهي نهاية العلم ونهاية الرحمة.. والعبودية تعني السير خلف الله، بمعرفة حكمة الله تعالى الباطنة، في فعله الظاهر، والتصرف وفق هذه المعرفة، في التعامل مع خلقه، وفق مرضاته تعالى.. وهذا الأمر يبدأ من بدايات بسيطة، تكون في وسع كل انسان، ثم يعمق ويدق، ويتسع كلما تطورنا في العمل بالمهاج، متوخين التوسل به إلى الغايات المنشودة.
بدون هذا الاعتبار للوسائل والغايات، يصبح العمل - مهما كان حجم هذا العمل - منبتا، لا يوصل، عقيما لا يثمر، وهذا هو حال المسلمين اليوم.. كما أنه يمثل جوهر أزمة الحضارة القائمة.. فلا مجال لبعث الدين، ولا مجال للتمدين، إلا بالمعرفة الدقيقة بالوسائل والغايات، والسلوك وفق هذه المعرفة.. هذا، ينطبق على غايات الوجود الأساسية بصورة خاصة، كما ينطبق على كل ماهو دونها مما يوصل إليها
إذا كان الإنسان هو الغاية من خلق الوجود الحادث جميعه.. فوظيفة الوجود الحادث جميعه هي العمل على إيجاد الإنسان، وتهيئة البيئة لذلك.. تستوي في هذه الوظيفة، قوى الوجود العلوية والسفلية، النورانية والظلمانية (لله جنود السموات والأرض).. والغاية من خلق الإنسان هي تحقيق العبودية لله بوسيلة العبادة.. وعبودية الإنسان لله، هي من أجل الإنسان، هي وسيلته لتحقيق ربوبيته على الأكوان، بأن يكون خليفة الله فيها، ويتصرف فيها وفق مرضات خالقها.. وهذه هي قمة المعاملة، التي قال عنها المعصوم (الدين المعاملة).. وهي كذلك قمة الصلاة كما سنرى.. فالعبودية هي الرجوع الى مقام (أحسن تقويم) الذي خلق عليه الإنسان في الملكوت، ليجسده، في اللحم والدم في عالم الملك، فهي كمال الحياة، وكمال العلم، وكمال الحرية.. العبودية لله هي الحرية الفردية المطلقة، التي كثيرا ما تحدثنا عنها.. والإطلاق هنا إطلاق صيرورة، لأن العبودية كالربوبية لا تتناهى.
ووسيلة تحقيق كل هذه الكمالات، والتسامي في مراقيها، هي التخلق بالقرآن.. ووسيلة التخلق بالقرآن، هي اتباع النبي عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم، في سنته - وهي عمله في خاصة نفسه.. فالقرآن جعل ميسرا، بأن صب في قوالب اللغة العربية لتدركه العقول.. ثم زيد تيسيرا، بأن جسد في حياة النبي المعصوم.. فجاءت السنة المطهرة تجسيدا للقرآن، وتفصيلا له.. وأصبح بذلك حياة يومية، تعاش في كل تفاصيل الحياة، من عمل أو ترك للعمل.. والمحور الذي يدور حوله القرآن كله هو التوحيد (لا إله إلا الله).. وهذا التوحيد تجسد في حياة النبي المعصوم، وجاء عنه قوله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لاشريك له، وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين).. وهكذا علينا أن نكون.. ولا سبيل إلى ذلك إلا أن نجعل محمد صلى الله عليه وسلم، وحده الوسيلة إلى الله، وليس دونه وسيلة.. مرة أخرى نعيد ما جاء في كتاب (الطريق).. "إن محمدا هو الوسيلة إلى الله وليس غيره وسيلة منذ اليوم - فمن كان يبتغي إلى الله الوسيلة التي توسله وتوصله ولا تحجبه عنه أو تنقطع به دونه فليترك كل عبادة هو عليها اليوم وليقلد محمدا في أسلوب عبادته وفيما يطيق من أسلوب عادته، تقليدا واعيا، وليطمئن حين يفعل ذلك أنه اسلم نفسه لقيادة نفس هادية ومهتدية".. "إن حياة محمد هي مفتاح الدين.. هي مفتاح القرآن، وهي مفتاح (لاإله إلا الله) التي هي غاية القرآن، وهذا هو السر في القرن في الشهادة بين الله ومحمد (لا إله إلا الله محمد رسول الله)".. "ما أحوج بشرية اليوم، كلها، إلى تقليد هذه النفس التي اكتملت لها أسباب الصحة الداخلية، تقليدا متقنا يفضي بكل رجل، وكل إمرأة، إلى إحراز وحدة ذاته، ونضج فرديته، وتحرير شخصيته، من الاضطراب، والقلق الذي استشرى في عصرنا الحاضر بصورة كان من نتائجها فساد حياة الرجال والنساء والشبان.. في جميع أنحاء العالم".. من النص أعلاه، يتضح أن الغاية هي (الصحة الداخلية) وهي تتم عند كل فرد، عندما يتم له، عن طريق العمل بالمنهاج (وحدة ذاته، ونضج فرديته، وتحرير شخصيته) .. فلنصطحب هذه المعاني معنا، ونحن نتابع الحديث عن المنهاج.
ومما جاء عن الغاية والوسيلة، في القرآن، قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا، اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة).. وقوله تعالى: (أولئك الذين يدعون، يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، يرجون رحمته ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محذورا) ..
نذكر بحديثنا عن (الذات المحمدية)، القائمة في الملكوت، وتجسيدها في عالم الملك.. بهذا التجسيد، يتحقق مقام الوسيلة، الذي وعد به الله تعالى نبيه الكريم حيث قال: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك، عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا).. والذي طلب النبي من أمته، أن تدعوا له بأن يبلغه إياه.. فكلنا يدعوا عقب الآذان: (اللهم آت سيدنا محمد الوسيلة والفضيلة، وأبلغه المقام المحمود الذي وعدته).. وهو مقام تتوقف على بروزه، إقامة الدين، وتحقيق الكمالات الإنسانية، التي ظلت مسيرة الحياة تعد لها، منذ أن كانت الحياة.. فتشرق الأرض بنور ربها، فتتم النعمة، ويسود السلام والمسرة.. وهذا أمر قد تمت أشراطه المادية، ولم يبق غير صدور الإذن الإلهي به.. هذا الإذن، به تجيء الساعة الصغرى، التي بها تقوم جنة الله في الأرض.. وهذه الساعة قد اكتملت أشراطها التي جاءت البشارة بها، في العديد من الأحاديث النبوية، فليرجع إليها من شاء، في مراجعها.
من أجل كل ذلك، تحدثنا، ونتحدث، عن الوسائل والغايات، كقضية هامة، من قضايا المنهاج.. فكمال الدين في الأرض، وكمال الإنسانية، يوشك أن يتم، وهو لن يتم، إلا عن طريق (الوسيلة).. فعندما ندعو (اللهم آت سيدنا محمدا الوسيلة والفضيلة، وابلغه المقام المحمود الذي وعدته) إنما ندعو لخير أنفسنا وخير الإنسانية جمعاء..