إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (٧)

خالد الحاج عبد المحمود


بسم الله الرحمن الرحيم

الأستاذ محمود محمد طه في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته



(7)
الأخلاق

إن جميع القضايا التى نتناولها ، نحاول فيها رد الامور الى أصولها، ثم ربطها بالواقع .. والأصول التى نتحدث عنها، هى اصلين اثنين، هما: طبيعة الوجود والطبيعة الانسانية.. والطبيعة فيهما، فى الحقيقة طبيعة واحدة ، وإنما يجئ التفريق لضرورة التفهـيم، وتمييز الأشياء عن بعضها البعض.. فما من قضية من قضايا الوجود الإنسانى، إلا وهى مرتبطة بعلاقة الفرد بالكون، وعلاقة الفرد بالمجتمع.. وأى قضية يتم تناولها دون هذا المستوى ، تكون قضية منبتة، منقطعة الصلة عن أصلها، وعن جذورها، وهى لذلك لا تقوم إلا بصورة شائهة، وقاصرة قصوراً مزرياً، يفقدها قيمتها ومعناها .. وموضوع الأخلاق موضوع أساسى بالنسبة للوجود الإنسانى، فهى ـ الأخلاق ـ من أكبر لوازم هذا الوجود .. والحديث عنها لاينفصل عن حديثنا عن الحياة ، والفكر، والحرية .. وكجميع القضايا التى تناولناها، أو التى سنتناولها، الأساس فيها (التوحيد) كإطار توجيه ونموذج إرشاد.. والأخلاق، فى إطار واقعنا الحاضر ـ واقع سيادة الحضارة الغربية ـ تشكل جوهر حاجة الإنسانية، وقمة ما يفرضه الواقع من تحد .. فلا بد من تنـاولها فى الإطار الذى يستجيب لتحديات هذا الواقع، فيرتفع بها إلى المستوى الرفيع والدقيق، الذى يتناسب مع الواقع.
نحب أن ندخل على موضوعنا ، من المنطلق الذى طرحه، المفكر الأمريكى د. ولتر ستيس Walter T. Stace ـ "1886-1967" من كتابه (الدين والعقل الحديث) ... وذلك لأنه فى تقديرنا، حدد المنطقة الجوهرية، التى يمكن الإنطلاق منها، وهى فى نفس الوقت تربط قضية الأخلاق بالواقع الحضارى، ربطاً أصولياً.. فهو قد تناول قضية الأخلاق من زاوية، ما أسماه، النظرة الدينية، والنظرة العلمية للعالم.. أو التفسير السببى، والتفسير الغائى، للأشياء .. وقد تابع المؤلف، العقل الحديث منذ القرن السابع عشر فى أوروبا، وإلى العصر الحديث .. فهو يقول: (عندما خلق الله العالم جعل لكل شئ غرضاً أو غاية، كما قلنا، ومن هنا سيطر التفسير الغائى للظواهر ـ الذى يفسرها من منظور الغرضية على إنسان العصر الوسيط ـ وهو يعارض فى العادة التفسير العلمى أى التفسير الآلى أو الميكانيكى، الذى يفسر الأشياء بتحديد أسبابها لا أغراضها .. ويمكن القول بأن التفسير العلمى أو الآلى هو نفسه تفسير الظاهر عن طريق القوانين الطبيعية لأن التفسير بالقوانين يعنى التفسير بالأسباب) .. ويقول (التفسير الآلى أو الميكانيكى ، يدفع الحدث من الخلف ، أما التفسير الغائى فإنه يجره من الأمام .. وقد ذهب مفكرون إلى أن هذين التفسيرين متعارضين) .. والمؤلف ، على خلاف هؤلاء المفكرين ، لا يرى تعارضاً بين التفسيرين.. وهو يرى ، على خلاف المفكرين الذين تعرض لهم ، وإختلف معهم ، إن الغائية ليست لاحقة ، وإنما هى سابقة ، فهى تبدأ من مجرد نية العمل .. ويرى ستيس ، ونحن نوافقه على ذلك ـ إن التفسير الغائى ، والآلى على جانب كبير من الأهمية لفهم تاريخ الفكر البشرى ، فأحد المتعارضات الأساسية بين العقل فى العصر الوسيط الأوروبى ، والعقل فى العصر الحديث ، هو أن الأول سيطر عليه الدين ـ الذى ارتبط بالغائية ـ بينما سيطر العلم الذى ارتبط بالآلية على الثانى ـ العقل الحديث ـ وهو يرى أن تصور العالم الذى تحكمه الغرضية ، ليس قاصراً على المسيحية، وإنما هو تصور قديم، تقوم عليه جميع الأديان .. ونحن نذهب إلى أبعد مما ذهب إليه ستيس، فنقول أن مستقبل الفكر البشرى، والحياة البشرية، مرتبط بالتوفيق والربط بين الفكر الغائى والفكر الآلى، على أن يوضع كل منهما فى موضعه، ويتم النظر إليهما نظرة تكامل، وليس نظرة تضاد، كما هو الحال عند مفكرى الغرب الذين تعرض لهم ستيس .
