إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (٧)

خالد الحاج عبد المحمود


الأستاذ محمود محمد طه في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته


ماهى الأخلاق؟


لقد طرح الأستاذ محمود القضية التى طرحها ستيس، فى حديثه عن ضرورة تواؤم الحياة الإنسانية مع الخطة الكونية للأشياء، حتى يكون للحياة معنى، طرحها بهذه الصورة، فى قوله: (إن الإضطراب الذى نشاهده فى عالم اليوم يرجع إلى أسباب كثيرة، ترجع جميعها إلى سبب أساسى واحد، هو مدى التخلف بين تقدم العلم التجريبى، وتخلف الأخلاق البشرية.
إن العلم التجريبى الحديث قد رد مظاهر المادة المختلفة، التى تزخر بها العوالم جميعا، إلى أصل واحد، فإذا لم ترتفع قواعد الأخلاق البشرية إلى هذا المستوى، فترد جميعها إلى أصل واحد، فإن التواؤم بين البيئة الطبيعية، وبين الحياة البشرية، سيظل ناقصا، وسيبقى الإضطراب الحاضر متهددا الحياة الإنسانية، على هذا الكوكب بالعجز، والقصور، فى أول الأمر، ثم بالفناء والدثور، فى آخر الأمر..) – كتاب الإسلام- فالأصل الواحد الذى تقوم عليه طبائع الأشياء فى الوجود، هو الإسلام العام.. فجميع الأشياء مسلمة لله، ولن تنفك.. والإنسان فى الحقيقة، لا يختلف فى ذلك عن بقية العناصر، ولكن الله تعالى، بفضله وعنايته، أراد له أن يسلم فى الشريعة، عن رضى وقناعة.. وهذا هو الإسلام الخاص، إسلام العقول.. الإسلام العام متعلق بالإرادة الإلهية، وهى قانون الوجود الأساسى.. والإسلام الخاص متعلق بالإرادة البشرية.. وهذه هى الأمانة، التى قبلها الإنسان، دون بقية الخلائق.. فالإسلام الخاص هو رد الأمانة، إلى صاحب الأمانة (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها).. وأداء الأمانة هذا، هو رد الإرادة الحادثة، إلى الإرادة القديمة ، وهذه هى قمة الأخلاق، ومناطها فى جميع تفاصيلها.. وهى السبيل الوحيد لأن يعيش الإنسان حياته، وفق قانون الحياة العليا.. وتسليم الإرادة لله هو أمر عملى - أمر تجريبى - ولذلك سمى الأستاذ الدين "بالعلم التجريبى الروحى" .. فهو يقول: (ويمكن القول إذن بأن موضوع العلم التجريبى الروحى "الدين" هو الإرادة البشرية) .. وقد سبق لنا أن ذكرنا، أن الله تعالى عندما خلق الحياة فى مراتب النبات ، والحيوان، سيرها "بإرادة الحياة" ، وهى إرادة تعمل بدوافع البقاء للإحتفاظ بالحياة.. وقانونها إجتلاب اللذة ، ودفع الألم ، وأصبح تسيير الله تعالى للمخلوقات فى هذا المستوى من وراء حجاب "إرادة الحياة" التى تتمتع بما يسمى بالحركة التلقائية ، لأن دوافع حركتها ، وقوى حركتها كالمودعة فيها .. ثم لما إرتقى الله تعالى بالحياة إلى مرتبة الإنسان زاد عنصر جديد على إرادة الحياة ، هذا العنصر هو (إرادة الحرية) ، وهو عنصر يختلف عن إرادة الحياة إختلاف مقدار ، لا إختلاف نوع ، ثم سير الله تعالى البشر بإرادة الحياة، وإرادة الحرية معاً ، وبذلك أصبح تسييره إيانا غير مباشر، وتدخله فى أمرنا ، هو من اللطف، والدقة، بحيث تورطنا فى الوهم الأكبر بأننا نملك إرادة حرة ، مستقلة عن إرادة الله، تعمل وتترك من عندها .. وجاء دين الإسلام الخاص ليحررنا من هذا الوهم، وهو بتحريرنا يجعل من إرادتنا المتوهمة ، إرادة حقيقية، لأنها تصبح من إرادة الله الحقيقية.. ورد الإرادة هذا، للمريد الواحد، هو الذى يكون به رد الأخلاق إلى أصل واحد، وهو الذى به يتم التواؤم مع البيئة الطبيعية، والتى هى بدورها ، قد ردها العلم المادى التجريبى إلى أصل واحد ، حيث توصل إينشتين، فى نظريته ـ النسبية الخاصة ، الى التكافؤ بين المادة والطاقة أو القوى ـ وحين ينتهى بنا العلم التجريبى المادى إلى رد جميع ظواهر الكون المادية إلى وحدة هى "الطاقة" ، يبرز لنا من جديد ، العلم الروحى التجريبى ـ الدين ـ ليقودنا فى شعاب الوادى المقدس، الذى يقع وراء المادة ، ونستطيع بمواصلة البحث والإستقصاء ، فى العلم التجريبى الروحى ، أن نرى هل يمكن رد ظواهر الأخلاق البشرية إلى أصل واحد، كما ردت ظواهر الكون المادى إلى أصل واحد، ويتم الإتساق، والتلاؤم، بين سلوك البشر، وبين البيئة المادية التى يعيشون فيها، وينتهى بذلك القلق الحاضر ، ويعم الأرض السلام.