ونحن هنا ، مايعنينا من كتاب ستيس هو الجانب المتعلق بالأخلاق .. فهو يقول فى هذا الصدد: (وهنالك فكرة أخرى ترتبط بالصورة الدينية الغائية عن العالم ـ التى سيطرت على عقل الإنسان فى العصر الوسيط ـ وهى القول بأن العالم يمثل نظاماً أخلاقياً ، وهى فكرة رغم عمومها ، بالغة الأهمية فى التاريخ العقلى والروحى للجنس البشرى . وهى تعنى الأخذ بوجهة النظر التى تقول أن القيم الأخلاقية موضوعية وليست ذاتية ، كما يقول فيلسوف مثل توماس هوبز عندما ذهب إلى أن الخير هو ما يسر الإنسان والشر هو ما يحزنه، وهى نظرةٌ لاتتفق بتاتاً مع العصر الوسيط ، حتى فى صورتها التى تطورت بعد ذلك إلى ما يسمى بالمذهب النسبى.
إن القول بموضوعية الأخلاق يعنى النظر إلى القيم الأخلاقية على أنها لاتعتمد على رغبات البشر ومشاعرهم ، بل تعتمد على شئ خارج الذهن البشرى .. وأبسط أنواع الموضوعية هى القول بأن الخير والشر يعتمدان على إرادة الله..)
ويقدم ستيس ثلاثة إعتراضات أساسية على القول بنسبية الأخلاق ، هى:
1) لو كانت قيمة الشئ ذاتية ، لكان معنى ذلك أن الحكم بأن شيئاً ما له قيمة أو لا، مسالة ترجع إلى الذوق لا أكثر ولا أقل .
2) تتضمن الذاتية القول بأن أى حكم قيمي لا هو صادق ولا هو كاذب .
3) لو سلمنا بصحة النزعة الذاتية لاستحال القيام بأى مناقشة عقلية بصدد الموضوعات الأخلاقية والجمالية .
ويرى ستيس أن موضوعات مثلاً ، كاستهجان الرق، وكراهية قتل الأطفال، أو وأد البنات أحياء ......إلخ لا هى مسألة ذوق فردى ، ولا هى تتوقف على رأى الجماعة .. وهو ينتهى إلى أن القيم الأخلاقية لابد أن تكون موضوعية ، ترتبط بالغرضية الكونية التى يفترض فيها الإستغلال عن أفكار البشر ورغباتهم .. وهو يرى أن (القول بأن العالم نظام أخلاقى ـ أن القيم الأخلاقية موضوعية ـ ليس مهيمناً فحسب فى فكر العصر الوسيط ، وإنما هو نظرة يعتنقها كل إنسان متدين ، عن وعى أو غير وعى ، فى أى مكان وأى زمان ، لأنها جزء جوهرى وأساسى من الموقف الدينى .. فالبسطاء من الناس يؤمنون بأن الخير لابد أن ينتصر وأن للحقيقة قوة داخلية تمكنها من الفوز على الباطل .. ويستند مثل هذا الاعتقاد على شعور غامض بأن العالم نظامي أخلاقي ..) .. ويرى ستيس أنه لا توجد أى رابطة منطقية بين الاكتشافات العلمية وأى مشكلة أخلاقية ، وأن نيوتن الذى يعتبر أبو العلم الحديث كان متديناً ، ورغم ذلك فإن سيادة نظرة العلم الحديث للكون ، هى السبب فى فقدان النظرة التى ترى النظرة الغائبة بالنسبة لحوادث الطبيعة ، وبالتالى فقدوا النظرة الموضوعية للأخلاق ، وسادت بينهم النظرة الذاتية واعتبار الأخلاق موضوع نسبى، وفى اعتقاده السبب فى ذلك سبب سيكولوجى، أكثر منه سبب عقلى . وهو يقول مثلاً: (إن أول شئ ينبغى ملاحظته هو أنه لاتوجد رابطة منطقية على الأطلاق بين المكتشفات العلمية وأى مشكلة أخلاقية.. أتكون واجباتنا اكثر صدقاً وأمانة وأشد إخلاصاً وعدالةً ـ لو أخذنا بقانون الحركة عند جاليليو بدلاً من قانون الحركة لأرسطو؟! ومع ذلك ، فعلى الرغم من أنه لا توجد رابطة منطقية ، فقد كان أثر المفاهيم العلمية الجديد سيئاً ، لأنها هدمت الإيمان بأن العالم يمثل نظاماً أخلاقياً .. لقد كان العقل الحديث، منذ نشأة العلم ، على إستعداد للسير بهذا الإتجاه ..)، ويعتقد المؤلف: (أن مفهوم القيمة يرتبط بمفهوم الغرض والغاية ، فما له قيمة ، لا بد أن تكون له قيمة لغرض ما، فإذا اعتقد الناس فى غرضية العالم فإن ماهو خير أخلاقياً "أوله قيمة أخلاقية" يرتبط بذلك الغرض ـ فاذا انهارت غرضية العالم إنهار معها القول بأن العالم نظام أخلاقى ولقد تسبب علم الطبيعة عند نيوتن بالفعل فى فقدان الناس للإيمان الحقيقى بالغرض من ظواهر الطبيعة ، ومن ثم فى موضوعية الأخلاق أو القول بأن العالم يمثل نظاماً أخلاقياً ، وهكذا إرتبطت القيم بأغراض البشر ، وذلك هو المذهب الذاتى أو ذاتية الأخلاق التى ترتبط بالنسبية ..!)
وقد ناقش المؤلف أثر النتائج التى توصلت إليها ثورة العلم منذ القرن السابع عشر على ميدان الفلسفة.. فهو يرى أن الحقبة من العصر الحديث وحتى الفكر المعاصر تسيدتها فلسفات عبرت عن النظرة العلمية للعالم ، مع وجود فلسفات أخرى تمثل ردود أفعال لمصلحة النظرة الدينية، إلا أن هذه الأخيرة، كانت أضعف، ولا تمثل التيار العام، الذى ظل سائداًَ إلى اليوم، والذى تمثله الفلسفات مثل فلسفة ديكارت ، وهوبز ، وكونت ، وفاينجر والوضعيين المناطقة من امثال شليك وكارنب ....إلخ.. وهو يرى أن الجو العام ، في غير مجال الفلاسفة ، وعند المواطنين العاديين ، من الناحية العملية تسود فيه النظرة العلمية الآلية للعالم ، وتغيب إلى حد كبير النظرة الغائية ، وهو يرى أنه على الرغم من أن الأخلاق فقدت مرتكزها الأساسى، إلا أنها لم تنهار تماماً ولا يزال هنالك بعض التماسك فى الجانب الأخلاقى.
نحن نوافق ستيس على أن النظرة الغائية للكون تمثل المبدأ الأساسى للأخلاق الموضوعية، إلا أننا نرى أنها شرط ضروري ولكنه ليس كافياً وحده.. فلكي تجد الأخلاق أساسها الموضوعى والعملي، والذى يولد الدافع الذاتى لإلتزامها ، لابد لهذه النظرة الغائية للكون، أن تكون مرتبطة بفهم محدد لطبيعة الكون، والطبيعة الإنسانية، يعطى الغايات الأخلاقية إطار التوجيه الضرورى لها، ويبعث على الإلتزام بها عن قناعة .. ونحن لا نجد هذا الإطار، ونعتقد أنه لا يمكن أن يوجد إلا فى الدين، أو فى إطار (التوحيد) الذى يقوم عليه الدين، كما بيناه فى كتاباتنا هذه .. وستيس لا يختلف معنا، من حيث المبدأ، فى هذا الأمر، بل على العكس هو يجعله حتمياً من حيث المبدأ ولكنه لا يملك تصوراً دينياً بعينه، وانما يتحدث عن الدين بصورة عامة، فهو يقول عن النظرة الدينية مثلاً: (ترى النظرة الدينية إلى العالم أن هنالك غرضاً فى تخطيط الأشياء ، لا بد أن تتلاءم معه الحياة الإنسانية بطريقة ما، يكون للحياة الإنسانية ذاتها معنى بوصفها جزءا من الخطة الكونية العامة. فالعالم يحكمه فى النهاية- مهما يعطى معنى هذه العبارة- لا قوى فيزيقية عمياء، بل قوى روحية تتصورها معظم الديانات تحت إسم الله.. وفضلا عن ذلك فإن العالم عبارة عن نظام أخلاقى ينتشر فيه الخير والعدالة رغم جميع المظاهر التى تدل على العكس..) هذا قول رائع، ولكنه يترك الأسئلة الأساسية بلا إجابة، وإجاباتها ليست مسئولية ستيس، فهو ليس صاحب دعوة دينية، وإنما هو فيلسوف، وإنما الإجابة على هذه الأسئلة تقع على عاتق صاحب كل دعوة دينية، إو غير دينية تطرح نفسها للناس.. فعلى، صاحب مثل هذه الدعوة أن يبين بجلاء نظرتها حول الغاية من الكون، ومعنى الحياة الإنسانية، وكيف تنسجم مع هذه الغاية، بل وطبيعة القوى التى أوجدت هذه الغاية، ودورها فى تحقيقها، وكيفية تحقيقها، والمنهاج العملى التى اختطته هذه القوى لتحقيق غاياتها إلى خلاف ذلك من الأسئلة الأساسية.. وكل هذه، هو ما نحن بصدده منذ البداية، فى كتاباتنا هذه، ولذلك ركزنا، ونركز، بشدة، على (التوحيد) كإطار للتوجيه، ونموذج للإرشاد، لأنه وحده فى تقديرنا، الذى يعطي الإجابات الشافية لهذه الأسئلة الأساسية، ويعطي الإطار لتوجيه الحياة الأنسانية والمعنى الذى يجعلها منسجمة مع الخطة العامة حسب عبارات ستيس.