يقول الأستاذ محمود ، من كتابه ـ الإسلام: (قلنا فى صدد هذا السفر ، أنا نريد أن نرى ، هل يستطيع العلم التجريبى الروحى أن يرد ظواهر الأخلاق البشرية إلى أصل واحد، كما رد العلم التجريبى المادى ظواهر الكون المادى إلى أصل واحد، فيتم بذلك الإتساق ، والتلاؤم، بين الأخلاق البشرية، والسلوك البشرى ، وبين البيئة المادية التى يعيشون فيها ، وينتهى بهذا التلاؤم، هذا النشوز الذى بدد المساعى البشرية أيدى سبا،، وقطع أرحام الإنسانية بين الناس؟ ولعله قد إتضح ، شيئاً ما، أن الإسلام يقوم، منذ الوهلة الأولى، على تسليم الإرادة البشرية المحدثة، إلى الإرادة الإلهية القديمة "ومن يسلم وجهه إلى الله ، وهو محسن ، فقد إستمسك بالعروة الوثقى" وتجربتى الخاصة لم تدع لى مجالاً للشك فى صحة هذا الأمر. ومن ثم فإنه عندى أن جميع ظواهر السلوك البشرى، من خير وشر ، يرجع إلى أصل واحد هو "إرادة الله القدير" . وفى الحق، ليس الشر أصلاً ، وإنما الأصل الخير، وما الشر إلا نتيجة جهلنا الذى أوهمنا أننا نستقل بإرادة، فإذا إرتفع هذا الجهل بالتجربة الروحية ، فسيصبح عملنا تجويد الواجب المباشر، والإنشغال بإحسانه، وتجويده، عن التمنى، والتأسف، وبذلك نحقق السلام ، كل مع نفسه، ومن ثم يتحقق فى الأرض السلام.)
فالأخلاق إذن أمر يتعلق بحسن التصرف ، فى الإرادة البشرية المحدثة، والمحدودة، إزاء الإرادة الإلهية القديمة، والمطلقة وذلك بالتخلى عن الوهم الذى يحيط بالأولى ، إبتغاء الثانية، ولما كانت الثانية مطلقة ، فقد جاء تعريف الأخلاق ، فى سبحاتها العليا بأنها حسن التصرف فى الحرية الفردية المطلقة.. فقمة الأخلاق هى أخلاق الله التى قال عنها المعصوم "أحسن الخلق خلق الله الأعظم" .. فالأخلاق البشرية تبدأ من بدايتها البسيطة، ولكنها تستهدف هذه الأخلاق الإلهية ، كما جاء التوجيه، "تخلقوا بأخلاق الله، إن ربى على سراط مستقيم" وقوله تعالى "كونوا ربانيين ، بما كنتم تعلمون الكتاب ، وبما كنتم تدرسون" .. وفى هذا الإطار يجئ تعريف الأستاذ محمود للأخلاق ، فى الإسلام .. فهو يقول مثلاً (الأخلاق فى الإسلام ليست هى الصدق، والأمانة ، ومعاملة الناس بما تحب أن يعاملوك به ، إلى آخر هذه الفضائل السلوكية المحمودة .. وإنما هذه نتائج الأخلاق، وثمرتها، ولكن الأخلاق هى حسن التصرف فى الحرية الفردية المطلقة.. وحسن التصرف هذا بإزاء الخالق أولاً ، والخلق ثانياً، وفى نفس الأمر..) - أسئلة وأجوبة الأول - "بإزاء الخالق" بأن تتصرف وفق مرضاته.. وبإزاء الخلق ، بأن تحسن إليهم وتراعى فيهم حكمة خالقهم، من خلقهم .. وهنا تدخل الغائية ، فأنت لا تستطيع أن تحسن التصرف إزاء خلق الله ، إلا إذا علمت غايته تعالى، من خلقهم ، وهذه هى حكمته.. وهذا يجعل الأخلاق مربوطة ، ربطاً تاماً ، بالعلم، وبالمسئولية، يقول الأستاذ محمود: (فاذا اتضح لك ان الاخلاق هى حسن التصرف فى الحرية الفردية المطلقة، أصبحت الأخلاق مسئولية واضحة.. وأمام من؟ أمام الناس، وأمام نفسك ، وأمام الله، الذى يرى خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وفى آن واحد، وبغير تسلسل...) - اسئلة الأول -